الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(216) تتمة قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...} الآية، وقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ...} الآيات 190-191
تاريخ النشر: ٠٧ / شوّال / ١٤٣٨
التحميل: 526
مرات الإستماع: 1172

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمضى الكلام على صدر قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب [آل عمران:190]، وما فيها من الحث على النظر والتفكر في خلق السماوات والأرض، وما في ذلك من الآيات الدالة على قدرته -تبارك وتعالى-، وعظمته ووحدانيته، وأنه الذي ينبغي أن توجه العبادة إليه وحده دون ما سواه، فهذه الآيات العظيمة المُعبر عنها هنا في قوله -تبارك وتعالى-: لآيَاتٍ فقد جاءت منُكرة تنكيرًا يدل على التعظيم، لآيات عظيمات، وعرفنا أن الآيات تأتي بمعنى العلامات، علامات عظيمة لا من جهة كثرتها ولا من جهة نوعها وكيفيتها، فهي عظيمة من الجهتين: من جهة الكيف، ومن جهة الكم.

ثم خص أولي الألباب فقال: لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب وذلك أن هؤلاء هم الذين يتعرفون بذلك على قدرة من خلقها ووحدانيته وعظمته -جل جلاله وتقدست أسماؤه-، لِّأُوْلِي الألْبَاب، أي: لأصحاب العقول الراجحة التي تعقل هذه الآيات وتستدل بها على ما وراء ذلك من خالق قادر على كل شيء، وهو الغني الغناء المُطلق، وهو القوي العزيز الذي بناها فسواها بهذا البناء المُحكم الذي لا يتبدل ولا يتفطر ولا يتشقق ولا يتغير مع ما مضى عليه من الآماد الطويلة منذ خُلق مما لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-.

لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب وانظروا إلى هذا التعليق بالوصف، لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب، فهذا كما ذكرنا مرارًا في مناسبات متعددة أن الحكم المُعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه.

لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب فدل ذلك على أن الإنسان كلما كان أكمل في لُبه وعقله كان أقدر على الاستدلال بهذه الآيات المشهودة على ما وراء ذلك مما هو من صفة الخالق : لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب فلما كان الناس يتفاوتون في هذا الوصف العقل فكان ذلك يعني أنهم يتفاوتون أيضًا فيما ينتج عنه من عقل الآيات التي يرونها ويُشاهدونها.

ومن الناس من يمر على هذه الآيات من غير نظر، ولا تفكر، ولا عقل، ولا تبصر، كما نعى الله على أقوام كانوا بهذه الصفة سواء كان ذلك في العالم العلوي، أو كان ذلك في العالم السُفلي، فإن من هذه الآيات ما يُشاهدونه في من حولهم، وفي أنفسهم وأجسامهم، وما يخرج من النبات، وما ينزل من المطر، وما يكون من الرياح، وما يكون من الحر والبرد، وما إلى ذلك مما يجده كل أحد، إلا أن الذي يعقل ذلك وينتفع به هم أصحاب العقول الراجحة، وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون [يوسف:105]، لا يقفون عندها، ولا ينتفعون بها في قليل ولا كثير.

والكل يدعي العقل ولو اُتهم أحد بضعف العقل فضلاً عن زواله بالكلية لغضب واعتبر ذلك من قبيل السب والشتم، والكل يدعي أنه لبيب وعاقل، لكن الله ذكر أوصاف هؤلاء بما بعده من قوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار [آل عمران:191]، الآيات.

