الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(206) قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ...} الآية 185
تاريخ النشر: ١٥ / شعبان / ١٤٣٨
التحميل: 386
مرات الإستماع: 993

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما سلى الله -تبارك وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- بجملة من الأمور كان من آخرها أنه قد جرى التكذيب لأنبياء كرام ورسل عِظام، ولم يكن أول من كُذب، قال الله بعد ذلك: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور [آل عمران:185]، فهذا فيه تسلية للنبي ﷺ كما سيأتي فهو في هذا السياق كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ لا بد لها من ذوق الموت، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فإذا ماتوا صاروا بعد ذلك إلى الله -تبارك وتعالى-، بعد البرزخ يقومون للقيامة، فيوفون أجورهم على أعمالهم هناك من غير نقص.

فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ، أُبعد، وخُلص، ونُجي من النار، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ، فقد نال المطلوب الأعظم، وحصل الظفر الأكبر، فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، إلا متعة زائلة إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور، تغُر من نظر إليها، ثم بعد ذلك تتكشف عن حقيقة أخرى.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات ما أشرت إليه من تسلية النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وطرد الحزن من قلبه، وذلك من جهة أن كل أحد سيموت، هؤلاء الذين يكيدون لك، هؤلاء الذين يتربصون بك، هؤلاء الذين يُقاتلونك، هؤلاء اليهود الذين يوصلون إليك أنواع الأذى نهاية الجميع الموت، وإذا كان كذلك فما في هذه الدنيا سينقشع، وسيذهب، هؤلاء الناس جميعًا لحسابهم وجزائهم، فيتميز المُحسن من المُسيء، ويجزي الله المُحسن بإحسانه، وعنده ينال المُسيء عاقبة إساءته، كأنه يقول له: اصبر قليلاً، لا تستعجل كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.

وهذا فيه أيضًا طرد الحزن من جهة أن هذه الحياة لا تستحق، هي حياة قصيرة كل من عليها سيفنى، فلا تتقضى بالأحزان، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "بأن الحزن يكون نقصًا في الحياة"[1]، فهي حياة قصيرة أيضًا تُنقصها بالأكدار والأحزان، فذلك أمر لا يسوغ بحال من الأحوال، وإنما أنت مُطالب باستغلال كل لحظة فيها، من أجل أن تصل إلى المراتب والمنازل العالية عند الله ، الكل فاني، الكل ذاهب، الكل سيرحل، فاشتغل بما أنت بصدده، لا تتوقف.

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وهذا الذي نالكم أيضًا في أُحد من القتل والجراح هو مصير كل حي، هؤلاء الذين ماتوا، ماتوا بآجالهم، والبقية الذين لم يموتوا، هل نجوا من الموت؟ أبدًا، هي مسألة وقت لا غير، ومن هنا فإن ذلك يدعوا الإنسان إلى الجد والاجتهاد والعمل في مرضاة الله -تبارك وتعالى-؛ لأنه إذا كان سيموت لا محاله، ولا يدري متى يموت، فما عليه إلا أن يُبادر، أن يجتهد، أن يقوم بما فرض الله عليه، وأن يتوقى ما يُسخطه، ما نهاه الله عنه، فلن يُخلد أحد، ولن يبقى أحد.

وفي هذه أيضًا تزهيد في هذه الحياة الدنيا، وأنها منقضية ليست باقية، ولن تبقى لأحد، لا كبير ولا صغير، لا غني ولا فقير كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ فهي متاع الغرور كما سيأتي، تتزين للناس ببهرجها، وتفتن قُصار النظر، فيتبعون سرابًا لا حقيقة له، تغرهم بمحاسنها، ولكنها عما قريب ترحل كما صورها الله : مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ۝ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والأعمال الصالحة عمومًا خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46]، فهي أعظم عند الله ثوابًا، وكذلك هي خير عند الله أملا، فهي التي يُدرك بها الإنسان، ويصل بعد رحمة الله .

وقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ هذا أيضًا باعتبار أن المُحسن والمُسيء كلاهما سيموت، فإذا كانت هذه نهاية الجميع فطوبى لمن لقي الله وقد اشتغل في هذه الحياة بطاعة ربه ومليكه ، الكل سيموت، ماذا سيكون بعد هذا الموت، ثم أيضًا في هذا لا شك أنه نعي للخلق جميعًا، نُعيت إليهم أنفسهم، وهذا يدل دلالة واضحة على تسلية أهل المصائب، فإذا مات لهم ميت تذكروا أن كل نفس ذائقة الموت، هذا سبيل كل حي، لا يُستثنى منه أحد من الناس.

