الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يقول الله -تبارك وتعالى- بعد ما ذكر صفة أولي الألباب، وما هم فيه من الاشتغال بكثرة الذكر في جميع الحالات، مع التفكر مع الإخبات لله والتضرع والسؤال، وما قابلهم به من الإجابة، قال الله بعد ذلك: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَد مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَاد [آل عمران:196-197]، لما ذكر حال الكُمّل من الناس ذكر هذا النهي بعده، بعدم الاغترار بحال الكفار، وما قد يُظن من أنهم حصلوا الكمالات من التنعم في الدنيا، وتحصيل الملاذ، والتمكن من أسباب القوة، والتقلُب في الأرض بأنواع التجارات، وما إلى ذلك، قال لا تغتر بهؤلاء.
لاَ يَغُرَّنَّكَ لا تغتر، ولا تكترث بما عليه هؤلاء من بسطة في العيش، وما هم فيه من سَعة في الرزق، وما هم عليه من القوة في بعض الأوقات أو الكثرة، وهكذا حينما يتقلبون في الأرض في التجارات، أو التنزه فيها، والتمتع، ونحو ذلك، فهذا كله عم قليل يزول، كل ذلك يتلاشى، ثم بعد ذلك ينتقلون إلى مُلاقاة جزاء الأعمال التي عملوها، والكفر الذي قارفوه.
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَاد، متاع قليل، كل ما في الدنيا لا شك أنه قليل، ثم بعد ذلك يصيرون إلى جهنم، وبئس الفراش الذي يفترشونه، والمهاد معلوم أنه ما يُمهد للطفل، فهم مهادهم، فراشهم من النار، وَبِئْسَ الْمِهَاد بئس كلمة تُقال للذم.
يؤخذ من هاتين الآيتين من الفوائد والهدايات: هذا النهي لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَد نهي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولا شك أنه لا يغتر بهؤلاء، ولكن هذا الخطاب متوجه إلى أمته، فهو نهي لكل واحد من أفراد الأمة ألا يغتر.
لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَد ما هم فيه من أنواع النعيم والرفاهية واللذات بأنواعها، وذلك كما تُلاحظون هنا أنه ذكر تقلبهم، ما قال: لا يغرنك ما هم فيه من اللذات، وإنما ذكر التقلب كأنه -والله تعالى أعلم- لو قال قائل: بأن ذلك باعتبار أن هذا التقلب يدل على ما وراءه من التمكن، فالخائف لا يتقلب، والضعيف لا يتقلب في الأرض، وإنما يكون ساكنًا، ولذلك قيل للمسكين مسكينًا؛ لسكونه؛ لأنه سكن لفقره، فهذا يدل على غنى التقلب، ويدل على ما هم فيه من التمكن والقوة، ويدل على أنهم يعيشون في رفاهية فينتقلون، قد تكون بلادهم جميلة لكنهم في خوف أو في حروب أو في بؤس وفقر كما هو مُشاهد في بعض بلاد الله الواسعة، لكن إذا كانوا يتقلبون في الأرض فهذا يدل على ما ذكرت، بالإضافة إلى أن هذا التقلُب في البلاد يُبرزهم، فيراهم الآخرون، ولربما تشوفت نفوسهم إلى ما مع هؤلاء، وتمنوا حالاً كهذه، أعني من الرفاهية، والتقلب، وما إلى ذلك.
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ، والمفسرون يقولون: بأن هذا التقلب للتجارة وطلب الربح، وهو يصدق على هذا، ويصدق على غيره، بأي أنواع التقلب، التقلب للسياحة، كما يُقال الآن، وإن كانت هذه اللفظة ليست هي الاستعمال الشرعي، كما سبق في بعض المناسبات، لما جاء في القرآن السائحون والسائحات، ففُسر بالصيام كما هو معلوم، وفُسر بمعانٍ أُخر، لا علاقة لها بما يُذكر اليوم، فالمقصود أن هذا التقلب يدخل فيه هذا السفر للتمتع، يتمتعون بأنواع المُتع، كأنهم خلقوا للدنيا، وهي غايتهم، والنظر إلى أحوالهم شرقًا وغربًا، ينتقلون في البلاد، ومعهم كل ما يحتاجون إليه، وقد ذُللت لهم الأسباب، ولربما كان أهل البلد لا يستطيعون أن يبلغوا ما يبلغ هؤلاء من بلادهم.
تجد بلادًا فقيرة، قد شُغل أهلها بطلب لقمة العيش، ويرون هؤلاء يتجولون بأنواع المراكب، وما يتبعها مما يصلح للبر والبحر بلون من التخفف، بما تحمله هذه من مؤدى في المعنى، التخفف في لباس، والتخفف في حشمة، وفي الضحكات العالية، ونحو هذا، فيراهم هؤلاء، وهم فيما هم فيه من البؤس والفقر، فتنعصر قلوبهم، ولربما ظنوا أن هؤلاء فعلاً مُمتعين، فبيّن الله -تبارك وتعالى- أن هذه حال لا ينبغي أن يُغتر بها، التقلب هنا عُبر بالمصدر "تقلب"، ومعلوم أن التعبير بالجملة الاسمية، أو بالاسم يدل على الثبوت.
