الثلاثاء 14 / شوّال / 1445 - 23 / أبريل 2024
(247) تتمة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ..} الآية 282 -[4]
تاريخ النشر: ١٦ / رمضان / ١٤٣٧
التحميل: 876
مرات الإستماع: 1195

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ما زال الحديث متصلاً عن هذه الآية الكريمة في سورة البقرة، وهي آية الدين، وقد مضى الكلام في المجالس السابقة على أولها.

يقول الله -تبارك وتعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:282].

والمعنى: اطلبوا شهادة العدول من رجالكم، ممن ترضون من الشهداء، فإن لم يكن رجلان فشهادة رجل مع امرأتين، تكفي وتُجزئ، ويحصل بها المقصود؛ وذلك من أجل إذا نسيت إحداهما ذكرتها الأخرى، وعلى الشهود هؤلاء أن يُبادروا في إجابة من دعاهم إلى الشهادة، من غير تلكُأ، ولا مُماطلة، ولا تمنُع، وعليهم أن يؤدوا هذه الشهادة بمجرد طلبهم إليها.

وَلا تَسْأَمُوا أي: لا تملوا، ولا تستثقلوا من كتابة الدين، سواء كان ذلك قليلاً، أو كثيرًا، فيُكتب إلى وقته المحدد، فذلك أعدل عند الله -تبارك وتعالى، وفي شرعه، وهو أعظم عونًا على إقامة الشهادة، وعلى أدائها، وعلى إثبات الحق، وأقوم للشهادة، وأقرب أيضًا، وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا فتنتفي الشكوك والاحتمالات، وما إلى ذلك، سواء كان ذلك في قدر الدَّين، أو في جنسه، أو في أجله، وإلى متى كان الاتفاق؟ إلا إذا كانت المسألة مسألة بيع وشراء، ومعاطاة مُباشرة، فليس فيها دين، ولا تأجيل، فلا حاجة إلى الكتابة، لكن يُستحب الإشهاد، وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ.

وفي قوله: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ فهؤلاء الشهود يجب عليهم الإجابة، لكن من غير ضرر يُلحق بهم، ولا يُلحقون الضرر أيضًا بمن احتاج إلى شهادتهم، وإن تفعلوا ما نهاكم الله -تبارك وتعالى- عنه، فإن ذلك فُسُوقٌ يعني: خروج عن طاعته -تبارك وتعالى، والله تبارك يُذكرهم ويخوفهم، ويأمرهم بتقواه، كما سيأتي الكلام على آخر الآية -إن شاء الله تعالى.

فيُؤخذ من قوله: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ أن الأصل في الشهادة الرجال، وأن شهادة النساء استثناء؛ لأن المقصود هو إثبات الحق، والمرأة تُقبل شهادتها فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ وهذا في قضية مالية، فالنساء شقائق الرجال، ولكن لما كان الغالب في المرأة أنها قد تنسى، وقد يعرض لها النسيان، كانت شهادة الرجال مقدمة، وكانت شهادة الرجل بشهادة امرأتين.

وهذا باعتبار الغالب، وإلا لا شك أن بعض الرجال شهادته، لا تُكافأ شهادة المرأة، وأن شهادة المرأة أوثق وأكمل وأحسن وأثبت، وكم من النساء من هن أعقل من كثير من الرجال كما هو المعلوم، لكن الكلام باعتبار الغالب، أن المرأة يغلب عليها النسيان، المرأة ركبها الله تركيبًا خاصًا لمهمة أصيلة شريفة، وهي تخريج ورعاية الجيل، فكانت جُل إمكاناتها، وقُدراتها موجهة في هذا الاتجاه، فلديها من الصبر والاحتمال على رعاية الصغار، مع ما يسبق ذلك من الحمل والولادة، ونحو ذلك ما لا يوجد عند الرجال، فأقوى الرجال حينما يتململ الصغير، ويصيح، أو يمرض، أو نحو ذلك، فإنه قد لا يحتمل رعايته، لا أقول: ساعة واحدة، بل لربما لبضع دقائق، ثم يخرج الرجل عن طوره، وهذا مُشاهد، لكن المرأة تعيش السنوات معهم، وهذا بعد هذا، فقد تلد في كل عام، وتجد أنها في غاية الصبر، ويمرضون وتسهر معهم، وربما يتعاقبون عليها، هؤلاء في الليل، وهؤلاء في النهار، ومع ذلك هي صابرة، وتقوم بتنظيفهم مما يترفع عنه الرجل، ولو قيل للرجل: تقوم بتنظيف هذا الولد، لكان ذلك بالنسبة إليه أمرًا في غاية العُسر، بينما المرأة تقوم بهذا كله، وتُصلح شؤون الزوج والبيت، وما إلى ذلك، بكل اقتدار.