فهذه صفات هؤلاء من أصحاب العقول الراجحات من أجل ألا تبقى مُجرد دعوى يصعب قياسها، ولكن لينظر المرء في هذه الأوصاف المذكورة بعده أين هو منها، من الذي تحقق فيه من هذه الأوصاف؟

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا هذه أول صفة، ومعلوم أن ذكر الله -تبارك وتعالى- يكون باللسان مع مواطأة القلب، وأكمل حالاته أن يجتمع مع القلب واللسان عمل الجوارح بطاعة ربها ومليكها ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ فذكر الحالات الثلاث التي يكون عليها الإنسان، وهذا يعني أنه يذكر الله على كل أحيانه وأحواله، كما جاء في الصحيح مُعلقًا بصيغة الجزم عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يذكر الله على كل أحيانه"[1]، يعني: قائمًا، وقاعدًا، وعلى جنب، وذلك أن الذكر لا يُكلف الإنسان شيئًا ولا يتطلب جهدًا ولا يستلزم هيئة معينة من جلوس، أو استقبال قبلة، أو طهارة، أو نحو ذلك، وإنما يذكر على كل أحيانه في حال الطهارة وفي غيرها، حتى الجُنب فإنه لا ينقطع عن ذكر الله .

وقول المُسلم حينما يخرج من الخلاء -أعزكم الله-: "غفرانك"[2]، قال بعض أهل العلم: بأن هذا الاستغفار من أجل الانقطاع عن الذكر، هذا الوقت الذي يقضيه في الخلاء، يستغفر أنه تعطل مع أنه غير مأمور بالذكر في هذا الموضع لكن المؤمن لا يتعطل من ذكر الله  ويُبين هذا قول النبي ﷺ: لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله[3]، وهذا من أوضح وأجلى ما يُبين المُراد بقوله: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۝ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42]، هذه الآيات ونظائرها كلها جاءت مُقيدة بالكثرة، ولم تأت عبادة قط في القرآن مُقيدة بالكثرة إلا الذكر؛ لأهميته وعِظم أثره، ولأنه أيضًا لا يُكلف شيئًا، والذكر للقلب هو مادة حياته، فإذا انقطع من ذكر الله حصل له الجفاف، وصار يابسًا، واضمحل ما فيه من خوف الله ومراقبته ومحبته، والحياء منه، والتوكل عليه وما إلى ذلك من أعمال القلوب التي يتلوها تلاشي أعمال الجوارح، فيبدأ هذا الإنسان يذبل ويكسل في الصلاة وفي العبادات، ولا يأتي الصلاة إلا متأخرًا مسبوقًا ثم ما يلبث أن ينقطع عن المساجد فلا يُرى فيها إلا قليلا، ولربما لا يأتي إلا لصلاة الجمعة، ولربما يتخلف أيضًا عنها أو يأتيها في آخر ما يكون الإدراك به، فهذا ذكر الله والحديث فيه يطول.

أول صفة لهؤلاء؛ لأصحاب العقول: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ فإذا كان الإنسان بهذه المثابة فهو من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، والعلماء ذكروا أشياء في ضابط كثرة الذكر متى يكون الإنسان من الذاكرين كثيرًا والذاكرات، واختلفت أقوالهم، ولكن هذا يصلح أن يكون ضابطًا من حيث الهيئات: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ، مع قول النبي ﷺ: لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله [4].

فهذا من جهة الصفة، أن يكون اللسان رطبًا، معنى ذلك أن الذكر يتوالى فمهما استطعت ألا تنقطع من الذكر لحظة فافعل، وأنت جالس وأنت على فراشك، وأنت في السوق، وأنت تنتظر، وأنت في سيارتك، وفي كل مكان لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله.

فهذه صفة تدل أيضًا: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلى غير ذلك مما ذكر من الأوصاف تدل أيضًا على أنه بقدر ما يتحقق من هذه الأوصاف يكون لصاحبها من ذلك الوصف أعني أولي الألباب، يكون من أصحاب العقول الراجحة، فأصحاب العقول الراجحة هم الذين ينظرون بعيدًا لهم أهداف هناك من رضا الله -تبارك وتعالى- ودخول الجنة، وليس ذلك بالنظر إلى شيء قريب من تحصيل وظيفة، أو تحصيل قليل من المال أو زوجة أو نحو ذلك، ويعد هذا هو المُستقبل الذي لرُبما يُهيأ نفسه أو أولاده له ويُفكر فيه ليل نهار ولكنه لا يُفكر في المستقبل الحقيقي المستقبل الذي يتحدد فيه المصير النهائي حتى في الدنيا من السعادة والراحة والطمأنينة يُقابل ذلك الشقاء بكل صوره وأشكاله ومعانيه.

