السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(161) قوله تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ...} الآية 148
تاريخ النشر: ٠٩ / جمادى الآخرة / ١٤٣٨
التحميل: 490
مرات الإستماع: 1095

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- سؤال هؤلاء الربيين: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين [آل عمران:147] ذكر بعد ذلك إجابته لسؤالهم ودعائهم فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين [آل عمران:148] أعطى هؤلاء الصابرين جزاءهم في الدنيا بالنصر والظفر والتمكين؛ لأنهم سألوا الله -تبارك وتعالى- التثبيت والنصر على الأعداء، فقالوا: وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين [آل عمران:147] فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وذلك بالجنات والنعيم المُقيم، وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين كل من كان متحققًا بالإحسان متصفًا به، الإحسان مع الله -تبارك وتعالى-، ومرتبته العُليا: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وكذلك أيضًا الإحسان إلى الخلق، وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين فأطلقه هنا، ولم يُقيد هذا الإحسان بأنه الإحسان في معاملته، أو الإحسان مع خلقه، فجاء بهذا الإطلاق، فيكون معناه عام.

ولاحظ أنه أظهر الاسم الكريم، فقال: فَآتَاهُمُ اللّهُ ولم يقل: فآتهم ثواب الدنيا، هم سألوا الله فقالوا: (ربنا) فلم يقل: فآتاهم، فيُفهم المراد، ويُكتفى بالضمير، ولكنه جاء بالاسم الظاهر هنا؛ ليكون ذلك أعظم وأفخم، وكذلك أيضًا يدل على عِظم الجزاء؛ لأنه من الله، وما كان من الله فهو عظيم، فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا بما ذُكر، ويدخل فيه عطاياه الدنيوية الأخرى من حُسن الذكر وانشراح الصدر، وكذلك أيضًا اليقين، لكن لما كان ثواب الدنيا مُكدرًا مشوبًا، فإن الدنيا ليس فيها لذة خالصة من الكدر من كل وجه، إنما توجد اللذة الخالصة الكاملة في الجنة، وهذا المعنى ذكره جمع من أهل العلم، فكل لذات الدنيا فيها كدر، فأطيب الطعام والشراب وأطيب المساكن والنُزه وما إلى ذلك، كل هذا لا يخلو من كدر وتعب ولون من المعاناة، إما قبله أو معه أو بعده، وهذا أمر معلوم، فهذه الدنيا دار الأكدار؛ ولهذا قال: فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا لكن في الآخرة، قال: وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ فخصصه بالحُسن، فهذا يدل على فضله وعلى رفيع درجته وعلى تقدمه على ثواب الدنيا، وأنه هو المُعتد به، فهو في غاية الحُسن، لا كدر فيه ولا شوب، فإذا قال الله عن هذا النعيم الأخروي: وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ فما ظنكم بهذا الجزاء الذي يكون لأهل الإيمان؟!

وهذا يدل على قلة شأن الدنيا بالنسبة للآخرة، فهي ليست بشيء، فلم يأتِ الجزاء مقيدًا بهذا الوصف، فهذا يبعث العاقل على الزُهد فيها، وأن لا يتعلق بها، ولكن لا بد له منها، لكن أن تملأ قلبه، وتشغل فكره، وأن تكون هي غايته، فهذا أمر لا يُحمد ولا يُحسن، فهي قصيرة متقضية، ليست بشيء بالنسبة للآخرة لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء[1]، جناح بعوضة، والبعوضة لا شأن لها، فكيف بجناحها؛ فلذلك وصف الله متاعها بأنه متاع الغرور، فهي زائلة متقضية، كالأحلام، والآخرة باقية ونعيمها لا ينقضي ولا ينفد ولا يزول.

وقوله -تبارك وتعالى-: فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ لاحظ التعقيب بالفاء يدل على المُباشرة، ولكن المُباشرة في كل شيء بحسبه، وتدل على ترتيب ما بعدها على قبلها، يعني رُتِّب على هذا الدعاء والسؤال الذي سألوه: أن آتاهم الله ثواب الدنيا، وحُسن ثواب الآخرة، وقدم ثواب الدنيا؛ لأن الدنيا قبل الآخرة من جهة الزمان، وأما من جهة سؤالهم، فقد سألوا ما يتعلق بالآخرة أولاً، فقالو: اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا ثم قالوا: وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين [آل عمران:147] حتى هذه المطالب التي في الدنيا هي من المطالب الشرعية، التي يكون بها إعزاز الدين، وليست مجرد رغبات نفسية محضة، ومصالح شخصية، وإنما تتعلق بالدين ونصره وإعزازه، والله -تبارك وتعالى- كثيرًا ما يذكر الإنذار والوعيد، وما عاقب به أهل السيئات في الدنيا، وما أعد لهم في الآخرة، فيقرن بين هذا وهذا في مقام الوعيد، وقد يذكر في السورة وعد الآخرة فقط؛ لأنه الأعظم والأهم، فهي دار القرار، وقد يذكر ثواب الدنيا وثواب الآخرة، كما في هذه الآية، فذلك يكون جزاء لأهل الإيمان، فيُعطيهم في الدنيا، ويُعطيهم في الآخرة.

وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين فيه إثبات صفة المحبة لله ، كما ذكرنا سابقًا، وهذا له أثره على العاملين، وأهل الإيمان، فإذا علموا أن الله -تبارك وتعالى- يُحب من اتصف بهذه الصفة، شمروا عن ساعد الجد، وبذلوا ليُحققوا هذا الوصف، وهو الإحسان.

وقوله وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين أيضًا يدل على أن أولئك الذين وصفهم من الربيين كانوا من المحسنين، حيث جمعوا بين الصبر والثبات والاحتساب والبذل في سبيل الله -تبارك وتعالى-.

فينبغي على المؤمن أن يتتبع مثل هذه الأوصاف في كتاب الله -تبارك وتعالى-، وفي سُنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-؛ ليتخلق بها؛ وليكون ممن يُحبهم الله -تبارك وتعالى-، فمن طلب محبة الله، فليتحقق بالأوصاف التي يُحبها، فهذا هو الطريق.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي في أبواب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله -عز وجل- برقم (2320) وصححه الألباني.

مواد ذات صلة