فهذه قُدرات الله -تبارك وتعالى- وزعها بين هؤلاء الخلق، كل بما يصلح له؛ ولذلك ركب الله المرأة في جسمها تركيبًا يختلف عن تركيب الرجل؛ ولذلك تجد المرأة مهيأة للإرضاع؛ ولذلك ليس للرجل، وتجد المرأة مهيأة للحمل، وليس ذلك للرجل، وحوض المرأة أكبر من حوض الرجل؛ لماذا؟ لأن ذلك مُهيأ للحمل، إلى غير ذلك من الخصائص الكثيرة.

ونجد -كما يقول الأطباء- تلافيف المخ عند الرجل أكثر، ورباطة الجأش عند الرجل أكبر؛ ولذلك نُهي النساء عن اتباع الجنائز، وزيارة المقابر؛ لأنها مجبولة على الرقة، وهذه الرقة تحتاج إليها من أجل العطف على الصغار، فلو كانت قاسية، ولو كانت تحمل قلب رجل لشقي معها هذا الصغير، يكون فيها من الغِلظة والفظاظة والشدة، والصغير يحتاج إلى حنان وعطف، وما إلى ذلك، فهذه مواهب وقدرات، وقد نهى الله أن يتمنى الرجال أو النساء شيئًا مما فضل الله بعضهم على بعض.

فيؤخذ من هذه الآية: تقديم شهادة الرجال، وشهادة النساء هنا -كما ذكرت في قضية مالية- فتُقبل شهادة النساء في القضايا المالية، ونحو ذلك، ولكن هناك أبواب لا تُقبل فيها شهادة المرأة، إلا في حالات استثنائية، مثل: قضايا الجنايات والدماء، وقضايا القتل والجراح، وما أشبه ذلك، فهذه الأصل لا تُقبل شهادة المرأة فيها؛ لضعف قلبها، ولكن من أهل العلم من استثنى بعض الحالات فيما يقع في أوساط النساء، يعني لا يوجد إلا نساء، مثل شهادة الصغار، قالوا: لا تُقبل شهادة الصغار في أي باب من الأبواب.

لكن من أهل العلم من استثنى فيما إذا كان ذلك وقع بين الصغار، يعني: جريمة وقعت بين أطفال، ولا يوجد غيرهم، فيُفرقون، كما جاء عن المالكية[1]، ثم يُسأل كل واحد قبل أن يرجعوا إلى آبائهم وأهلهم، ويوجه إليهم السؤال مفرقين، ولا يجتمعون، ثم بعد ذلك يُسمع منهم، هذه في قضية تتعلق بالدماء، وكذا يقبل شهادة المرأة في قضايا تتعلق بالبكارة، وما أشبه ذلك، وصفة الجنين الذي سقط، ونحو هذه القضايا التي لا يطلع عليها الرجال، فهذه تؤخذ فيها شهادة المرأة، بل قد تُقبل شهادة امرأة واحدة في بعض القضايا، واختلف العلماء في شهادة أربع نسوة، بدلاً من رجل وامرأتين، على كل حال ليس هذا مقام الكلام على الأحكام الفقهية، ولكن نُشير إشارات إلى بعض المعاني والهدايات.

وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ هذا يدل على أنهم من الرجال، ومن المسلمين؛ لأنه أضافهم إليهم مِنْ رِجَالِكُمْ ولم يقل: من الرجال، وجاء الاستثناء في شهادة غير المسلمين، في آية المائدة تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ [سورة المائدة:106] فهذا في حال معينة، وهي حال الوصية في سفر، لا يوجد أحد من المسلمين، فمن أجل إثبات هذه الوصية والحق، ونحو ذلك، فتُقبل شهادتهم في هذه الحال، إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ [سورة المائدة:106] فهذه شهادة الكفار.

وأيضًا وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ هذا يدل على صحة شهادة المملوك، وقد تكلم الحافظ ابن القيم -رحمه الله- على هذا تفصيلاً، وانتصر له بقوة في كتابه (إعلام الموقعين)[2]، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه رجل، فلا يُطلب للشهادة الحرية بأن يكون الشاهد حرًّا.