ويدل قوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ على أن ذكر الله قليلاً أنه قد لا يؤثر ذلك التأثير في النفوس، وصلاح القلوب، وبناء الأرواح، ولذلك ذكر الله عن المنافقين: وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلا [النساء:142]، ذكر الكثير وعلى الجنوب وفي القيام وفي القعود ما يُقابله من حال المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، انظر ما أثر فيهم ذلك الذكر القليل، وكيف يؤثر الذكر الكثير بأهل الإيمان فيُنتج هذه النتائج يزكوا عقل الإنسان ومداركه، ويُفكر بطريقة صحيحة ويُهدى ويُسدد ويُلهم الرُشد فلا يكون تائهًا متحيرًا ضائعًا بعيدًا عن الله ، لا يعرفه ولا يُراقبه، ولا يتوكل عليه، ومن ثَم فإن هذا الذكر الذي ذكره أولاً الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ هو الذي يُثمر أيضًا ما بعده فهذه قضايا مُتلازمة، فذكر الرب -تبارك وتعالى- بأنواعه المذكورة قلب ولسان هذا يُثمر العقل الزكي الذي يُعمله صاحبه بالنظر والاستدلال في صفحة الكون.

وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ويتوصلون إلى النتائج الكبار، رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار، فالله -تبارك وتعالى- لما ذكر دلائل الإلهية والقُدرة والحكمة وما إلى ذلك، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب [آل عمران:190]، ذكر بعد ذلك أوصاف هؤلاء الذين يتوصلون إلى هذه المطالب العالية ويوصفون بأنهم من أولي الألباب، وينتفعون بهذه الآيات، فهم يُعملون عقولهم يتفكرون؛ والتفكر هو عمل القلب في المعقولات هكذا يذكر العلماء، والواقع أنه لا يقتصر عليها فإن ما ذُكر هنا في أمور محسوسة لكنه يتوصل بذلك إلى أمور معقولة، يعني: ينظر في هذه المخلوقات العظيمة من السماوات والأرض ليتوصل إلى أمر معقول وهو وحدانية الرب -تبارك وتعالى- وعظمته وقدرته وعزته وما إلى ذلك، فهذه أوصافهم مع قولهم: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار هم مع هذا الاشتغال في كل الأوقات المُتاحة المُتعارفة عند البشر قيام وقعود وعلى جنب في وقت الراحة وفي وقت العمل والانتظار وما إلى ذلك يقولون: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار، فهذه الجُمل وهذه الأمور المذكورة في هذه الآية الكريمة تضمنت أصناف العبودية الثلاث وهي التصديق والإذعان بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، يَذْكُرُونَ اللّهَ هذه عبودية للقلب وللسان، قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ هذه عبادة الجوارح، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ هذه عبادة القلب، فإذا كان اللسان مُستغرقًا بالذكر والجوارح بالعمل بطاعة الله وشُكره والقلب بالتفكر كان هذا العبد مُستغرقًا بألوان العبوديات في باطنه وظاهره.

فهذه الأحوال المعهودة للإنسان كما يذكر أهل العلم، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. صحيح البخاري (1/129)، وأخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها، برقم (373).
  2. أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء، برقم (30)، والترمذي، أبواب الطهارة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما يقول إذا خرج من الخلاء، برقم (7)، وابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب ما يقول إذا خرج من الخلاء، برقم (300)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4707).
  3. أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في فضل الذكر، برقم (3375)، وابن ماجه، أبواب الأدب، باب فضل الذكر، برقم (3793)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7700).
  4. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، برقم (512)، وفي السنن الكبرى، برقم (6526)، وابن أبي شيبة في المصنف، برقم (29453).

مواد ذات صلة