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَد، والبلاد هنا عام في أي بلد كان، ينتقلون في البلاد الواسعة في بلاد الله، في أرضه، فلا تغتر حيث رأيتهم؛ لأن ذلك عما قريب يزول، وهذا العطاء، وهذا الذي تُشاهدون، وترون من حالهم لا يدل على رضا الله عنهم، وقد جاء الوصف هنا تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فالله لا يرضى الكفر، ولا يرضى عن أهله، وما يُعطيهم، ويُمدهم به من المال والبنين كل ذلك من أجل استدراجهم، فهو من كيده ومكره بهم وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين [الأعراف:183]، وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُون [الزخرف:33]، درج، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُون [الزخرف:34]، وَزُخْرُفًا، فُسر بالذهب، وفُسر بأنواع الزينة، وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِين [الزخرف:35]، فهذه حقيقة يُبينها الله -تبارك وتعالى-، يعني: أن الله قد رفق بأهل الإيمان، فلولا أن يُفتن أهل الإيمان بما عليه الكفار؛ لصارت حال الكفار بهذه الصفة، بيوتهم من الذهب ومن الفضة، تصور لو كانت بيوتهم من الذهب ومن الفضة ماذا سيصنع الناس، كيف يُفتنون؟!
الآن يُفتنون وبيوت من الخشب والحديد والطوب، ونحو هذا، ليس فيها قطعة ذهب واحدة، وتجد هذه الفتنة، ولربما طاف بعض أبناء المسلمين بتلك البلاد، فرأوا السماء دارة، والأرض غناء، ألوان النبات، الأشجار والثمار، وأجواء جميلة، وسُبل حياة مُذللة، ويصل الإنسان إلى مطلوبه، وحاجته بيُسر، ولربما تأتيه، وهو في بيته، لا يحتاج أن يتأنى لها.
ويوجد الآن -كما تعلمون- التسوق عند محطة القطار التي توجد في كل مكان، يوجد معروضات للأسواق، ما يريد أن يشتريه، ويقتنيه، ما عليه إلا أن يصور عن طريق ما يُسمى بالباركود البضائع التي يُريدها، وهو واقف، ثم يبعث بها، ويصل إلى بيته، ويجد كل هذه الأغراض قد سبقته، لا يحتاج أن يذهب إلى التسوق، ويخرج من العمل، ثم يطلب ما يحتاج إليه، لا لا، وهو يركب القطار، يصور هذه المعروضات، ثم تسبقه إلى بيته، لاحظ ما يحتاج تعب، لكن هذا ما قيمته مع سخط الله الذي يتنزل عليهم في كل لحظة، وما ينتظرهم من العذاب المُهين؟
هذا التمتع الذي يحصل معه ما يحصل من المُنغصات بأنواعها، والخوف المُلازم لهم، يعيشون في قلق، وخوف، وفي تضاعيف ذلك من الأحزان ما الله به عليم، الحياة مُنغصة؛ لأنهم يتعلقون بها، ويتشبثون، فإذا تخوفوا من أي مؤثر عليها؛ انخلعت قلوبهم، هذه هي الغاية عندهم، لا يعرف سوى هذه، فيعش دائمًا في قلق مع ما هو فيه من النعيم، ولذلك المصحات النفسية -كما هو معلوم عندهم- هي الأكثر، يبقى في هذه الحال لمدة ستين سنة، سبعين سنة، ثمانين سنة، ثم ماذا؟
ثم يموت، تتلقاه ملائكة العذاب أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [الأنعام:93]، يبدأ العذاب الآخر، عذاب البرزخ، هو في عذاب في الدنيا في صورة نعيم، فأولادهم وأموالهم إنما يريد الله ليُعذبهم بها، هي للتعذيب، ثم بعد ذلك ينتقل إلى البرزخ، ثم بعد ذلك القيامة، لما يقومون في القيامة تجد هذه الكلمات والعبارات وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55]، فُسر هذا بالبرزخ، وفُسر بالدنيا، ولكن باقي الآيات تجد أن هؤلاء يقولون يومًا، بعضهم يقول عشرًا، لكن أمثلهم طريقة كما قال الله يقول: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [طه:104] يوم واحد، هذا جمهور المفسرون حملوه على الدنيا، وأنه ليس المقصود به البرزخ، يوم واحد، هذا الذي يغتر به من يغتر، كل ما فيه من التفاصيل هو عندهم يوم واحد، وكما في الحديث الذي لا يخفى على أحد منا يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب....
