بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
لما أمر الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) بالقتال في سبيل، بقوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:244] قال بعده: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة:245] فهذه الآية ذكرت النوع الآخر من الجهاد، وهو الجهاد بالمال، والإنفاق في سبيل الله -تبارك وتعالى، فكما أن القتال بالنفس لا يُدني الأجل، فالآجال مكتوبة، فكذلك إنفاق المال في طاعة الله لا يُذهبه، ولا يُنقصه، بل إن الله -تبارك وتعالى- يُخلفه، ويكون ذلك سببًا لنمائه وزيادته وبركاته، ما نقص مال عبد من صدقة[1]، فهذا أمر مُقرر لا شك فيه.
وقول الله -تبارك وتعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا أي: من الذي يُنفق ماله في مرضاة الله -تبارك وتعالى- وطاعته، قَرْضًا حَسَنًا وذلك فيما كان لله، وفي الله، وابتغاء مرضاة الله -تبارك وتعالى، لا على سبيل الرياء، ولا السمعة، ومن غير منٍ، ولا أذى الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:262] فيدخل في القرض الحسن ما يكون بنية صحيحة، وأن تكون هذه الأبواب المُنفق فيها من الوجوه المشروعة في البر، وكذلك أيضًا أن يكون بنفس طيبة رضية، لا كما قال الله -تبارك وتعالى- في صفة بعض المنافقين من الأعراب وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [سورة التوبة:98] هي مقطوعة من قلبه، ويشعر أنها غير مخلوفة، ولا عائدة لها، ولا ثمرة، ولا جزاء ولا أجر، فهو سيء الظن بالله ، فلا يحتسب هذه النفقة.
وكذلك أولئك يؤذون بسبب نفقتهم يؤذون المُنفق عليه، سواء كان فردًا، أو كان جهة من الجهات، فالفرد كأن يُعطيه، ثم يُعقب ذلك بكلمات، أو تصرفات، أو نظرات، أو بوجه يُنبئ عن استياء أو ازدراء أو احتقار، أو نحو ذلك، ولو كان ذلك موجهًا إلى جهة من الجهات، يعني: إلى غير فرد، كالذي يُعطي مثلاً المؤسسات الخيرية والدعوية، الذين يقومون على الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل، والذين يقومون على دعوة الناس، من مكاتب الدعوة، ونحو هذا، يعطيهم، ثم بعد ذلك يؤذيهم بهذا العطاء، ويُشكك في نزاهتهم، ويُطالبهم بأمور يتكلف فيها، ويُكلفهم عناء بسبب هذا العطاء، وربما طلب منهم أن يكتبوا له خطابًا يشكرونه فيه، وأن يقدموا له درعًا، يُثبت هذا العطاء، ونحو ذلك، فهذا كله خلاف القرض الحسن.
وهذا الذي يُقرض الله قرضًا حسنًا، فيُضاعفه له أضعافًا كثيرة، العشرة إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، كما قال الحافظ ابن كثير[2]، كما سيأتي في آيات الإنفاق -إن شاء الله تعالى- بحسب النفقة من طيب المكسب، وكذلك بحسب ما يقوم في قلب الإنسان وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [سورة المؤمنون:60] يخشى أن لا يُقبل منه، غير من يُعطي وهو يشعر أنه قد جاء بعمل عظيم كبير، كأنه يمتن على ربه -تبارك وتعالى، وكذلك أيضًا تُضاعف بحسب ما يقوم في قلب العبد من الإخلاص، وبحسب شدة حجة تلك الجهة أو الناحية التي صُرف فيها هذا الإنفاق فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [سورة البلد:11-16] والنفقة على القرابات، هي صلة ونفقة، فهذه أجور مُضاعفة، وهكذا أيضًا حينما يكون أثر هذه النفقة مُتعديًا، بحيث يكون لها آثار تُثمر فيها، وتُزاد، ويكون ذلك رفعة لصاحبها، وزيادة في الحسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، يعني: أكثر من سبعمائة ضعف.
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فهو يقبض في الرزق، ويبسط في الرزق، فالأمر كله عند الله -تبارك وتعالى، ويقول: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [سورة البقرة:245] فهو الذي بيده العطاء والمنع، وهو الذي بيده القبض والبسط، فهو القابض والباسط، فكل شيء بيده، والخزائن بيده، والرزق الذي يأتيك منه -تبارك وتعالى، فإذا بذلت المال في هذه الناحية، وهذا الوجه الذي أمرك الله به، فأبشر بالعِوض، وهذا أمر مُشاهد، العِوض في الدنيا، والعِوض في الآخرة، فالله -تبارك وتعالى- بهذا يحث على الإنفاق، أنفقوا، ولا تبالوا، فإن الله هو الرزاق الذي بيده القبض والبسط، يوسع على أقوام، ويُضيق على آخرين، وكل ذلك لحكمة بالغة، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ترجعون إليه بعد الموت، فيُجازيكم على أعمالكم، فهذا يُؤخذ منه -كما سيأتي- الوعد على الثواب والجزاء.
