الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لم يزل الحديث متصلاً بالكلام على قوله -تبارك وتعالى-: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور [آل عمران:186]، قد تحدثنا عن صدر هذه الآية لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فهذا قسم من الله -تبارك وتعالى- على أن الابتلاء أمر واقع لا محيد عنه.
وكذلك قوله بعد ذلك: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا فهذا أيضًا قسم من الله -تبارك وتعالى- على أن هذا الأذى المسموع من أهل الكتاب ومن المشركين، أمر لا بد منه، فهذا بناء على حكمته -تبارك وتعالى- حيث يتميز الخبيث من الطيب، يتميز ثابت الإيمان الواثق بوعد الله ، ومن يعبد الله على حرف، فإذا جاءت دعاية الباطل والسوء نكص على عقبيه.
وكذلك أيضًا فإن ذلك يكون رفعة لدرجات أهل الإيمان يرفع الله منازلهم، ويحط سيئاتهم، فالله -تبارك وتعالى- قال في خبر الإفك الذي قُذف فيه عرض رسول الله ﷺ، وهو أطهر عرض على الإطلاق لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ [النور:11]، وقد تحدث العلماء -رحمهم الله- في بيان وجه ذلك، يعني: كيف يكون خيرًا، وهو قذف لعرض رسول الله ﷺ فهو خير من وجوه:
تكفير السيئات، ورفع الدرجات، وانكشاف المنافقين، وزيادة الأوزار في حقهم، وتربية الأمة بهذه الآيات، والدروس والعِبر الكبار التي نزلت بسبب ذلك، هذا بالإضافة إلى ما يحصل من تسلية لأهل الإيمان بعد ذلك من جهة ما ينالهم ويطالهم من قالة السوء، فإن المنافقين والفاسدين لا يتوقفون في عملهم ودعاياتهم الباطلة التي يرمون فيها أهل الطُهر والصلاح بالقبائح، وذكرنا قول الله -تبارك وتعالى- في بعض المناسبات: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النور:26]، فهذا كما قال ابن جرير -رحمه الله-: حمله على الأقوال بأن المقالات السيئة إنما تضر هؤلاء الذين هم مظنتها، وهم أحق بها، وأهلها فإذا صدرت عنهم ضرتهم، وإذا قيلت فيهم كانوا أحق بذلك وأجدر، وأما أهل الإيمان فلا يضرهم ذلك، وكذلك أيضًا يُضاف إلى الأقوال الأوصاف والذوات، فالآية تُحمل على أعم معانيها، لكن ذاك ما ذكره أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله تعالى-[1].
كذلك من العِبر والعظات، ومما يدخل في حكمة الله -تبارك وتعالى- في تقدير هذه الأمور هو زيادة الإيمان بالنسبة للمؤمنين الصادقين كما سبق في قوله تعالى في قصة الأحزاب: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22].
وهكذا في قصة أُحد في نفس هذه السورة الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران:173]، فكان مثل هذا الإرجاف سببًا لزيادة الإيقان والإيمان.
وكذلك أيضًا حينما يُخبر الله بذلك: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا، والله لتسمعن، هذا يُهيأ النفوس لتتوطن على تقبُل ذلك بنفوس موقنة بوعد الله ونصره وتأييده، وإذا عرف المؤمن أن ذلك سيُقال، وأن ذلك سيحصل أخبر الله عنه قبل وقوعه، فيكون وقعه إذا وقع أخف وطأة على النفوس، كما هو معلوم، أما إذا كان ذلك يفجأها من غير مقدمة أو علم به؛ فإن النفوس قد تهتز.
فهنا أخبر الله عن ذلك قبل الحصول، والوقوع من أجل أن تتهيأ نفوسهم، وهذا من رحمة الله بعباده المؤمنين، ولطفه بهم، أن يُقدر لهم من مثل هذه الأمور الأذى، ولكنه أيضًا يُخفف ذلك بجملة من الأمور منها: أنه أخبر عنه قبل وقوعه.
