الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا يزال الحديث متصلاً بالكلام على هذه الآيات التي ختم الله بها سورة آل عمران، وسبق الحديث عن قوله -تبارك وتعالى-: رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار [آل عمران:192]، ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- بقية ابتهالهم وتضرعهم وتوسلهم إليه، أعني: أولي الألباب الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض: رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَار [آل عمران:193].
رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ سمعنا داعيًا يُنادينا يدعونا إلى الإيمان فآمنا، وهذا الداعي فُسر بالرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، وفُسر بالقرآن؛ باعتبار أن ما كل ما جاء في هذه الأمة أنه سمع النبي ﷺ مُباشرة، فيكون الداعي بالنسبة إليهم لمن جاءوا بعده هو القرآن، سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا وبين هذين القولين مُلازمة، -والله تعالى أعلم-، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إنما بعثه الله -تبارك وتعالى- ليتلوا عليهم آياته ويُزكيهم بها، ويُعلمهم الكتاب والحكمة، كما امتن عليهم بذلك، الذين سمعوا القرآن سمعوا مناديًا يدعوهم إلى الإيمان، والذين سمعوا النبي ﷺ سمعوه يتلو كتاب الله -تبارك وتعالى- ويدعوهم إلى ما دعا إليه القرآن، فكل ذلك حق، والله تعالى أعلم.
أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا هذا تفسير للنداء سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فهذا نداءه يأمرهم ويدعوهم إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، فَآمَنَّا أقرت وأذعنت وانقادت وصدقت قلوبهم، وكذلك نطقت ألسنتهم، وكذلك انقادت جوارحهم، آمنوا بما يجب الإيمان به، الإيمان بالله -تبارك وتعالى- بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، الإيمان بكتبه وملائكته ورسله وبالقدر خيره وشره، وهكذا كل ما يدخل في الإيمان فإن ذلك ينتظم ذلك كله.
فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا عرفنا أن الغفر يتضمن معنى الستر والوقاية، فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا فتكفير السيئات بمعنى المحو وذلك أيضًا يشمل التغطية تكفير السيئات بحيث لا يبقى لها أثر.
وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَار ألحقنا بالصالحين الأخيار المُتقين الأبرار.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات والفوائد كما سبق التوسل إلى الله -تبارك وتعالى- بأسمائه وصفاته رَّبَّنَا وقلنا: بأن هذا حُذف منه ياء النداء فهو مُشعر بالقُرب، مزيد من القُرب رَّبَّنَا، وذكرنا وجه الدعاء بهذا الاسم الكريم "الرب"؛ لأن من معانيه العطاء والمنع فالرب هو الذي يُربي خلقه ويُدبر شؤونهم ويوصل إليهم ألطافه، فهم يتلمسون بره ورحمته ورعايته إلى غير ذلك من المعاني، إضافة إلى ما ذكرنا من أنه إقرار بالعبودية فهم مربوبون.
ومن معاني الرب السيد والمالك فهم عبيده، فهذا كله توسل فيحسُن بالعبد إذا أراد أن يدعوا أن يتوسل إلى الله -تبارك وتعالى- بما يكون سببًا لقبول وإجابة دعائه وسؤاله.
رَّبَّنَا والإضافة كما ذكرنا تدل على مزيد من الاختصاص، أهل الربوبية الخاصة، ربنا إننا التأكيد بـ"إنّ" هذا كما ذكرنا يقوم مقام إعادة الجملة مرتين "إننا"، وذلك أيضًا يدل على يقين.
سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا "سمعنا مناديًا" النداء يكون برفع الصوت.
ويؤخذ من هذا ما كان يبذله -عليه الصلاة والسلام- من جُهد كبير في تبليغ دعوة الله -تبارك وتعالى- إلى الناس، وهكذا كان الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كما قال نوح : قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا [نوح:5]، فكانوا يدعونهم في مختلف الأوقات والأحوال، وكذلك أيضًا بألوان الخطاب التي من شأنها أن تجذب نفوسهم إلى الحق مع بيان الحُجج وإظهار الآيات بحيث لا يبقى لأحد حُجة، أو مُتعلق يمتنع معه من الإيمان والدخول فيه.
فهنا: سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ فكأن النبي ﷺ يُناديهم بأعلى صوته من أجل أن ينقادوا وهذا يدل على شدة الحِرص وبذل مُنتهى الجُهد والطاقة، كذلك حينما يُقال: إن المنادي هنا هو القرآن فهذا القرآن هو خطاب من الله -تبارك وتعالى- موجه إلى عباده، ولذلك جاء عن ابن مسعود : "إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك فإنما هو خير تؤمر به أو شر تُنهى عنه"[1].
فينبغي للإنسان أن يستشعر دائمًا هذا حينما يقرأ الخطاب في القرآن أنه موجه إليه: سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا، جاء عن محمد بن كعب القُرظي -رحمه الله- وهو من التابعين قال: "ليس كل الناس سمع النبي ﷺ ولكن المنادي القرآن"[2]، فهذا على وجه في المعنى والتفسير كما ذكرت وهو لا يُعارض ما سبق.
