الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(249) تتمة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ..} الآية:282 -[6]
تاريخ النشر: ١٩ / رمضان / ١٤٣٧
التحميل: 801
مرات الإستماع: 1051

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

نواصل الحديث في الكلام على ختم هذه الآية الكريمة (آية الدين) في قول الله -تبارك وتعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:282].

وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: اعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته، واجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ يعلمكم ما يرفعكم وينفعكم، وما فيه صلاحكم، ويُبين لكم شرائع الإسلام، وما يحصل به حفظ الحقوق، وما يحصل به سعادة الدنيا والآخرة.

وهذا الموضع -كما سيأتي إن شاء الله- يُفسر بمثل هذا، وليس ذلك من باب الشرط والجواب، على الأرجح من أقوال المفسرين؛ وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قال في الجملة الأولى: وَاتَّقُوا اللَّهَ فهذا أمر بالتقوى، ثم جاءت جملة خبرية، معطوفة على الجملة الأولى، والجملة الأولى جملة إنشائية، والكلام إنشاء وخبر، الإنشاء مثل الأمر والنهي، والخبر يصح أن يُعطف في كلام العرب على الإنشاء، وَاتَّقُوا اللَّه هذا أمر عُطف عليه خبر وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ فهذه جملة أخرى مستقلة، وهو إخبار منه -تبارك وتعالى- أنه يُعلم خلقه ما فيه صلاحهم ونفعهم، وما يرفعهم، وما تحصل لهم به السعادة.

هكذا فسره الجمهور من العلماء، بدليل لو أنه كان من باب الشرط والجواب وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ لكان الثاني مجزومًا؛ ولقال: واتقوا الله ويُعلِمْكم الله؛ لأن جواب الشرط مجزوم -كما هو معلوم، لكن جاءت هنا بالرفع وَيُعَلِّمُكُمُ فدل على أنها جملة خبرية محضة، وليست بجواب للشرط، مع أن الجملة الأولى ليس فيها شيء من أدوات الشرط، وليست بصيغة شرط وَاتَّقُوا اللَّهَ فهذا أمر.

 لكن الواقع أن الأمر قد يكون مُضمنًا معنى الشرط، لكن لو كان جواب الشرط لجاء الثاني مجزومًا، هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [سورة الصف:10، 11]... إلى آخر ما قال، تُؤْمِنُونَ فهنا خبر، وليست صيغة شرطية، وهو مُضمن معنى الشرط، بدليل أنه قال في الجواب: يَغْفِرْ [سورة الصف:12] مجزومًا، ولو كان ذلك من باب الإخبار لقال: (يغفرُ) بالرفع، لكنه قال: يَغْفِرْ فيكون الأول مُضمن معنى الشرط، يعني: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ مضمن معنى الشرط، يعني: إن آمنتم يغفرْ، فبهذا النحو من الإعراب يتضح المراد، وبين الإعراب والمعنى ملازمة، وكثير من الناس لا يُحب الإعراب والنحو، ولكنه في بعض المواضع ضروري من أجل أن يتبين المراد، فلا بد من بيان الموقع الإعرابي، في بعض القضايا يظهر من علامة الإعراب أن هذه جملة شرطية، أو أنها جملة خبرية محضة مثلاً، وسيأتي مزيد من الإيضاح على هذا.

وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فجاء بأقوى صيغة من صيغ العموم عند اللغويين، والأصوليين، بِكُلِّ شَيْءٍ وجاءت (شيء) هنا في سياق إثبات، فصيغة العموم هنا (بكل) تدل على العموم بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من أمور الدنيا، ومن أمور الآخرة، فيما يتعلق بالعبادات، والمعاملات، والحقوق، والأخلاق، ما يتعلق بالغيوب الماضية، والحاضرة، والمستقبلة، كل ذلك يعلمه، وجاء بهذه الصيغة من صيغ المُبالغة (عليم) على وزن (فعيل) يعني: أنه بالغ العلم، عظيم العلم، فعلمه واسع.

فيُؤخذ من قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ أن التقوى واجبة، فهذا أمر، والأمر للوجوب، وقد أمر الله نبيه ﷺ بالتقوى، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [سورة الأحزاب:1] وكما ذكرنا في بعض المناسبات، أنه ليس لأحد أن يستنكف إذا أُمر، أو ذُكّر بالتقوى وقيل له: "اتقِ الله"، والنبي ﷺ في وصيته يقول: اتقِ الله حيث ما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخُلق حسن[1]، فهذه التقوى لا يستغني عنها أحد، والكل بحاجة إليها، والعبد بحاجة إلى تقوى الله -تبارك وتعالى- في كل حركاته، وسكناته، وفي كل أعماله من الطاعات، وفي كل خطواته، وخطراته، وبكل معاملاته ومزاولاته، فهو يحتاج إلى التقوى؛ لأن هذه التقوى لو لم تتحقق، فإن هذه العبادات تختل، فإنه قد لا يأتي بها على الوجه المشروع، فيُخل بها إما من جهة الصفة، وإما من جهة القصد والنية.

وكذلك أيضًا في المعاملات مع الناس، فإنه لا يستطيع أن يؤدي الحقوق، وأن يحترز من المظالم إلا بتقوى من الله -تبارك وتعالى، وأخذ الحرام، أكل الحرام، ونحو ذلك، كل هذا لا يمكن التخلص منه إلا بالتقوى؛ لأن الطمع غالب وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [سورة النساء:128] والله يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [سورة الحشر:9]، فأضاف الشُح إلى النفس لشدة تمكنه منها، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الحشر:9] وعلق عليه الفلاح.