هذا أنعم إنسان في الدنيا من أولها إلى آخرها، لكن أن تتخيل أنعم إنسان، على ماذا يمشي، وماذا يلبس، وماذا يأكل، وماذا يركب، وأين يُقيم ويسكن، وماذا يقتني، أنعم إنسان في الدنيا، ماذا عنده من الخدم والحشم والجواري، وأنواع اللذات، ممُهدة، أنعم إنسان غمسة واحدة في النار تُنسيه كل هذا، يحلف لا والله يا رب ما رأيت نعيمًا قط، إذا كانت غمسة واحدة تُنسيه، فكيف بالبقاء الأبدي السرمدي في النار، هذا لا يُنسيه فقط، لكنه يكون في حال لا يُسأل عنها.
وهكذا يؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا، من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط[1]، يحلف نسي، هو لا يكذب، غمسة واحدة فكيف بالذي يعيش في الجنة أبدًا؟ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الصافات:44]، يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا خمرة لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ [الطور:23]، هي جنة، لا يُصيبهم فيها صُداع، لا من الخمر، ولا من غيرها، ولا أمراض، ولا خوف، ولا حُزن، ولا جوع، ولا عطش، ولا شمس، كما قال شيخ الإسلام: "يعرفون الغدو البُكرة، والعشي بنور يظهر لهم من قِبل العرش"[2].
لا يوجد شمس، ولا ليل، ولا نوم، حياة كاملة من كل وجه، هذا الذي يُقيم في الجنة ماذا يذكر من بؤس الدنيا؟ لا يذكر شيئًا أبدًا، ولا تكاليف، يُلهمون التسبيح كما يُلهمون النفس، لا يوجد في الجنة صيام، ولا يوجد صلاة، ولا يوجد حج، ولا يوجد زكاة، هذا كله هنا في الدنيا، لكن الجنة ليس فيها هذا، فيها المُتع، دار التمتع، والتنعم هناك، والجزاء من جنس العمل، فمن أعمل قلبه وجوارحه ولسانه بطاعة الله أُعملت هناك بأنواع اللذات وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:12]، كما ذكرنا في بعض المناسبات قول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "بأن الجنة وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا الصبر فيه حرارة وضيق وخشونة فقابله هذه الثلاثة أوصاف في الصبر قابلها بثلاثة أمور: جنة فيها السعة والبرودة والحرير، يُقابل الخشونة هناك فيه النعومة والملاسة"[3]، فإذا كان هذا العطاء الدنيوي مع سخط الله، ويكون ذلك زيادة في عذابهم في الدنيا، وزيادة في عذابهم في الآخرة، فكيف يلتذ من له عقل بنعيم كهذا! وكيف يغتر من علم بذلك! كيف يغتر بحال هؤلاء! فهذا ظاهر.
هذه حقيقة ما هم فيه، وهذا الإملاء الذي يقع لهم ليس لخير قد حازوه، وإنما هو طُعم إلى جهنم؛ لمزيد من الانهماك في الرذائل والكفر، فلا يرعوي، ولا يُفكر، ولا يُفيق حتى يأتيه الموت، ثم بعد ذلك يلقى الله -تبارك وتعالى- على أسوء ما يكون من الأحوال، فالمؤمن إذا عرف مثل هذا؛ اطمأنت نفسه وسكنت واستراحت، ولم يبق في ألم ونكد وعصرة، لماذا نحن المسلمون، ولماذا هؤلاء، وعمر لما قال للنبي ﷺ: لما رآه قد نام على الحصير، وأثر في جنبه، وبكى عمر ، سأله النبي ﷺ ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخر[4]، لو كان هذا التوسع، وهذه اللذات فيها صلاح، وبر بالمؤمن؛ لكان أولى الناس بها النبي ﷺ، لقد كان يربط حجرين على بطنه، من منا قد ربط حجرًا واحدًا يومًا من الدهر؟ أو هل رأيت من ربط حجرًا على بطنه؟
هذا أشرف الخلق يربط حجرين، فهذا يدل على أن الدنيا لا قيمة لها، وهذا كما يُقال مثل ضياء الأصيل، سرعان ما ينقضي، ويزول، فهو متاع قليل، وانظر إلى ما هم فيه لا يخلو من نكد، وأزمات اقتصادية تعصف بهم، وديون، وحياة ملؤها الكآبة والضيق والتوتر، ترى هذا في وجوههم وملامحها، وترى هذا في مشيتهم، وفي أحوالهم كلها.
أقول: فهذا ينبغي أن يكون حاضرًا، ومثل هذه الآية تسلية للنبي ﷺ، وهي تسلية لأمته، فإذا رأوا ذلك تذكروا هذه المعاني، وأيقنت قلوبهم أن هذا متاع قليل، فإذا رأيت شيئًا من ذلك؛ تذكر هذا المعنى: مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ [آل عمران:197]، بعد ذلك فيُنسيهم هذا النعيم، يتنعمون قليلاً، ويُعذبون طويلاً، والله المستعان.
هذا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وصبغ أشدهم بؤسا في الجنة، برقم (2807).
- انظر: مجموع الفتاوى، (4/312).
- انظر: دقائق التفسير، (3/24).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}، برقم (4913).