الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلما بين الله -تبارك وتعالى- أن الدين الحق هو دين الإسلام، ورد مزاعم أهل الكتاب، وعجب من حالهم في ابتغائهم غير دين الله -جل جلاله، وتقدست أسمائه-، وأمر نبيه ﷺ ومن تبعه من أهل الإيمان أن يقولوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136]، الآية.
ثم بعد ذلك بين أن كل دين سوى دين الإسلام لا يُقبل عند الله -تبارك وتعالى- فقال: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين [آل عمران:85]، وَمَن يَبْتَغِ، يعني: ومن يطلب دينًا غير دين الإسلام وهذا كما ذكرت في مناسبة سابقة أن أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من فسره بالإسلام العام الذي هو دين جميع الإسلام، إسلام الوجه لله -تبارك وتعالى- له بإسلام الوجه بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك وأهله.
وبعض أهل العلم حمله على الإسلام الخاص الذي دعا إليه النبي ﷺ، وبين القولين مُلازمة، فإن الله -تبارك وتعالى- بعد بعث النبي ﷺ لا يقبل من أحد إلا أن يتبعه، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: ما من يهوديّ ولا نصرانيّ يسمع بي من هذه الأمة ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار[1]، وقال الله -تبارك وتعالى-: فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ، لن يُقبل منه ذلك الدين.
وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين، الذين خسروا الخسارة الحقيقية التي ليس بعدها خسارة: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15].
يؤخذ من هذه الآية إبطال جميع الأديان سوى دين الإسلام، فالله -تبارك وتعالى- بين بيانًا واضحًا صريحًا لا يقبل التأويل أو التشكيك أن الدين الذي رضيه لعباده هو الإسلام، وذلك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[2] بأن الدين لا يكون في محل الرضا والقبول إلا بانضمام التصديق إلى العمل، فيكون ذلك بخلوص القلب من الإشراك، وكذلك أيضًا يكون بالعمل بالجوارح بطاعة الله -تبارك وتعالى-، فهذا هو دينه الذي ارتضاه هو الدين الوحيد الذي يقبله الله -تبارك وتعالى- من العباد.
وقوله -تبارك وتعالى-: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ، من يطلب غير الإسلام دينًا، فهنا هذه نكرة أعني دينًا في سياق الشرط وهي من صيغ العموم، فدل ذلك على أن سائر الأديان من أديان أهل الكتاب بعد بعث النبي ﷺ، وكذلك ما كانوا عليه من الإشراك قبل بعثه، وكذلك أيضًا سائر طوائف أهل الشرك والأوثان فهؤلاء لا يقبل الله منهم ذلك الدين، ويدخل في عدم القبول المنفي: فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ، عدم قبول الأعمال التي يتقربون بها إلى الله -تبارك وتعالى- ولو كانت خالصة لوجهه، بمعنى أنه لو صام لا يريد إلا وجه الله، أو تصدق وهو لا يريد سوى وجه الله لكنه على غير دين الإسلام فلن يُقبل منه ذلك العمل؛ لأن الله يقول: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [الفرقان:23]، وقال: أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ [النور:39] ، أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ [إبراهيم:18] ، يشمل الدين الذي دانوا به سوى دين الإسلام، ويشمل أيضًا الأعمال التي يعملونها إذ إن شروط قبول الأعمال ثلاثة:
الأول: أن يكون على قاعدة صحيحة وأصل صحيح وهو التوحيد والإيمان.
الثاني: أن يكون خالصًا لوجه الله .
الثالث: أن يكون صاحبه متبعًا لشرع الله، يعني: أن يكون موافقًا للمشروع، فهذا كما قال الله -تبارك وتعالى- في أول سورة الكهف: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ، هذا الشرط الأول: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا [الكهف:2]، فالذين يعملون الصالحات لا يكون العمل صالحًا إلا إذا كان خالصًا صوابًا، وكذلك في آخرها: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا [الكهف:110]، فهذا ينتظم الشرطين: الإخلاص والمتابعة، ثم الشرط الذي هو الإيمان والتوحيد وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، والله يقول لنبيه ﷺ وحاشاه من الوقوع في الشرك: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين [الزمر:65].
ولما ذكر جملة من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في سورة الأنعام قال: وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُون [الأنعام:88]، فهذه شروط قبول العمل الثلاثة.
وقوله: فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ، جاء بأقوى صيغة من صيغ النفي عند أهل اللغة والأصول، فَلَن يُقْبَلَ، يعني: لا يُقبل بحال من الأحوال، لا يُقبل منه قليل ولا كثير، وإنما يكون مردودًا عليه فيكون كالسراب الذي يتبعه فإذا وافى ربه لم يجد شيئًا، فهنا قال: فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ، لاحظ أنه لم يقل لن يقبل الله منه وإنما بنى ذلك للمجهول: فَلَن يُقْبَلَ قالوا ليشمل القبول بأنواعه، فالله لا يقبل منه دينًا سوى الإسلام، والرسول ﷺ لا يقبل منه سوى الإسلام، وكذلك المؤمنون فإنهم لا يقبلون سوى دين الإسلام، والنبي ﷺ حينما قال: ما من يهوديّ ولا نصرانيّ يسمع بي من هذه الأمة ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار.
فرفض هذا الدين المخالف لدين الإسلام يكون من قِبل الله ومن قِبل الرسول ومن قِبل أهل الإيمان، وهكذا فإن قوله -تبارك وتعالى-: فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ، هذا مرتب على ما قبله ترتيب الجزاء على الشرط: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا، هذا الشرط، فَلَن يُقْبَلَ، الفاء هذه تدل على ترتيب ما بعدها: فَلَن يُقْبَلَ، عدم القبول، على ما قبلها وهو ابتغاء غير دين الإسلام، فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ، يعني: ما دام على هذه الحال، لكن لو أنه تاب وأناب فإنه يُقبل منه؛ لأن الفاء هذه تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، وتدل أيضًا على التعليل، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدما، فإذا انتفت العلة وترك ما هو عليه من الإشراك وصار إلى دين الحق الذي هو دين الإسلام فإنه يُقبل منه، فهذا مرتب على هذا، ولذلك فإن الذين ارتدوا عن الإسلام بعد موت النبي ﷺ قبل الصحابة منهم توبتهم فقد رجع عامتهم إلى الإسلام، والعلماء تكلموا في أعمال أهل الردة إذا رجعوا إلى الإسلام هل تُقبل ما كان قبل الردة؛ لأن الردة تكون سببًا لحبوط العمل، وكذلك أيضًا إذا كان قد حج قبل الردة ثم ارتد ثم رجع إلى الإسلام هل يلزمه حج من جديد؟
هذا فيه خلاف معروف والأقرب، -والله تعالى أعلم-، أن أعماله تُحتسب، وأنه لا يلزمه حج آخر إذا رجع إلى الإسلام، وأن أعماله عند الله -تبارك وتعالى- قبل الردة لا تضيع حينما رجع إلى الحق بعد ردته.
وهنا قال: فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ، في موضع آخر في التوبة قال: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [آل عمران:90]، ولم يقل: فلن تقبل توبتهم، فهذا في هذا الموضع مرتب على العلة قبله وهي ابتغاء دين آخر غير دين الإسلام، هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة.
وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الفائزين المقبولين، وأن يرحمنا برحمته، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه النسائي في السنن الكبرى، برقم (11177)، والحاكم في المستدرك، برقم (3309)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (3093).
- مجموع الفتاوى (7/360).