ولاحظ الصيغة في وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ فلم يقل: استشهدوا شاهدين، وإنما قال: شَهِيدَيْنِ شهيد على وزن فعيل، وصيغة فعيل صيغة مُبالغة، فالتعبير بصيغة المبالغة هنا يدل على استكمال الأوصاف والشروط المطلوبة بالشاهد، ويدل أيضًا على تمكن هؤلاء من الشهادة، وعلى كثرة وقوعها منهم؛ لأنهم مقبولون لدى الحكام، يعني القضاة، فيقبلون شهادتهم؛ لأنهم قد اعتادوا بالإدلاء بالشهادة، وفي السابق القضاة لم يكونوا يقبلون من أي أحد يأتي ويشهد، وإنما يأتي معه بمزكين، ونحو ذلك، فكان الذين تُقبل شهادتهم هم ممن عُرفوا بالعدالة وتحققها لدى القاضي.

والتاريخ فيه أخبار وأشياء تدل على فراسة القضاة، ونحو ذلك، أذكر واحدة منها، وهي أن أحد هؤلاء الذين توجه نظر القاضي إلى قبول شهادتهم، فكان يُكثر حضور مجلس القاضي، فقيل له: القاضي يُريد أن يعتبر شهادتك، فجاء ذلك اليوم إلى مجلس القاضي، وجلس وطال جلوسه ومكثه، ولم يُكلمه القاضي عن شيء حتى انصرف، فلما سُئل القاضي: أردتَ أن تعتبر شهادة فلان، فلما جاء وجلس لم تُكلمه، ولم تُفاتحه في شيء، فقال: بأن خطواته حينما كان يأتي في المرات السابقة، أي: عدد الخطوات ومقدارها وتقاربها، تختلف عن هذه المرة، فهذه المرة كانت خطواته وئيدة بطيئة، يعني يُظهر مزيد من الوقار والسكينة، ويمشي مشيًا وئيدًا، فعرف القاضي أنه يتصنع، وأنه يتطلع إلى الشهادة وإثباتها، وإثبات عدالته، ونحو ذلك، فصرف النظر عنه، فكان للقضاة في السابق قوة ودقة في الملاحظة.

وكان لهم أخبار وعجائب تدل على فراستهم، ولا بأس أذكر شاهدًا أو شاهدين في فراسة القضاة سابقًا، ويوجد في الأمة خير كثير إلى يومنا هذا، فقد اختصم رجلان عند القاضي، فذكر أحدهما: أنه أقرض -ونحن نتحدث عن آية الدين- رجلاً مالاً، فجحد ذاك، فقال: ما أعطاني شيء، ولا أخذت منه شيئًا، قال: لعلك نسيت، قال: لا، فقال للدائن (صاحب المال): أين أعطيته؟ قال: عند الشجرة الفلانية، في المكان الفلاني، قال: اذهب هناك لعلك تتذكر غيره، فذهب، وانشغل القاضي عن الطرف الآخر (المُستدين المُنكر الجاحد) وتشاغل عنه مدة، ثم فاجأه بسؤال قائلاً: هل تظنه بلغ المكان الذي أقرضك فيه، يعني: الشجرة الفلانية؟ قال: لا، لم يبلغ بعد، يعني: لم يصل بعد، باقي له وقت، المكان بعيد، فعرف أنه كاذب، فألزمه بأداء ما عليه.

ومثال آخر: وهي قضية شبيهة بهذه، وهي أن رجلاً جاء يدعي على آخر مالاً، قد أنكره، فأوعز القاضي إلى رجل أن يذهب إلى ذاك المنكر، ويقول له: القاضي يسأل عن دارك هل هي حصينة، يريد أن يضع فيها أموالاً وودائع؟ قال: نعم، داري حصينة، ثم قال لصاحب الحق: ارفع دعوى على هذا الرجل، فاستدعاه القاضي، فقال: هذا يدعي عليك أنك أخذت منه كذا وكذا، قال: نعم، أوفيه الساعة، فاعترف، لماذا؟ لأنه يريد أن يُرسل القاضي إلى داره ودائع وأموال، فيُحصل له أكثر مما أخذ من هذا الرجل، فقال: نعم، أوفيه الساعة.

ففي قول الله -تبارك وتعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ هؤلاء الشهود لم يشهدوا بعد، ومع هذا سماهم ووصفهم بـشَهِيدَيْنِ باعتبار ما سيكون، يعني مثل قد قامت الصلاة، يعني قرُب قيامها، والشيء قد يُسمى بما يصير إليه حاله، وقد يُسمى باعتبار ما سبق، يعني: مُطلقة الرجل التي بانت منه قد يُقال لها: زوجة، باعتبار الماضي.

