الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلما ذكر الله -تبارك وتعالى- بأن ما وقع لأهل الإيمان في يوم أُحد أن ذلك بقدر الله -تبارك وتعالى- وكان له في ذلك الحكمة البالغة فيتميز أهل الإيمان: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِين، وينكشف أهل النفاق: وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُون [آل عمران:167].
قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك يصف هؤلاء المنافقين: الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين [آل عمران:168]، كانوا يقولون كما في الآية السابقة: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ، وهي مقالة كاذبة أكذبهم القرآن فيها، ثم ذكر مقالتهم الأخرى الباطلة: الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ قعدوا عن القتال وشهود المعركة، لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا لو أطاعونا بالتخلي عن الجهاد مع رسول الله ﷺ وشهود الغزوة معه ما قُتلوا، لو أخذوا بمشورتنا ورأينا ونصحنا لهم لبقوا على قيد الحياة.
قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين، ادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين في دعواكم أنهم لو أطاعوكم ما قتلوا، وأنكم قد نجوتم من الموت بفضل قعودكم وتخلفكم عن رسول الله ﷺ.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة: الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا أن هذا يدل دلالة صريحة على أن هؤلاء لا يؤمنون بالقدر وهو من أركان الإيمان، لا يؤمنون بقدر الله ؛ لأنهم أصلاً كفار في الباطن، هم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لا يؤمنون بملائكة الله وكبته ورسله وقدره خيره وشره، فهذا صريح: لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا، يعني: أنهم بذلك يدفعون قدر الله -تبارك وتعالى- بحسن تدبيرهم في زعمهم الباطل، لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا فرد الله -تبارك وتعالى- عليهم بهذا الرد: قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين، إن صدقتم في هذه الدعوى فادفعوا الموت عن أنفسكم، فالقدر لا يُنجي منه الحذر، والمقتول ميت بأجله، ومن مات حتف أنفه على فراشه فذاك أجله، وأجل الله -تبارك وتعالى- لا بد أن يقع كما قدره الله دون أن يتقدم أو يتأخر، لا يمكن أن يتقدم الأجل بسبب اندفاع أو سوء تدبير أو تهور، كما أنه لا يمكن أن يتأخر الأجل بحذق الطبيب أو بحصافة الإنسان أو بكمال صحته وعافيته؛ فيموت وهو أصح الأصحاء إذا جاء الأجل، ليس به بأس، يتحدث بين أحبابه بين أهله، بين أزواجه، بين أولاده ليس به عِلة وفي لحظة -اللحظة المحددة- قالوا: سقط، أرادوا أن يُدركوه أن يُسعفوه ولكن هيهات: كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي وَقِيلَ مَنْ رَاق [القيامة:26-27]، هل من طبيب؟! أين الطبيب؟
فالراقي عندهم في السابق يُقال: للطبيب، للمُعالج، أين الطبيب، وَقِيلَ مَنْ رَاق وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاق [القيامة:27-28]، علم استيقن أنها نهاية العهد بهذه الحياة الدنيا: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاق إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاق [القيامة:29-30]، فهنا يُجازى على أعماله: فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32]، كيف تكون حاله؟ كيف يكون مآله؟
فهذه الآجال حتم لا يمكن أن تتبدل، لا يُقدمها اعتلال ومرض، ولا يؤخرها عافية وحذر، ولذلك تجد الرجل بين الجماعة من الناس في مركب واحد تتخطفهم المنايا بحادث سير وهو لا يُصاب بأدنى أذى، لماذا هؤلاء هشموا وقضوا وهذا بقي من غير أذى؟! وقد ينزل به من الضُر سواء كان ذلك بمثل هذه الوقائع والحوادث التي تجري، أو كان ذلك بسبب مرض أو نحو ذلك فيُشرف على الهلكة، وييأس منه الأطباء، ولكن يعيش آمادًا طويلة، ويموت الطبيب، ويموت من يموت من قرابته ممن كانوا يُشفقون عليه، ويموت من الأصحاء من أصحابه وهو على قيد الحياة عادت له حياته وعافيته، وقد يبقى في حال من الاعتلال الشديد ويغيب وعيه، ويبقى السنين الطويلة ينتظر هذا الأجل ويموت كثير من الأصحاء الذين كانوا يعودونه، ولكنه ينتظر أجله، هذا كله مُشاهد.
