الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
(226) قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ...} الآية 199
تاريخ النشر: ٠٥ / ذو القعدة / ١٤٣٨
التحميل: 321
مرات الإستماع: 919

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يقول الله -تبارك وتعالى- في خواتيم هذه السورة الكريمة سورة آل عمران: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب [آل عمران:199].

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، يعني: أن بعض أهل الكتاب؛ وهم اليهود والنصارى، لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ، يعني: أنهم يؤمنون إيمانًا صحيحًا، وذلك بإيمانهم بالله -تبارك وتعالى- من غير إشراك، وكذلك يؤمنون بما أُنزل على هذه الأمة من القرآن الكريم، وكذلك أيضًا يؤمنون بالكتب المُنزلة قبله عليهم، فجمعوا بهذا الإيمان، جمعوا ما يجب الإيمان به، وهؤلاء هم الذين دخلوا في الإسلام؛ لأنه إذا كان يؤمن بما أُنزل إلينا فإن ذلك يقتضي اتباعه، وإلا كان كافرًا به، فهذا ثناء على من دخل منهم الإسلام.

قال: خَاشِعِينَ لِلّهِ بمعنى أنهم في حال من الخضوع، والتذلل لله -تبارك وتعالى- والإخبات له.

لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً يعني لا يستعيضون عن ذلك بشيء من حُطام الدنيا، بالتبديل والتحريف مُقابل الرُشى، أو ما يأخذونه عِوضًا عن ذلك من ولايات وغيرها، أو كان ذلك بكتمان ما أنزل الله -تبارك وتعالى-، لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً لا بالتبديل ولا بالكتمان.

أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ، فهؤلاء لهم ثواب عظيم عند الله -تبارك وتعالى-، إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب يُحاسب الناس جميعًا كنفس واحدة، وكذلك أيضًا فإنه يُحصي أعمالهم لا يُعجزه ضبطها، وإحصاؤها، وكتبها كل ذلك على كثرة الخلق، وعلى كثرة جناياتهم وأعمالهم، وكذلك أيضًا حسابه سريع، فهو يحصل في الدنيا، ويحصل أيضًا في الآخرة.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ جاءت هذه الجملة مؤكدة كما ترون بـ"إنّ" التي هي بمنزلة إعادة الجملة مرتين، وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فهنا دخلت "من" التبعيضية وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، يعني: أن بعضهم، طائفة منهم، وليس كل أهل الكتاب، كذلك كما هو معلوم، بل هذا وصف للقلة، فلما كانت هذه السورة في صدرها فيما يزيد عن ثمانين آية تتحدث عن أهل الكتاب، وترد عليهم، وتُبطل دعواهم، وتُبين حقيقة دين الإسلام، وملة إبراهيم .

ذكر بعد ذلك أن من أهل الكتاب من يؤمن الإيمان الواجب الصحيح وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ لاحظ هنا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ فـ"ما" هذه تُفيد العموم، يعني: يؤمنون بجميع ما أُنزل علينا، ويؤمنون بجميع ما أُنزل عليهم، وليسوا كمن قال الله : أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85]، هؤلاء يؤمنون بجميع المُنزل، لا يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض، فلما كان هذا الإيمان هو الإيمان الحقيقي النافع ترتب عليه أثر.

قال: خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فأحدث لهم الخشوع والخشية، فما صاروا يستعيضون عن ذلك بالرُشى، وأخذ العرض القليل من الدنيا، فلا يُقدمون الدنيا على الدين، كما يفعله كثير من أحبارهم، ورُهبانهم إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [التوبة:34]، وذلك بالكتمان والتحريف، وما إلى ذلك مما هو معلوم، أما هؤلاء فكان مرادهم هو الله والدار الآخرة، ومن ثَم فإنهم في حال من الخشوع، وهذا هو الإيمان الحقيقي المؤثر الذي يُحدث لصاحبه خشوعًا، ويُحدث له خشية من الله -تبارك وتعالى-، بحيث إن صاحبه يؤثر الموت والقتل على أن يرجع عن دينه، فهو لا يرجع عنه بحال من الأحوال.

وكذلك ينبغي أن يكون المؤمن لاسيما من كان عنده علم الكتاب، أن ذلك ينبغي أن يورث له خشوعًا، وأن يظهر ذلك عليه، وألا يكون من أهل الغفلة وقسوة القلب، وأن يكون حاله كحال من لا يعلم، وكذلك أيضًا ينبغي أن يكون بحال لا يستعيض عن ما علم وعرف حقيته بشيء من الدنيا، ولو أُعطي الدنيا وما فيها، لاحظ هذه الآية لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً، "ثمن قليل" كما قال أهل العلم: "الدنيا، وما فيها ثمن قليل" كل الدنيا لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء[1]، فكل ما في الدنيا فهو ثمن قليل، فكيف إذا أُعطي بعضًا من هذه الدنيا، كيف لو أُعطي بعض جناح البعوضة.

أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ لاحظ الإشارة إليهم بإشارة البعيد "أولئك"، الإشارة ثلاثة أنواع كما يذكره بعض أهل العلم، وليس ذلك محل اتفاق، "أولئك" هذا للبعيد، فأشار إليهم لعلو مرتبتهم، ورفعة درجتهم، فهذا تنويه بهم، وتشريف لأوصافهم، وذكر لأحوالهم؛ ليُقتدى بها، أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ لاحظ: جاء بالضمير المتعلق بهم، فقدمه أُوْلَـئِكَ لَهُمْ.

لما كان مقصودهم هو الخلاص، والنجاة، وتحصيل الأجر، وإلى آخره، قال: أُوْلَـئِكَ لَهُمْ، ما قال أولئك أجرهم عند ربهم محفوظ، أو لهم، وإنما قال: أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ فقدم الضمير المُتعلق بهم؛ لأن هذا هو محل العناية، أن يحصل لهم هم، أن ينتفعوا بذلك، وأن يكون عائدة ذلك ترجع إليهم، أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ، وسماه أجرًا كما ذكرنا في بعض المناسبات مع أن الله هو الذي وفق له وهدى ومنَّ على عبده، وأرشد إلى ذلك؛ يعني هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، ومع ذلك سماه أجرًا، وهذا من لُطفه -تبارك وتعالى- بعباده، أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ.

ثم قال: عِندَ رَبِّهِمْ هذا يدل على فخامة هذا الأجر؛ لأنه عند ربهم، فالذي يكون عند الرب العظيم؛ يكون عظيمًا.

ثم إن ذلك يدل على أن هذا الأجر محفوظ، وأنه لا يضيع بحال من الأحوال، ولا يمكن أن يُبخس من أجرهم شيء، أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ، وأضاف ذلك إلى اسم الرب، فمن معاني الربوبية الإثابة، والعطاء، والمنع، والنفع، والضُر، وما إلى ذلك، فإعطاء الأجور هذا من معاني الربوبية، الجزاء على الأعمال هذا من معاني الربوبية، وفيه أيضًا -كما ذكرنا في بعض المناسبات- إشعار باللطف والرحمة؛ لأن من معاني الرب المُربي، والمُربي هو الذي يتعاهد مربوبه، ويوصل إليه أنواع الإحسان واللطُف والبر، وما إلى ذلك.

لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ فهذا الأجر عظيم، ومحفوظ، وهو عند من يتعاهدهم بألطافه، فما ظنكم.

على كل حال الوقت لن يكفي للحديث عن الآية الأخيرة، فالأفضل أن نتوقف الآن، ثم بعد ذلك يكون في مجلس واحد، إن شاء الله تعالى.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي في سننه، برقم (2320)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5292).

مواد ذات صلة