وهذا أيضًا فيه إشارة إلى أن هؤلاء الذين يدعون إلى الشهادة بمجرد دعوتهم ينبغي أن يُبادروا إلى الشهادة، وتتعين في حقهم وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ وهذا بمفهوم المخالفة يدل على أن شهادة الأطفال غير معتبرة؛ لأنهم ليسوا رجالاً، وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ يعني: المرأة تكون في حال من الرضا والعدالة، كما يقال في الرجل، وبيّن العلة في ذلك فقال: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ولفظة (إحداهما) تكررت مرتين، وكان يمكن أن يُقال: إن تضل إحداهما فتُذكرها الأخرى، فيستغني بالضمير، والضمائر تفيد اختصار الكلام، فإذا أظهر في موضع الإضمار فذلك يدل على معنى مقصود، والله تعالى أعلم.

فقوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا كأن جملة مستقلة، فإذا أعاد إليها، فإنه يُعيد إلى مذكور ظاهر في الكلام الذي يكون بعده.

وفي قوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى تصريح بالعلة في طلب امرأتين في الشهادة، وهو تذكيرها إذا نسيت، لكنه ذكر الضلال أَنْ تَضِلَّ بمعنى تنسى، فتُذكرها الأخرى، فالضلال -الذي هو النسيان- هو سبب للتذكير، فنُزّل منزلته، فقال: أن تضل إحداهما، فتُذكرها الأخرى، يعني: كراهية أن تضل، أو لئلا تضل إحداهما، وجاءت لفظة إِحْدَاهُمَا مُبهمًا؛ لأن هذا يكون من هذه أو هذه، فليس النسيان بمتعين في أحداهما، وكذلك التذكير، فقال: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا أيًا كانت، فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى فهذا هو المقصود.

ودل قوله: فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى على أن الإنسان إذا نسي شيئًا في الشهادة، وذكره غيره، أن شهادته صحيحة، فقد ينسى الإنسان فيُذّكر، يقال: تذْكر حينما كنا في المكان الفلاني، وحينما بعت لفلان كذا، أو اشتريت من فلان كذا، أو نحو ذلك، فيتذكر؛ لأنه يكون ناسيًا، فتذكيره لا يؤثر بصحة شهادته.

فالمقصود: أنه حينما يشهد يجب أن يشهد على أمر يعلمه ويستحضره، ولا يشهد على شيء خفي عليه، أو لا علم له به، أو موافقة لفلان، أو عطفًا على فلان، فإن هذا لا يصح، بل لا بد أن يكون على أمر معلوم، وقد جاء في حديث يروى: على مثلها فاشهد[3]، يعني: الشمس، لكن الحديث لا يصح، فالشهادة ينبغي أن يتحقق الإنسان منها، ولا يتساهل فيها، ولا يُجامل، فإن الخلل الذي يقع في ذلك غالبًا يكون من جهتين:

الأمر الأول: إما أن يشهد زورًا، يعني على خلاف الحق الذي يعلمه، مُحاباة لأحد، أو غير ذلك.

الأمر الثاني: أن يشهد على أمر لا علم له به، من باب المساعدة، أو العطف، أو نحو ذلك، فلان يريد أحد يشهد له، وما عنده أحد، وصل إلى المحكمة، وقيل له: هات شهود، فيقول لأصحابه مثلاً: اشهدوا معي، فيأتون معه، ويشهدون، ويعتبرون ذلك من باب الإحسان، وهو في الواقع ليس من الإحسان في شيء.

ثم وجه الخطاب إلى هؤلاء الشهود: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وهؤلاء الشهود لا يجوز لهم الامتناع عن هذه الشهادة، والأصل أن النهي للتحريم، ومن توجهت إليه الشهادة وجبت عليه، لا سيما إذا كان ذلك فيه ضياع الحق، يعني لا يوجد غيره ممن يعرف ذلك، ويشهد فيه، ففي هذه الحال يكون واجبًا، فإن كانوا كُثر، فيكون ذلك من قبيل فرض الكفاية.

نتوقف عند هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. المدونة (4/ 27) والكافي في فقه أهل المدينة (2/ 908).
  2. إعلام الموقعين (2/ 49).
  3. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم: (10469) وانظر كلام الألباني عنه في إرواء الغليل (8/ 282)، (2667).

مواد ذات صلة