وإذا كانت هذه سنة الله في هذا الخلق، فعلامَ الجزع؟

وإذا كانت هذه سنة الله في الخلق أيضًا، فعلامَ الخوف؟

الخوف من الموت، هو سيموت، الكل سيموت، هؤلاء الذين جاءوا يُعزون، سيتساقطون الواحد بعد الآخر، هذه قضية لا كلام فيها، لكن هي مسألة وقت، هذا بعد سنة، وهذا بعد أسبوع، وهذا بعد شهر، وبأسباب متنوعة، هذا على فراشه، وهذا في حادث، لكن من الذي يدري؟

الآن لو سألنا أيها الأحبة!

لو جئنا بإنسان قد أقعدته علته ما به حِراك، هو على فراشه، وسألنا الجميع، الأصحاء الذين جاءوا يعودونه، من منكم يعلم أنه أطول عمرًا من هذا؟ من الذي يدري من الأول، هذا المريض أو الصحيح؟

هل أحد يستطيع أن يقول أنا أطول عمرًا من هذا، أحد يستطيع؟!

عواده الذين جاءوا من منهم يستطيع أن يقول: أنا أطول بقاءً من هذا، هل يوجد أحد؟ لا يوجد أحد، قد يموت في لحظته قبل أن يقوم من مقامه.

وكم من صحيح مات من غير عِلة وكم من عليل عاش حينًا من الدهر[2]

أُناس كانوا بين الحياة والموت، وعاشوا مدة طويلة، ومات الأصحاء الذين كانوا يرثون لحالهم أليس كذلك؟! هذا موجود، فإذا كان كذلك فالمُصاب في نفسه يتسلى، لست وحدك، إنما هو أجل مُحدد وكل سيلقاه، الفرق أن هذا يوافي وهو عليل، لكن في وقته، والآخر يوافي وهو بصحة جيدة، هذا الفرق، لكن النهاية في الوقت المُحدد ينتهي كل شيء.

وتأمل، وانظر إلى صور قديمة قبل مائة سنة، ونحو ذلك في أسواق، أو غيرها، من منهم بقي الآن، كلهم ذهبوا، لكن كيف ذهبوا؟ بعضهم كانوا صغارًا، وبعضهم كانوا كبارًا، وبعضهم تخطفتهم المنون، لكن بأسباب متنوعة، والنهاية واحدة، الحقيقة واحدة.

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وهنا يكون العاقل هو الذي يستعد للموت، عرف أنه سيموت، فيستعد، ماذا أعددت لذلك اليوم الذي لا تدري متى يكون، لا الشاب يضمن أنه يعيش حتى يتقدم به العمر، ولا كبير السن يوقن أن لحظته قد حانت، كل ينتظر أجله، ولو تأملت أحوالنا في هذه البيوت ماذا ننتظر، والصُبح والمساء يقرظان من أعمارنا، والصُبح والمساء لا بقاء معه، دوران الليل والنهار، يُقلبها الله ، وتكون نقصًا في الأعمار، كل لحظة تمضي فهي نقص في العُمر، عداد يعد بالعد التنازلي، مُنذ أن يولد الإنسان يبدأ العد التنازلي، يفرح الناس إذا صار فتى، ولكن في الواقع أنه قرب أكثر من الأجل، وكلما شب؛ قرب أكثر من الأجل، هذه هي الحقيقة، وقد تتخطفه المنايا في شبابه، وقد يخطه الشيب، فيكون ذلك نذيرًا على أحد أقوال المفسرين المشهورة وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37]، قيل هو الشيب[3] يعني: انتبه.

وكذلك أيضًا هؤلاء الذين قص الله خبرهم من الذين صبروا، وثبتوا وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين [آل عمران:146]، إلى آخر ما ذكر الله -تبارك وتعالى- عنهم، هؤلاء مضوا لكن على خير وطاعة، ومضى أيضًا خصومهم وأعدائهم، ولم يبق إلا مُلك الله -تبارك وتعالى-، فأولئك مأسورون بأعمالهم، ينتظرون الحساب والجزاء، فالرُسل لهم تمام الفوز، وأعداء الرسل لهم الهلاك.

فأخبر هنا أن كل نفس ذائقة الموت؛ ليجتهد المُطيع، ويرعوي المُقصر.

أسأل الله أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. انظر: الصفدية، (2/37).
  2. انظر: صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال، للقاضي حسين المهدي، (2/400).
  3. انظر: تفسير الطبري، (20/478).

مواد ذات صلة