الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما بين الله -تبارك وتعالى- أنه ما يكون بحال من الأحوال لمن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون الله، وأن هذا منتفٍ، وفيه رد على النصارى كما ذكرنا بحيث إن هذا السياق الطويل في أصله يتحدث عن النصارى، وفيه رد على اليهود أيضًا، وكذلك رد على طوائف أهل الإشراك، قال الله -تبارك وتعالى- مُبينًا أن ذلك من الكفر، قال الله -تبارك وتعالى- بعد هذه الآية: وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُون [آل عمران:80]، فإذا كان لا يدعو بحال من الأحوال إلى نفسه أن يكون معبودًا من دون الله -جل جلاله، وتقدست أسماؤه-، كذلك هو لا يأمرهم بعبادة غير الله كائنًا من كان ذلك المعبود، وَلاَ يَأْمُرَكُمْ، ما كان له أيضًا أن يأمركم باتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا تعبدونهم من دون الله .
أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُون، لأن الأمر بعبادة غير الله هو أمر بالكفر، وكل من عبد غير ربه فهو كافر، صرف العبادة لغير الله كفر، فهل يُعقل أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ، فهذه الهمزة للإنكار، فهو استفهام إنكاري.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا، أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- جميعًا من أولهم إلى آخرهم يأمرون بالتوحيد ويدعون إليه ويُقررونه في كل طريق، وأن أتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ينبغي أن يكونوا كذلك، ثم إن تخصيص الملائكة والنبيين هنا وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا، هنا يمكن أن يكون خص الملائكة والنبيين باعتبار أنه وقع تأليه لهم، فطوائف من العرب عبدوا الملائكة، وكذلك أيضًا النصارى عبدوا المسيح، واليهود قالوا عزير ابن الله، هذا بالإضافة إلى ما ذكره الله في وصف إشراكهم اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31]، فهذا اتخاذ الأحبار والرهبان في طاعتهم في تحليل الحرام أو تحريم الحلال تلك عبادة، فخُص هؤلاء أعني الملائكة والنبيين -عليهم الصلاة والسلام- قد يكون لذلك، وقد يكون لأمر آخر يعني أنه ذكر هؤلاء مع ما لهم من المنزلة الرفيعة والدرجة العالية، فمن سواهم من باب أولى، إذا كان الملائكة والأنبياء لا يُتخذون لهذا المعنى فغيرهم ممن دونهم من الأموات والأحياء والأحجار والأشجار، كل هؤلاء لا يصح بحال من الأحوال أن يتخذوا آلهة من دون الله -تبارك وتعالى-، وفي ضمن هذا النفي الخبر تقرير للتوحيد، فدل ذلك على أن اتخاذ الملائكة والأنبياء أربابًا من دون الله أن ذلك خلاف التوحيد المأمور به، والذي لا تحصل النجاة إلا بتحقيقه، وفي هذا رد على جميع الطوائف المنحرفة الذين يعبدون القبور والأضرحة، ويقربون إليها القرابين والنذور، ونحو ذلك، فإذا كان لا يأمر باتخاذ الملائكة والأنبياء أربابًا، فمن باب أولى اتخاذ من يسمون بالصالحين؛ فإن ذلك لا يسوغ بحال من الأحوال يعني من باب أولى.
وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُون، هذا يمكن أن يكون من الكلام المُستأنف في خطاب المؤمنين عن طريق التعجب من مثل هذا، كيف يأمركم بذلك، بعد إذ أنتم منقادون لله سبحانه.
ثم قال الله : وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِين فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون [آل عمران:82].
هذه الآية أيضًا رد على هؤلاء النصارى، وهي رد أيضًا على اليهود وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ، "وإذ أخذ" يعني: واذكر إذ أخذ الله ميثاق النبيين، والميثاق هو العهد المؤكد، فأخذ عليهم الميثاق لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، والحكمة إذا ذُكرت مع الكتاب فهي بمعنى السنة والوحي غير المتلو.
لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ، فيها قولان مشهوران للمفسرين:
الأول: أن ذلك بمعنى إذا جاء رسول بُعث في عهدهم أنهم يؤمنون به وينصرونه.
والقول الآخر: أن المقصود بذلك النبي ﷺ أعني محمدًا -عليه الصلاة والسلام- أن الله أخذ على جميع الأنبياء الميثاق أنه إذا بُعث أن يؤمنوا به، وأن ينصروه، ويؤازروه، فهذا معنى مشهور، وعند النظر يمكن أن يُقال بأن بين المعنيين مُلازمة، فإذا كان الله -تبارك وتعالى- أخذ عليهم الميثاق إذا بُعث نبي أن يؤمنوا به، وأن ينصروه، فلا شك أن ذلك يدل على وجوب الإيمان بالنبي ﷺ لمن أدركه من أهل الكتاب، وأن ينصره، وأن يكون متبعًا له.
ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ، مصدق لما معكم باعتبار أنه يؤمن بالأنبياء الذين أرسلوا إليهم وما أوحى الله إليهم به من الكتب، وكذلك أيضًا ما يأتي به من أصول الديانة من التوحيد، وأركان ودعائم الإسلام العِظام، فهو موافق لما جاء به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ودعوا إليه، وكذلك أيضًا هو مصدق لما معهم بما في كتبهم من أخبار، فما لم يدخله التحريف قد جاء في القرآن ما يوافقه ويُصدقه، فذلك تصديق لما معهم، وهكذا أيضًا في شهادته لهؤلاء الأنبياء بالنبوة، وبهذه الكتب بأنها مُنزلة في أصلها كل هذا من قبيل التصديق.
كذلك ما جاء في هذه الكتب من الإخبار به وذكر الصفة التي يكون عليها فجاء كما جاء في تلك الكتب، فهذا أيضًا تصديق لما بعدهم، فأخذ عليهم العهد والميثاق لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ، أخذ عليهم الإقرار بذلك، اعترفتم بهذا، أخذتم على ذلك عهدي الموثق وهو الإصر، قَالُوا أَقْرَرْنَا [آل عمران:81]، وأشهد على ذلك قَالَ فَاشْهَدُوا [آل عمران:81]، يعني: اشهدوا فليشهد بعضكم على بعض، اشهدوا على أنفسكم وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِين، فذكر شهادته مع شهادتهم، وذلك تغليظ لهذا الميثاق، والعهد المؤكد.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ، على المعنى الأول كما جاء عن ابن عباس، وجماعة من السلف، وهو مروي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عن الجميع- أنه لم يُبعث نبي من الأنبياء إلا أخذ الله عليه الميثاق لئن بُعث محمد ﷺ وهو حي أن يؤمن به وأن ينصره، وأمره بأخذ الميثاق على أمته بذلك[1].
يعني: كل نبي يأخذ الميثاق على أمته بهذا، فهذا على هذا المعنى، وعلى هذا القول وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[2]، يدل على منزلة النبي ﷺ وشرفه حيث إن الله -تبارك وتعالى- أخذ الميثاق على جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من أولهم إلى عيسى -صلى الله عليه وعليهم أجمعين- أن يؤمنوا برسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
وهذا أيضًا يدل على أن هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين أخذ الله عليهم الميثاق أنهم عبيد لله مربوبون له، منقادون لأمره، فليسوا بآلهة تُعبد من دون الله ولا ينبغي أن يحصل غلو فيهم، فيُجعل فوق منازلهم مما فعله أهل الكتاب من عبادتهم وتأليههم.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ، هذا خبر، هي جملة خبرية، ولكنها متضمنة معنى الإنشاء، يعني: أنه ينبغي على من أدرك النبي ﷺ من هؤلاء الذين يزعمون أنهم أتباع الأنبياء، وأنهم أصحاب كتب منزلة من عند الله -تبارك وتعالى- أن يؤمنوا برسول الله -عليه الصلاة والسلام- فهذا خبر مُضمن معنى الأمر، الأمر باتباعه والإيمان به وواقعهم على خلاف ذلك، إذا كان هؤلاء الأنبياء لو كانوا أحياء وجب عليهم الإيمان به، فكيف بغيرهم؟ وقد قال النبي ﷺ: والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًّا، ما وسعه إلا أن يتبعني[3]، فإذا كان الأنبياء كذلك فغيرهم من باب أولى، وفيه رد على أولئك الصوفية، أو طوائف من الصوفية الذين يقولون: بأن الإنسان يصل إلى مرتبة يخرج فيها عن حد التكليف، بحيث إنه لا يجب عليه أن يكون عاملاً بما جاء في الشريعة، يعني: أنه وصل إلى مرحلة عالية في الكشف، وما إلى ذلك، فسقطت عن التكاليف، فهذا هو غاية الكفر والإلحاد.
وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية حيث إن الله -تبارك وتعالى- أخذ الميثاق على هؤلاء الأنبياء، ثم أيضًا قررهم بما قررهم به قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي، أنه في القضايا الكبار والأمور المهمة يمكن أن يؤخذ العهد المؤكد على الإنسان، بل ويؤخذ بعد ذلك أيضًا إقراره عليه، فيكون ذلك من توثيق هذا العقد والعهد وتأكيده.
كذلك أيضًا في قوله -تبارك تعالى-: وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ، هذه بضمير الغائب، ثم قال: لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ، فجاء بصيغة المخاطب هذا يسمونه التفات، يعني: من الغائب إلى المخاطب، وكأنه لما جاء إلى هذه القضية المهمة التي هي صُلب الميثاق وجه الخطاب إليهم وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِين.
كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات، وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ: أن العهد يمكن أن يكون بمثل هذا بما أعطيه الإنسان من كرامة الله -تبارك وتعالى- وهباته ونحو ذلك.
وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: فَاشْهَدُوا [آل عمران:81]، في جواز إشهاد الإنسان على نفسه للتأكيد والتوثيق، وإلا فإن الشهادة تفاصيلها معروفة من الناحية القضائية.
وكذلك أيضًا في قوله: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]، فهذا فيه تأكيد ويدل على مزية رسول الله ﷺ على القول الأول الذي ذكرناه حيث أخذ هذا العهد المؤكد، وشهد بنفسه -تبارك وتعالى- معهم.
وهكذا أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الله -تبارك وتعالى- أراد بذلك إقامة الحجة عليهم والتأكيد والتوثيق وإلا فالله ليس بحاجة إلى شهادة أحد؛ لأنه يعلم السر وأخفى، علمه محيط بكل شيء فهذا أمر معلوم، ولكن لتوثيق وتأكيد هذا وإقامة الحجة على الخلق.
ثم قال الله -تبارك وتعالى-: فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون [آل عمران:82]، فمن أعرض عن الحق ودين الحق بعد هذا البيان، وهذا العهد المؤكد الذي أُخذ على الأنبياء فأولئك هم الخارجون عن دين الله .
فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ، هذا يدل على أن الإنسان لا يؤاخذ قبل بعث الرسل، أو قبل إقامة الحجة عليه، فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ.
كذلك أيضًا فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون، مضى الكلام عن مثل هذا التركيب مرارًا فأولئك إشارة هنا "أولئك" أشار إليهم كأنهم بُعداء، ثم جاء بضمير الفصل بين طرفي الكلام بين طرفي الجملة "هم" لتأكيد نسبة المُبتدأ للخبر، "فأولئك هم" ثم دخلت أل على الخبر "الفاسقون" وهذا يُشبه الحصر، كأنه لا فاسق إلا هم، فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون، تقول: هؤلاء هم الكرام، هؤلاء هم البُصراء، هؤلاء هم العارفون، هؤلاء هم الأبرار، ونحو ذلك، فهذا للمُبالغة في بيان الوصف، وهو أسلوب يشبه الحصر، كأنه لا فاسق إلا هم، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- تفسير الألوسي = روح المعاني (2/201).
- مجموع الفتاوى (3/92).
- أخرجه أحمد، (15156).