فيُؤخذ من هذه الآية مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [سورة البقرة:245] أن هذا جاء بصيغة الاستفهام كما ترون، فهذه الجملة الاستفهامية مُضمنة معنى الطلب، ففيه حث وحض ودفع للنفوس من أجل أن تبذل، وكذلك أيضًا فيه ما فيه من التشويق، فحينما تقول لمن تُخاطبهم: من ذا الذي يفعل كذا فأعطيه كذا؟ فهذا استفهام مُضمن معنى الحث، وفيه معنى الترغيب.
ولاحظ هنا أن الله -تبارك وتعالى- سمى هذه النفقة في سبيله قرضًا مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا والله غني عن الناس، وعن صدقاتهم، ونفقاتهم، كل ما في أيدي الناس هو من رزقه -تبارك وتعالى، وله خزائن السماوات والأرض، والدنيا من أولها إلى آخرها لا تسوي عنده جناح بعوضة، فما هذا الذي يقدمه الإنسان، ونحن نسأل الله أن يغفر لنا ويرحمنا، إذا أردنا أن نتصدق بحثنا عن الأقل في النقود، وما علم الإنسان أنه في الواقع أنه يُقتر على نفسه، ويبخل على نفسه، فهنا سماه قرضًا، فالقرض هو الذي يكون رجاء عائدة، ورجاء مُقابل، غير الهبة والعطية والهدية، فالقرض يطلب صاحبه عائدته، فهو ينتظر مُقابل هذا القرض، فهذا يدل على أن هذه الصدقة ترجع إلى صاحبها؛ ولهذا سماها قرضًا، فحينما يبذل الإنسان ويُقدم هو قرض، قرض لمن؟ لأكرم الأكرمين، وأغنى الأغنياء، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، فالقرض حقه الوفاء، فالمُقترض هو الله -تعالى- وهو أوفى.
وكذلك أيضًا يدل على أن رجوعها أمر محسوم، إذا صحت النية، وطاب المكسب، وصح الوجه الذي تُنفق فيه، هذه ثلاثة أشياء، بعض الناس قد لا تصح نيته، يُفسدها، يتحدث، فيذهب المال، ويذهب الأجر، ويبقى الوزر، حتى لا يخرج كفافًا؛ لأن الرياء شرك، وأحيانًا قد يكون مُخلصًا، ولكن المكاسب فاسدة، هذه الأموال من أين أخذها؟ أخذها من مكاسب محرمة، والله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وقد يكون المكاسب طيبة، والنية صالحة، لكن الوجه الذي بُذلت فيه غير صالح، كالذي يُنفق أموالاً في نذور وذبائح تُذبح لغير الله ، وإسراج القبور، وبناء القِباب عليها، وضع السقايات عندها، وهكذا ما يُبذل في سائر البِدع والمحدثات والضلالات، والمعاصي لله -تبارك وتعالى، فهذا كله لا يصح، ربما يُقيم حفلة كبيرة، ويُنفق فيها الملايين بمناسبة مولد النبي ﷺ، فهذا لا يصح؛ لأنه أمر مُحدث، فلا يُتقرب إلى الله بإحياء هذه المناسبة.
ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: أنه إذا كان القتال في سبيل الله لا يُنقص الأجل، فالنفقة في سبيله لا تُنقص المال، يا ابن آدم أنفق أُنفق عليك[3]، وقال: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني[4]، إلى آخر الحديث، وذكر فيه: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولاحظ كلمة "عندي" فهذه لها دلالة عميقة، إذا قال العظيم الأعظم: عندي، يعني هذا نهاية الضمان والكمال والوفاء والتمام، لكن نقص اليقين عندنا هو الذي يجعل هذه النفوس تحسب حسابات طويلة عريضة، إذا أراد الإنسان أن يُنفق، ولو قليلاً، فالجزاء عند الله -تبارك وتعالى- مضمون، كضمان القرض للمُقرض.
وفي الآية أيضًا: بيان سعة فضل الله وسعة عطائه، حيث يُضاعف الجزاء بأضعاف كثيرة مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [سورة البقرة:261] سبع سنابل، تكلمنا على هذا طويلاً في الأمثال في القرآن، وبعض أهل العلم ذكر أنه لا يُعرف في الدنيا حبة تُنبت سبع سنابل، في كل سُنبلة مائة حبة، وأن هذا على سبيل الفرض، فما عند الله يفوق ذلك، أما ما يُعطاه الناس في مُعاملاتهم وتجاراتهم ومُساهماتهم، كما يُعطون؟ هذا الربا الذي يأخذونه اثنين ونصف بالمائة، ومع ذلك قد يبيع دينه، ويأكل الحرام طمعًا في هذه النسبة.
