بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
لا زال الحديث -أيها الأحبة- متصلاً بقوله -تبارك وتعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [سورة البقرة:177].
فقد تحدثنا عن صدر هذه الآية، ونواصل الحديث عن قول الله -تبارك وتعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ يعني على حب المال ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ فقدَّم المال وَآتَى الْمَالَ وهو المفعول الثاني، ولم يقل: وآتى ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب المال، وإنما قال: وَآتَى الْمَالَ لأن هذا المال هو المخرج، وهو المقصود، وهو شقيق الروح، فقدَّمه، وإلا فهو المفعول الثاني، وأصل الكلام في سياقه: وآتى ذوي القربى المال، وآتى المساكين المال، لكنه قال: وآتى المال ذوي القربى.
وهكذا أيضًا هذا الترتيب في هؤلاء المعطين لهذا المال، وآتى المال ذوي القربى، فقدَّم الأهم، فبدأ بذوي القربى؛ لأنهم أحق بالإحسان، فهي صلة وصدقة في حقهم، فيبدأ بمن يعول، ثم الأقرب فالأقرب.
ثم ذكر بعد ذلك من تمس حاجتهم إلى المال، فذكر اليتامى بعد ذوي القربى، واليتيم ضعيف، مهيض الجناح، لا عائل له، وهو صغير، فيمكن أن يبتز ويُضيّع، وليس له قدرة على الكسب، والذهاب مذهب الرجال، والاكتساب كاكتسابهم، فهو دون ذلك، ليس عنده قوة ولا قدرة لا في عقله وتفكيره، ولا في جسمه وجسده، فهو ضعيف عن مزاولة الأعمال، فهو بحاجة إلى رعاية.
ثم ذكر المساكين، فهم وإن كانوا كبارًا يستطيع الواحد منهم أن يحمي نفسه، وليس كاليتيم، لكن حاجتهم ملازمة، فهو مسكين فقير، كأنه لشدة حاجته وفقره قد سكنت أعضاؤه وجوارحه لشدة فقره.
ثم ذكر بعد ذلك من هو أقل حاجة، ومن كانت حاجته عارضة، وهو ابن السبيل، فابن السبيل قد يكون غنيًا في بلده، لكنه في سفره قد انقطع، وذهبت نفقته، وهو غريب في البلد الذي يجتاز فيها، فهو بحاجة إلى التفاتة وإحسان، فيعطى ما يصلح لمثله، حتى يصل إلى بلده، ولا يترك مضيعًا في بلد هو غريب فيها، تكفيه غربته، فهو مستوحش، فجعله بهذه المثابة.
ثم ذكر بعد هؤلاء السائلين؛ لأن هؤلاء يسألون، فيحصلون من هذا وهذا، وليسوا كالمسكين المتعفف الذي لا يسأل، أو كاليتيم الذي لا رفد له، ولا أب له، ولا معين، ولا قدرة على الكسب، أما هذا الذي يسأل الناس، فإنه يجد من هؤلاء ما يسد بعض حاجته، ثم هؤلاء منهم الصادق، ومنهم غير الصادق، فالذين يسألون كثير، وقد يبالغ في وصف حاله، وقد يكون من ذوي الحاجات، ولكنه ليس كما وصف، فذكرهم بعد هؤلاء.
ثم ذكر الرقاب، فهؤلاء المماليك هم بالنسبة لذوي الحاجات أقل حاجة؛ لأن سيده يكفيه، فيطعمه ويكسوه، ويقوم بشؤونه وحاجاته، فله كافل ينفق عليه، لكنه إذا أعتق فإن ذلك يكون كمالاً في حقه، لكن أولئك قد يتضورون من الجوع والحاجة والشدة والمسغبة، فهم أولى من هذا الذي يتقلب في دار سيده، وقد كفي حاجاته.
ثم بعد هذه الأنواع التي ذكرها قال: وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ فجاء هذا العطف وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وبهذه الصيغة (الموفون) بصيغة الفاعل، أقام الصلاة، وآتى الزكاة، هذه أفعال، فلم يقل: وأوفوا العهود، وإنما قال: وَالْمُوفُونَ والاسم أو الجملة الاسمية -كما هو معلوم- تدل على الثبوت، ومعنى ذلك: أن الوفاء بالعهد سمة لازمة ثابتة للمؤمن بكل أحواله، لا يبدل ولا يغير.
ثم أيضًا عطف عليه الصابرين، فقال: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ وهذا فيه حث على لزوم الصبر في الأحوال كلها، فهنا ذكر الأحوال التي يكون فيها الصبر: الشدائد في البأساء، وهي الفقر والشدة والحاجة، والضراء في حال المرض، وحين البأس في حال القتال، فهذا الصبر إما أن يكون لما يقع للإنسان من حاجة، فهو يتضور من الجوع والفقر، فيحتاج إلى صبر، ولا يحسد أحدًا لما أعطاه الله -تبارك وتعالى- ولا يتسخط على ربه، ولا يسوء ظنه بالله ويقول: أفقرني وأعطى غيري، فهذا من سوء الظن بالله، ومن التسخط.
وكذلك أيضًا حال الضراء وهو المرض، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي اختار لعبده هذا الضر، وساق ذلك له عن علم وحكمة، فما عليه إلا أن يصبر، وهذا الجزع والتسخط لن يرد مفقودًا، ولن يجلب أيضًا مطلوبًا، وإنما يفقد به أجره عند الله -تبارك وتعالى- فيحتاج العبد إلى أن يوطن نفسه على الصبر في الشدائد بأنواعها، وهذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: كالحر والبرد، لا بد منه، في بعض أوقات السنة يكون الحر، وفي بعض الأوقات يكون البرد، وفي بعضها يكون الاعتدال[1].