هناك حالات كتب فيها الأطباء بأنها حالات ميؤوس منها، وقالوا لذويه: انصرفوا به يعيش بين أهله لربما أيامًا، بل قال بعضهم: إنه لا يُدرك يومه الذي بعد ليلته هذه ويُدعى الأبناء، ويُجمع الأهل ويأتون إليه يجتمعون عند رأسه في المستشفى، ثم يعيش مدة طويلة، هذا كله وقع وموجود ويحصل وتعرفون أمثلة وشواهد، هذا لا يخفى، وقد يكون هذا الإنسان في حال من الضعف طيلة حياته، ولكنه يعيش حياة أطول من أقرانه وخِلانه وأصحابه الذين كان يُعاشرهم، وينفرد بعدهم وقد ماتوا وقضوا جميعًا الواحد بعد الواحد، وهذا الذي كان هو الأضعف بقي وطال عمره، وكانوا يظنون أنه في أي ساعة يودع ويرحل.
هذه آجال خُلاصتها لا تقلق، فالمرض لن يُقدم الأجل لكن على الإنسان أن يبذل الأسباب الاحتياط الحذر، ترك التهور، ترك التفريط، هذا كله من باب الأسباب، لكن أن تتعلق النفس بالأسباب ويظن أنه ينجو بهذا الاحتياط الواقع أنه لا ينجو إذا جاء قدر الله ، لكن هذه الأسباب قد تكون من جملة ما جعله الله سببًا لسلامته، من لم يكشف صفحة القدر لا يدري، فعليه أن يعمل بالأسباب ويتطبب بطب الأطباء: تداووا عباد الله[1].
فقد يجعل الله السبب في عافيته بهذا الدواء، وقد يذهب إلى أحذق الأطباء ويرحل آلاف الكيلو مترات متجاوزًا القارات حتى يصل إلى أمهر الأطباء ويرجع بتابوت، وآخر يبقى في باديته يشرب من ألبان الإبل ولربما لا يرجع إلى الأطباء ولا يتعاطى طبهم ويبرأ، فهذا كله عند الله؛ خُلاصته لا تقلق الآجال مكتوبة، فهذا الذي سافر هذا الذي ذهب، هذا الذي وقع له مكروه، هذا الذي سافر بالليل ووقع له حادث، ما قبل النصيحة، ما سمع كذا لا تذهب من هذا الطريق، اذهب من ذاك الطريق، هذا لا حاجة إليه، لابد من بذل الأسباب نعم لكن لا ينبغي أبدًا أن يقول الإنسان لو أني فعلت كذا، لو أنه فعل كذا فهذه التي تفتح عمل الشيطان.
لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا فهذه التي تقطع القلب وتُضاعف المصيبة والحُزن كأن شيئًا يمكن أن يُستدرك، لو أن الإنسان عمل بهذا أو ذاك، أبدًا، فالله رد عليهم بهذا الرد الواضح الصريح: قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين فالموت يُصيب الشجاع.
لو أن عبدًا مُدرك الفلاح | لناله مُلاعب الرماح[2] |
ويُدرك الجبان الهلع الرعديد كل هؤلاء يموتون بآجالهم، فذلك لا يرده حرص ولا حذر ولا يؤجله جُبن وقعود، والواقع بُرهان ذلك.
ثم في هذه الآية الكريمة الذم والعيب لهؤلاء المنافقين الذين جمعوا بين قُبح الفعل، وقُبح القول: الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ، هذا القول، لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا، وقُبح الفعل، وَقَعَدُواْ، فهؤلاء إنما يُثبطون غيرهم عن الخير والمعروف والطاعة وليس أكثر من ذلك، ولو أطاعهم أولئك لماتوا بلحظتهم، الذين قتلوا أعني السبعين في وقعة أُحد لو ما خرجوا إلى وقعة أُحد سيموتون، وفي نفس اللحظة، وفي نفس المكان، هذه عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر: قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، لابد، ولو قعدوا لبرز يُخرج الله له حاجة فينطلق إليها فيموت في نفس المكان الذي قُدر له.