وهذه المساهمات والتجارات كم يأخذ عليها؟ وكما سيُحصل من هذه المساهمة البائسة التي قد يخسر فيها، وقد تبقى مُعلقة مدة سنوات، وماله لا يرجع إليه -أعني رأس المال، فهي ليست مضمونة، فكم يأتيه بأقصى ما يطمح إليه الطامحون؟ إلى أربعين بالمائة، فيتهافت كثير من الناس على مثل هذه المساهمة، ويحصل فيها من الحرص والإلحاح، وبعضهم يذهب ويقترض من أجل أن يضع هذا المال فيها، وبعضهم قد يبيع داره من أجل أن يضع هذا المال فيها، والله يقول: فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً مضمونة، ومع ذلك في هذه المساهمات يبحث عن الأقل، عن الريال، ونحو الريال.
وأيضًا هذه الأضعاف والجزاء والوعد والترغيب، مع أن الله هو الذي أعطى المال، وهو الذي وفق العبد وهداه، وأعلمه بمحابه ومراضيه، وهو الذي هداه للامتثال، ويُجازيه، ومع أنه هو الذي أعطى المال، لكن يُسميه قرضًا، حينما يُبذل في طاعته ومرضاته.
وفي قوله: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ فيه إثبات هذه الصفات القبض والبسط، على الوجه اللائق بجلال الله، وعظمته، وفيه بيان: أن العبد سيلقى جزاءه وعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وسيُحاسبكم ويُجازيكم، لا تزول قدما عبد يوم القيامة، "لا" هذه أقوى صيغة من صيغ النفي، وذكر ... وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟[5]، من أين أتاك المصدر؟ وأين بذلته؟ وأين ذهب؟ يسأل عن القليل والكثير، هذا الريال من أين؟ وهذا الألف من أين؟ وهذه الهللة من أين؟ وهذا أين أنفقته؟ وأين بذلته؟ وهذا كانت النية فيه غير صالحة، وهذا كان المُبتغى فيه مما يحرم على العبد تعاطيه، ونحو ذلك، أسئلة تحتاج جواب.
ولهذا ابن دقيق العيد -رحمه الله- الإمام المعروف، كان يقول: "ما عملت عملاً إلا أعددت له جوابًا" يعني: بين يدي الله ، يقول: ما عملت أي عمل إلا جوابه جاهز، إذا سُئلت عنه، لماذا فعلت كذا؟ عند من لا يخفى عليه خافية، ولا يمكن للإنسان أن يعتذر بأعذار غير صحيحة، هذه المحاسبة الصحيحة، فهنا ينبغي على العبد أن يحذر، وأنه سيرجع إلى الله -تبارك وتعالى، فيخاف من هذا الرجوع، وكذلك ما يُرجيه من الثواب والجزاء فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا هذه الصيغة فيها من المُبالغة ما فيها.
وأيضًا هذا المال الذي في أيدينا هو عارية، وكلنا سنرجع إلى الله ، وهذا المال لن يبقى؛ ولهذا يقول ابن آدم: مالي، مالي، قال: وهل لك، يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت؟ أو لبست فأبليت؟ أو تصدقت فأمضيت؟[6]، والباقي لوارث، والإرث هو ملك جبري، بمعنى أنه لا يتوقف على قبول الوراث، يعني: الهبة والعطية والهدية تقول مثلاً: أنا وهبتك هذه الساعة، هذا لا يصير ملكًا لك إلا إذا قبلته، فقد تقول: أنا أعتذر، لا أقبل هذه الهدية، انتهى، أما الإرث فهو ينتقل مُباشرة، لا ينتظر قبول ولا اعتذار، وعند ذلك تستطيع أن تتبرع به إن شئت، وتستطيع أن تهبه، وأن تُبقيه، وأن تتصرف فيه كما تشاء، فهذا الإنسان الذي يقول: مالي مالي، لا يبقى عنده من ماله ولا شيء، يُدرج في هذا الكفن، ويوضع في قبره من غير درهم واحد، ولا شيء، لو جاء إنسان سيضع بضعة ريالات عنده لأنكر الناس عليه، وقالوا: كيف تُضيع المال؟ هذا لا يحل أبدًا.
فنسأل الله أن يُعيينا وإياكم على طاعته، وأن يُلهمنا رشدنا، وأن يتقبل منا ومنكم، وأن يوقفنا وإياكم لما يحب ويرضى.
اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مُبتلانا، واجعل آخرتنا خير من دنيانا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
- أخرجه الترمذي في أبواب الزهد، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر برقم: (2325) وصححه الألباني.
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 691).
- أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف برقم: (993).
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض برقم: (2569).
- أخرجه الترمذي في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، باب في القيامة برقم: (2417) وصححه الألباني.
- أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق برقم: (2958).