ثم إضافة إلى ما سيأتي من قوله -تبارك وتعالى-: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ إذا حصل الصبر والتقوى؛ فإن ذلك من عزم الأمور، يُبين لهم أن ذلك مما ينبغي أن يُعزم عليه، وأن يُنافس فيه، وأن يُتمسك به، فالمقصود أن ذلك كله أنه يُهيأ النفوس، فتكون مستعدة، فيخف أثره ووقعه ووطأته عليها، فيلجئون إلى الصبر والتقوى والاحتساب وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ.
وتأمل قوله -تبارك وتعالى-: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا أهل الكتاب هنا اليهود والنصارى، فهم مشتركون في ذلك، وأهل الإشراك يشمل سائر طوائف الشرك بلا استثناء ومن الذين أشركوا، ما قال: ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والذين أشركوا، قال: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ فهؤلاء كوم آخر، يجدون ويجتهدون في الإساءة، وإيصال الأذى.
ولاحظ هنا أنه أيضًا وَلَتَسْمَعُنَّ أكده بنون التوكيد الثقيلة مع القسم.
وكذلك أيضًا هنا في هذه الآية ذكر الأذى وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا "أذى" وكما ذكرنا لكم أن الأذى دون الضرر، وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، وبينا وجه ذلك، وأن الله -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي يقول: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر[2]، ولكن الله أيضًا قال في الحديث القُدسي الآخر: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني[3]، فأثبت الأذى ونفى الضرر، فالأذى بالنسبة لله -تبارك وتعالى- هو حينما يسب الإنسان الدهر، حينما ينسب لله الصاحبة والولد، فهذا كله من الأذى، أما الضرر، فهم أقل وأصغر من أن يُلحقوا ضررًا بالله -تبارك وتعالى- أعني الخلق، وهنا ذكر الأذى وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا.
ولاحظ هنا أنه لما ذكر أهل الكتاب قال: مِن قَبْلِكُمْ لأنه لا كتاب بعد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، والقرآن، فهذه صفة كاشفة لكنها تُفيد في هذا المقام فائدة، والله تعالى أعلم، وذلك أن هؤلاء أوتوا الكتاب من قبل، فوقع في نفوسهم ما وقع من الحسد لهذه الأمة، وكيف جاءت هذه: تحول الكتاب ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، فإيتاء الكتاب هنا له معنى، إضافة إلى أن ذلك أشد وأسوء وأقبح حينما يصدر ذلك ممن آتاهم الله الكتاب، وكان اللائق بهم أن يؤمنوا، وأن يصدقوا لما يجدون من الأوصاف التي تدل على أحقية ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ثم أيضًا إذا عُلم ذلك، وتقرر فإن ما يُسمع من دعاية باطلة توجه إلى الإسلام وأهله في هذه العصور من قِبل مِلل الكفر، من أهل الكتاب وغيرهم، هذا لا يهز أهل الإيمان، بل يزيدهم ثباتًا، فهذا أمر أخبر الله عنه، لا يمكن أن يُدفع، فلا يقع، لاسيما مع الوسائل التي صارت بأيدي الناس في هذا العصر، وصارت هذه الوسائل تبُث في أقطار المعمورة؛ قالة السوء، والأوصاف القبيحة التي توجه إلى الإسلام، وأهله، فهذا أمر لا غرابة فيه، تسمع الاستهزاء برسول الله ﷺ، استهزاء بأصحاب النبي ﷺ، الاستهزاء بدين الإسلام، الاستهزاء بشرائعه، الاستهزاء بالحجاب، وغير ذلك، مثل هذا إذا علمه المؤمن سلفًا؛ فإنه لا يتعجب، ولا يستغرب، ولا يقول: لماذا؟
فهؤلاء العداوة في نفوسهم متأصلة، وإنما على المؤمن الصبر، وأن يثبت على الحق والإيمان، ولا يتردد في ذلك، ولا يتزعزع، ولا تزيده تلك الدعايات المُغرضة المُضللة إلا ثباتًا.