وهكذا يقلب الله خلقه وعباده بهذه الأمور، فمن الناس من ينكشف وينكسر في حال الشدة، ومنهم من ينكشف في حال الرخاء، والله -تبارك وتعالى- يبلو عباده بالشر، كما يبلوهم بالخير، فمن الناس من يصبر على الضراء، ولكنه لا يصبر على السراء، ومنهم عكس هذا، فيُقلَّبون الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [سورة الملك:2] وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [سورة الأنبياء:35] نبلوكم: أي نختبركم، فإذا عرف المؤمن مثل هذا، فإنه يُوطِّن نفسه، ويتلقى ذلك عن الله -تبارك وتعالى- وهو الرحيم العليم الخبير الحكيم بنفس رضية، وهذه الحياة من أولها إلى آخرها قصيرة، تمر على الصحيح والعليل، وعلى المكروب وعلى أصحاب النعم والرخاء، كأنها أحلام، ولو تأمل المبتلى لعلم أن أيام العافية أطول وأكثر، وأن الله -تبارك وتعالى- قد ساق إليه من أنواع النعم واللذات ما لا يقدر قدره، ولكن الإنسان ضعيف، فإذا حصل له المكروه نسي هذه الأيام المتطاولة في النعم، وضاقت الدنيا بعينه، وهذا لقلة صبره، والله المستعان.
ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية بهذا التلوين العطفي والإعراب وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ فلماذا جاء هذا منصوبًا، وقد قال قبله: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا فلماذا لم يأتِ مرفوعًا فقال: والصابرون في البأساء والضراء؟ العلماء يجيبون عن هذا بأجوبة كثيرة، بعضهم يقول: نصب على الاختصاص، يعني: وأخص الصابرين، لشدة ذلك على النفوس، وعظم وقعه؛ ولمنزلة الصبر إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة الزمر:10] فهذه الأعمال -المذكورة قبل- جليلة، ولكن الصبر هو مُعوَّل المؤمن، ومن عادة العرب كما هي القاعدة المعروفة في التفسير: أنها تقطع إذا تطاولت صفة الواحد في المدح أو الذم، تقطع بالرفع تارة، وبالنصب تارة، وهذا عندهم أبلغ في المدح أو الذم، وهذا يجاب به عن نظائره بالقرآن.
وكذلك أيضًا فيه تنشيط، وهو أبلغ في الكلام، وأدفع للسآمة مما لو كان على نسق واحد، فهذا يُنبّه إلى خصيصة تتصل بالصابرين.
ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية من قوله تعالى: وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (أولئك) أشار إليهم بالبعيد لعلو مرتبتهم، وشهد لهم أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فهؤلاء هم أهل الصدق فعلاً في الإيمان، ولم تكن دعوى الإيمان مجرد دعوى يقولونها بألسنتهم، ولكنهم حققوا ذلك بقلوبهم وجوارحهم أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ فأعاد الإشارة إلى البعيد (وأولئك) وجاء بضمير الفصل بين طرفي الكلام لتقوية النسبة وَأُوْلَئِكَ هُمُ ودخلت (أل) على الخبر الْمُتَّقُونَ يعني كأنهم الذين حققوا الوصف الكامل من التقوى، تقول: هذا هو الكرم، وهذه هي الشجاعة، وهذا هو الرجل، يعني الرجل كامل الرجولية، وهذا هو الإتقان، كأنه لا إتقان سوى هذا.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فهذا الوصف من الله -تبارك وتعالى- في ختم هذه الآية يدل على منزلة عالية لهؤلاء، وأن من أراد أن يتحقق بالصفات الكاملة، وأن يترقى في سلّم العبودية في أعلى مراتبه فعليه أن ينظر في هذه الأوصاف، ويعرض نفسه عليها، وانظر إلى هذا الترقي الذي أشرت إليه في هذه الآية في قضايا الإيمان، وقضايا الإحسان، وقضايا الصبر الذي هو حبس النفس.
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر، يعني الصبر على الفقر أسهل، ثم المرض، الفقير لو قيل له: تمرض، أو تبقى فقيرًا؟ لقال: أبقى فقيرًا صحيحًا، ثم ذكر الصبر في القتال، حيث تتطاير الرؤوس، ويرى الموت بعينيه، فينسى المال والولد، وينسى صحته وعافيته، ولا يكون بين يديه إلا الإبقاء على المهجة، فذكر الصبر في البأساء، الحاجة والفقر، والضراء في المرض، فهذا إلى الأعلى، ثم حين البأس.
والمقصود -أيها الأحبة- أنه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: لم يثبت المدح في هذه الآية، ولا في غيرها، إلا على إيمان معه العمل، لا على إيمان خال من عمل[2] فهنا قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ صدقوا في دعوى الإيمان، وهذا أيضًا كثير في القرآن يصف المؤمنين بالصدق كما يصف المنافقين بالكذب، الكل قال بلسانه، ولكن أهل الإيمان صدقوه بالأفعال، وأما أهل النفاق فظهر منهم ما يدل على كذب هذه الدعوى.
فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الصادقين، ومن المتقين الأبرار، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره، وحسن عبادته، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
- المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 145).
- منهاج السنة النبوية (8/ 218) و دقائق التفسير (2/ 112).