فالمقصود أن مثل هذا: سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا هذا يتضمن ينادي بالإيمان، ينادي للإيمان بالله ، الإيمان بالمُرسِل، والإيمان بالرسول، والإيمان بالمُرسَل به الرسالة كل ذلك داخل فيه.
وكذلك فيه الشهادة للرسول ﷺ بأنه قد بلغ الرسالة، وأنه صادق فيما يُبلغ عن ربه لأنهم آمنوا فَآمَنَّا.
كذلك أيضًا هذا كما سبق: فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا فهنا أنه جاء بحرف الفاء: سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا هي تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها وتدل أيضًا على التعليل، وتدل على المُباشرة، يعني: أنهم بمجرد سماع هذا الداعي: أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا مُباشرة، وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان الذي يريد ويطلب نجاته أن يُبادر إلى الإيمان أن لا يتأخر، فالله -تبارك وتعالى- يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، دعاكم إلى الإيمان وإلى طاعته، وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُون [الأنفال:24]، فقد يتأخر الإنسان ثم بعد ذلك يحول الله بينه وبين قلبه فيريد أن يؤمن ولا يستطيع، وهذا المعنى ذكره أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-[3]، يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24] ومن ثَم فإن المُبادرة إلى الاستجابة والقبول عن الله هذا أمر محمود، والصديق كان الصديق الأكبر في هذا الاعتبار أنه كان يُبادر، فما يقول النبي ﷺ شيئًا إلا بادر إلى تصديقه، وخبره في قصة الإسراء معروفة، لما شنعوا على النبي ﷺ وذهبوا إلى أبي بكر يُخبرونه لعله أن يرجع فقال: "إن كان قد قال فقد صدق"، فلما تعجبوا منه كيف يصل في ليلة واحدة إلى بيت المقدس ثم يرجع إلى مكة مسيرة شهر، قال: "أُصدقه فيما هو أعظم من ذلك خبر السماء يأتيه صباح مساء"[4]، فهكذا الإيمان الراسخ.
ثم أيضًا: فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا لاحظ ذكرنا أن هذه أُعيدت خمس مرات "ربنا، ربنا" وهذا فيه كمال التضرع، وهذا التوسل الذي جاء بعده السؤال والدعاء صراحة، قلنا: إن قوله -تبارك وتعالى- عن قولهم: رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، أن هذا يتضمن السؤال والدعاء وإن كان لفظه لفظ الخبر، لكن هنا السؤال صراحة: فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا بالفاء أيضًا تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، يعني: هذه التوسلات لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار [آل عمران:190-191]، هذه كله توسلات: رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَار[آل عمران:192-193]، فهذا التوسل الطويل والتضرع، وهذه الألفاظ التي يتضرعون بها ويتوسلون مع هذا الاسم الكريم "ربنا" الذي تكرر كما ذكرنا، فهذا كله من آداب الدعاء، فالإنسان لا يدخل في الدعاء والطلب والسؤال مُباشرة وإنما يُقدم بما يتوسل به من ذكر الله -تبارك وتعالى- بأسمائه وصفاته من حمده، وما إلى ذلك من الثناء عليه، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فذلك من أسباب الإجابة.
وهذا التعبير الذي يُعبرون: رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ معلوم أن المُنادي يُنادي فما قالوا: سمعنا مناديًا للإيمان أو مُناديًا إلى الإيمان، وإنما قالوا: سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ، فالأول مُطلق: سَمِعْنَا مُنَادِيًا ثم يُنَادِي لِلإِيمَانِ فهذا كله يدل على تعظيم شأن هذا المُنادي، وتفخيم أمره.
وكذلك الحال فإنه لا أعظم من هذا المُنادي الذي يُنادي إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، قد يُنادي الإنسان إلى طعام، قد يُنادي الناس إلى تجارة إلى بيع، قد يُنادي إلى لعب ولهو، ولكن المُنادي للإيمان هو الأفخم والأعظم، ويدعوهم إلى المطلوب الأكبر والأهم.
وكذلك أيضًا فإن هذه الجملة بعده: أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا مُناديًا يُنادي للإيمان ففسره بعد ذلك أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فهذا مقام يقتضي الإيضاح والبيان.
ثم أيضًا: يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فالإضافة هنا إلى الرب -تبارك وتعالى- يعني: آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ بسيدكم ومالككم ومُدبر شؤونكم الذي يُعطيكم، ويوليكم، ويرزقكم، ويُميتكم، ويحييكم، كل هذا من معاني الرب، أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ ولهذا يقولون: بأن الإيمان بالربوبية يستلزم الإيمان بالإلهية، فهذا الذي يُحيي ويُميت ويرزق ويمنع إلى آخره هو الذي يستحق أن يُعبد وحده دون ما سواه.
أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ ثم هذه قضية طبيعية دعوة هي في غاية الإنصاف، آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ لا تؤمنوا بحجر لا ينفع ولا يضر، أو لا تؤمنوا بمن ليس بولي لنعمتكم الذي خلقكم ورزقكم وأحياكم ثم يُميتكم ثم يبعثكم ثم يُجازيكم، أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فهذا مطلب عدل في غاية العدالة والإنصاف والحق، فهذا ربكم، أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28]، فهذا قال حقًّا، وقوله في غاية الإنصاف.
ثم أيضًا فإن قولهم: فَآمَنَّا هذا كما يدل على المُباشرة لكن لا شك أنه يحمل خلفية من سلامة الفطرة والاستعداد والقبول للحق، والتواضع له، بخلاف أهل الكبر فإنهم يرفضون ذلك، يعني: فرعون رفض دعوة موسى: قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُون [الشعراء:27]، ويستنكف ويستكبر ويقول: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين [الشعراء:23].
وكذلك حينما رأى الآية الباهرة هذه العصا تلقف هذه الأعمال التي لبس بها هؤلاء السحرة مُباشرة فرعون يعترض على إيمان السحرة ويقول: إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ [الأعراف:123]، ويتهم موسى بأنه كبير هؤلاء السحرة إلى غير ذلك، بل يُطالبهم أن يتوقفوا عن الإيمان حتى يأذن لهم: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ [الأعراف:123]، هذا شأن أهل الكبر، لكن هؤلاء يستجيبون ويُبادرون.
رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وهذا أيضًا فيه تواضع لله أنهم أصحاب ذنوب فَاغْفِرْ وهنا الفاء تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا يعني بإيماننا، والإيمان يجُب ما قبله، آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [آل عمران:16] والعبد إذا آمن بالله -تبارك وتعالى- كان ذلك سببًا لتكفير سيئاته.
فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وتكرر هذا الاسم الكريم: رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا مع أن المعنى مُتقارب في غاية المُقاربة، فمن يقول: بأن ذلك بمعنى واحد يقول هذا كله للتأكيد وللإلحاح على الله وهذا مطلوب في الدعاء، فكأنهم أرادوا أن هذه الذنوب لا يبقى منها باقية تُستر ويحصل وقاية من المؤاخذة بها، هذا معنى الغفر.
وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا التكفير هذا يكون أصل ذلك بالستر والتغطية.
فالمقصود ألا يبقى لها أثر ولا يظهر منها شيء: وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا والسيئة قيل لها سيئة؛ لأنها تسوء صاحبها حينما يرى ذلك في صحيفة عمله، وحينما يرى جزاءه فلا شك أنه يستاء من هذه السيئات التي قارفها، فالله -تبارك وتعالى- أخبر أنه يُري أعمال الكافرين يوم القيامة أنه يجعل ذلك حسرات، فكل سيئة حسرة، وكل تكذيب حسرة، فهذا مما يسوء صاحبه.
كذلك فإن قوله -تبارك وتعالى- عن قيلهم ودعائهم وسؤالهم وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَار كأنهم تواضعوا أنهم لم يكونوا من جُملتهم فسألوا أن يُلحقهم بهم، توفنا معهم مع الأبرار، أسلكنا معهم، اجعلنا في جُملتهم من أتباعهم، فهذا فيه من حُسن الأدب وهضم النفس والتواضع ونحو ذلك ما لا يخفى، مَعَ الأبْرَار وفي هذا أيضًا سؤال حُسن الخاتمة فإن الخاتمة إنما تكون بأمر الله -تبارك وتعالى- وإرادته، الإنسان لا يملك خاتمته، لكن يُرجى لمن عاش على شيء أن يموت عليه، فيعمل الإنسان الأعمال الصالحة ويجتهد من أجل أن يُثبت على الإيمان، ويموت على الحق والهدى والبر والعمل الصالح.
وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَار والأبرار هم الأخيار، توفنا معهم وليس مع الأشرار، وقد سُئل الحسن البصري عن الأبرار منهم؟ فقال: "هم الذين لا يؤذون الذر"[5]، يعني: هذا الذي لا يصدر منه أدنى أذى لأي شيء حتى الذر فكيف بالناس، فكيف بأهل الإيمان، فكيف بأهل الصلاح والتقوى والعمل الصالح، هؤلاء هم الأبرار.
ولاحظ هذه المطالب التي طلبوها والهمة التي تعلقوها، طلبوا ماذا؟ ما قالوا فأغدق علينا الأموال وارزقنا الزوجات والأولاد ونحو ذلك، وإنما غايتهم فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَار وما سيأتي بعده رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَاد [آل عمران:194]، هذه مطالبهم، وأجملوا ما يتعلق بالنعيم والجنة وما إلى ذلك: وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وهذا كله يدل على تواضعهم، كأنهم ليس لهم مطلوب ولا هم إلا النجاة من عذاب الله -تبارك وتعالى-، فهم لا يرون لأنفسهم مرتبة ولا منزلة ولا درجة عالية وإنما يقولون يا رب إنما نُريد النجاة والعافية، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- انظر: تفسير ابن كثير (1/374)، وتفسير الماوردي (النكت والعيون) (5/510).
- تفسير الطبري (6/314).
- تفسير الطبري (11/112).
- أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (4458)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
- تفسير الطبري (24/206).