وكذلك أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى- في ختم هذه الآية: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور، وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ هناك بين فيه أنه لا يضرهم هذا الكيد، لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، وقلنا: إن شيئا نكرة في سياق النفي، لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، يعني: لا قليلاً ولا كثيرًا، وهذا لا شك أنه تسلية عظيمة، وتطمين للنفوس، إذًا: نحتاج إلى صبر وتقوى، الصبر على الأذى، والصبر على طاعة الله -تبارك وتعالى-، والصبر عن معصيته مع التقوى، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، فهذا هو الحِصن الحصين، إذا تحقق هذا الصبر والتقوى فإن هؤلاء لا يستطيعون إيصال الضرر إلى أهل الإيمان بحال من الأحوال، هذا ليس بكلام حالم من الناس، وإنما هو بكلام من خلق الخلق، ومن نواصيهم بيده، هذا كلام الله.
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، وهنا: فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور، وذكرنا أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، يعني: بقدر صبرنا وتقوانا يكون دفع الضرر، ليس دفع الأذى، الأذى لا بد منه، لكن الضرر لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا.
لاحظ الكيد هو إيصال الضرر أو الأذى بطُرق خفية، يحيكون ذلك، ويوصلونه بطُرق خفية، فنحتاج إلى أن نصبر، ونحتاج إلى أن نتقي، ومما يدخل في الصبر هنا، والتقوى أن لا يُقابل هذا الأذى بما يُسخط الله -تبارك وتعالى-، فلربما حمل الغضب بعض المسلمين، والغيرة الدينية إلى أفعال غير محمودة، إما في نفسها، يعني: أن الفعل مُحرم في نفسه، أو أن ذلك يكون بعاقبته ومآله، فإن النظر في العواقب أمر مطلوب شرعًا، ولذلك قال النبي ﷺ: إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه[4]، فصار مُتسببًا.
والله قال: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، فسب آلهة المشركين لا شك أنه في ذاته، في أصله حق، ولكن لما كان إفضاء ذلك إلى مفسدة من سب الله كان مُحرمًا، فيكون المُتسبب في سب الله هو هذا الذي سب آلهة المشركين، وهكذا التصرفات والأعمال التي تكون فتنة لهؤلاء الكافرين، وفتنة لكثير من المؤمنين، مما ينجم عنه فساد عريض، ويكون ذلك ذريعة لهؤلاء الأعداء لمزيد من التسلط، والاستلاب لمُقدرات هذه الأمة، فيبتزونها بسبب تصرفات بعض المنتسبين إليها مما يكون بعيدًا عن ميزان الشرع.
وهذا أيضًا فإن قوله: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور هنا مِنْ عَزْمِ الأُمُور هذا ثناء وإغراء بالصبر والتقوى في مثل هذه الحالات، ويكون ذلك أيضًا فيه إشارة إلى الثواب ونيل الدرجات العُلى عند الله -تبارك وتعالى-.
وهذا أيضًا يدل على أن الإنسان كلما كان عازمًا في أموره؛ كان ذلك أنجح له، وأحسن يدل على فضيلة العزم، وكذلك الإشارة إلى البعيد كما ذكرنا في بعض المناسبات أن الإشارة تكون إلى البعيد "ذلك"، وإلى المتوسط "ذاك"، وإلى القريب "هذا" على قول بعض أهل اللغة، فَإِنَّ ذَلِكَ فالإشارة إلى البعيد يدل على بُعد مرتبته، ورفعتها، وما لتلك المنزلة من مكانة عند الله -تبارك وتعالى-، فَإِنَّ ذَلِكَ يعني الصبر والتقوى.
وكذلك أيضًا هنا وحد فَإِنَّ ذَلِكَ ما قال: فإن ذينك، وإنما قال: فَإِنَّ ذَلِكَ جعل ذلك للمفرد، وهو ذكره قبله أمرين الصبر والتقوى فَإِنَّ ذَلِكَ يمكن أن يكون المراد بذلك: المذكور، فإن ذلك، أو ذلك الوصف، أو ذلك المطلوب، أو نحو هذا، أو يكون ذلك باعتبار كل واحد من المُخاطبين فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور.
هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من أهل الصبر والتقوى واليقين والإيمان، وأن يُلهمنا رُشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يُعيذنا من الشيطان وشركه، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- انظر: تفسير الطبري، (19/144).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] الآية، برقم (4826)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر، برقم (2246).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه، برقم (5973).