هذا أمر ينبغي أن يكون عقيدة عند المؤمن، لا تهتز ولا تضطرب، وإذا كان كذلك استراح واندفعت عنه الوساوس، وخواطر الشيطان والقلق وترقب المكروه في المستقبل: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون [التوبة:51]، فمولاك لن يُضيعك، ولكن الأجل لا بد أن يأتي.
فالمسألة مسألة وقت وإلا إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُون [الزمر:30]، ولهذا قال بعض أهل العلم: هذه الآية نعت للناس أنفسهم وأرواحهم، وفيها تسلية لهم: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُون [الزمر:30]، أخبرهم لكن ينتظرون فقط، وكما ترون في كل فرض يُصلى على مجموعة سبعة ثمانية تسعة في مسجد واحد، هؤلاء السبعة جاءوا من كوكب آخر! هم من بيننا، ولابد أن نكون يومًا من بين هؤلاء، وهل أحد عنده شك؟!
لا شك في هذا، لكن كما جاء عن علي حيث ذكر أنه "ما رأيت يقينًا أشبه بالشك من الموت"[3]، الكل يتيقن أنه سيموت لكن كأنه شك؛ ولأن الإنسان لا يتعظ ولا يعتبر وينطلق في غفلة، وينسى أنه سيأتي الموت لا محالة.
فهذا رد للحق في نصابه، وتكذيب لهؤلاء المنافقين وتثبيت لقلوب المؤمنين ما يورث الراحة والطمأنينة والسكينة، وطيب العيش؛ لأن حياة الإنسان إذا كانت مترددة بين الحزن على ماض والقلق على مستقبل فهي شقاء، ولذلك نفى الله عن أهل الجنة الخوف، والخوف قلق في المستقبل، توقع المكروه في المستقبل، فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون [البقرة:38]، والحزن للماضي، يُعيد شريط الذكريات المؤلمة فيحزن، وهذه الآية: قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ، هذا تحدي لهؤلاء وذلك لا يمكن أن يكون.
وكذلك أيضًا: فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين فهذا أشبه ما يكون بالاستخفاف بهؤلاء المُشيرين الذين هم عند أنفسهم من أهل العقل والحصافة وحُسن النظر، وبُعد هذا النظر، وسعة الأفق: قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين ادفعوه، ادفعوا أسبابه حتى لا تموتوا.
فهذا احتجاج عليهم ورد لمقولتهم، ومثل هذا الأصل ينبغي أن نتذكره دائمًا وأن لا نغفل عنه فهو في غاية الأهمية، فهذا القرآن يُعالج النفس من جميع جوانبها، ويطرد عنها كل ما يؤثر عليها سلبًا، وهذا الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق والكفار، فأولئك لا عزاء لهم ولا إيمان ولا رجاء لفضل الله ورحمته، ولا يعرفونه بأسمائه وصفاته، ولا يؤمنون بقدره، وتصور من كان بهذه المثابة، ولا صلة مع الله: لا صلاة، ولا ذكر، ولا عبادة، كيف تكون روحه وحاله وقلبه؛ كورقة تكفأها الرياح، فهو ضائع مُشتت يعيش في حسرات: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا، هذا في الدنيا ولا بد: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا، وبقدر هذا الإعراض يكون له من الضنك والمعيشة الضنك؛ لأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، بقدر الإعراض يكون للعبد من الضنك في معيشته، فإذا زاد زاد ضنكه، وإذا خف خف ضنكه، هي هكذا المعادلة ما تحتاج إلى طبيب نفسي، ولا تحتاج إلى عقاقير، ولا تحتاج إلى إخصائي، بهذه المعادلة الواضحة السهلة الإعراض عن ذكر الله يحصل للنفس التشتت والضياع والوحشة.
أسأل الله أن يؤنس وحشتنا بذكره وطاعته وألطافه، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه ابن ماجه، أبواب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، برقم (3436)، وأحمد في المسند، برقم (18455)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل المطلب بن زياد، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2930).
- البيت للبيد، انظر: ديوان لبيد بن ربيعة العامري (ص:30)، وشرح شواهد المغني (2/663).
- الأثر من قول الحسن، كما في العاقبة في ذكر الموت (ص:92).