وقال: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر:20] يعني: حبًا عظيمًا، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] والمقصود بالخير المال، باتفاق المفسرين، يعني: الإنسان يُحب المال، وهذا الحب شديد، وكما قال الله -تبارك وتعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [سورة آل عمران:14] فهذه حُببت للنفوس، وزُينت، وزُينت أشياء أخرى غير هذه المذكورات، لكن هذه من أبرزها، فإذا كان كذلك، فيحتاج إلى تقوى من أجل أن يُحاسب نفسه، فلا يدخل عليه شيء لا يحل له، ولا يقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، ولا يظلم الناس، ولا يُسيء إلى أحد، ويأتي بالعبادات على الوجه المشروع، ويُحب لأخيه ما يُحب لنفسه، فهذا كله لا يكون إلا بالتقوى.

فقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ كما ذكرنا أن هذا ليس من باب الشرط والجزاء، بمعنى أن ما يفهمه بعضهم من أن المقصود بالآية وَاتَّقُوا اللَّهَ فيكون ذلك سببًا لتعليمكم، فيكون هذا من باب الشرط والجواب، يعني: اتق الله ويُعلمك، فليس هذا هو المعنى في هذه الآية -والله تعالى أعلم- على قول أكثر أهل العلم، وإن كان هذا المعنى يمكن أن يُفهم منها، لكن ليس بدلالة المطابقة، ولا التضمن، وقد لا يُفهم من دلالة الالتزام، لكنه يُفهم من وجه آخر يسمونه دلالة الاقتران، وله نوع تعلق بدلالة الالتزام.

والواقع أنه ليس منها، فدلالة الاقتران من القضايا الغامضة، ونحن نذكرها لأن معنا من طلاب العلم من يحتاجون إلى مثل هذا، ويفهمونه، لكن يُذكر منه ما يكون المعنى فيه قريبًا سهلاً، فدلالة الاقتران كثير من الأصوليين يقولون: ضعيفة، والواقع أنها أنواع: منها ما هو غير معتبر، ومنها ما هو ضعيف، ومنها ما هو معتبر، فما يُعرف عند العلماء والمفسرين بالمناسبات، يعني الاقتران بالآية والآية، والجملة والجملة، وصدر السورة مع خاتمتها، والمقطع والمقطع... إلى آخره، هذه المناسبة فيها معنى ودلالة، لكن هذه الدلائل ليست قطعية، فهي ليست من الدلالات الداخلة تحت دلالة المنطوق عند الأصوليين، وهي دلالة المطابقة والتضمن والالتزام والإيماء والتنبيه، ودلالة الإشارة، وإنما هي نوع له نوع تعلق بدلالة الالتزام.

فهنا في هذا الشاهد حينما أمر الله بتقواه، ذكر بعده مباشرة قضية التعليم، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ما وجه الارتباط بين هاتين الجملتين المتجاورتين؟

يُفهم من هذا أن هناك نوع ارتباط بين التقوى، وتحصيل العلم؛ لأنه ذكره بعده، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ فهذه المجاورة تدل على هذا المعنى، ودلالة المناسبة أحيانًا تكون متكلفة، وهذه الوجوه في الارتباطات بين الآية والآية، والجملة والجملة، ومضمون الآية مع خاتمتها، لماذا ختم مثلاً بالعزيز الحكيم، أو العليم الحكيم، أو على كل شيء قدير، أو نحو ذلك، منه ما يظهر وجهه، ومنه ما يكون مُتكلفًا فيُترك، ومن أكثر العلماء الذين اعتنوا بهذه المناسبات: البقاعي في كتابه (نظم الدُرر) وهو كتاب حافل كبير أكثر من عشرين مجلدًا، لا يكاد يترك شاردة ولا ورادة مما ذكره العلماء في المناسبات إلا ويأتي به.

فمثلاً: في قوله تعالى -كما ذكرنا في الفاتحة والبقرة- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:2، 3] لماذا ذكر الرحمن الرحيم بعد رب العالمين؟ قالوا: ليدل على أن ربوبيته مبنية على الرحمة، هذا معنى لطيف، يؤخذ من أين؟ من المناسبة، وهكذا: الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:1-3] لماذا قرن بين الصلاة والزكاة؟ ولماذا ذكر في قوله: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:4] الإيمان بما أُنزل إلى النبي ﷺ، وما أُنزل من قبله؟ ولماذا ذكر الإيمان باليوم الآخر معًا؟ ولماذا قرن بينهما؟

هذا يسمونه المناسبة، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [سورة البقرة:43]، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۝ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۝ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۝ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ۝ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [سورة الماعون:1-7] ما وجه الاقتران بين هذه القضايا والجُمل؟

الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۝ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ دل على أن دع اليتيم ودفعه عن حقه من أخلاق وأوصاف من لا يؤمن بالآخرة، ثم أيضًا فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [سورة الماعون:4] ما علاقة توعّد المصلين بذلك؟ فهذا الذي يُكذب بالدين، ويدُع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، هذه حال المنافق؛ ولهذا قال في وصف من أبرز أوصافهم، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولكن هؤلاء صلاتهم لا تنهاهم عن الفحشاء والمنكر: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [سورة الماعون:4، 5] أي: يؤخرونها عن الوقت، ويضيعونها، ويضيعون حدودها، فهذا كله يُسمى مناسبات، ووجه الارتباط.

فهنا: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ذكر التعليم بعد الأمر بالتقوى، مما يدل على أن ثمة ارتباط بين التعليم والتقوى، وهذا المعنى صحيح، تدل عليه أدلة أخرى أصرح من هذا وأوضح، ولا شك أن العلم وتحصيله رزق من الله، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [سورة الأعراف:96] وأعظم هذه البركات التي تُفتح (العلم) فهو أعظم الرزق بعد الإيمان، وأعظم من العطاء الدنيوي والمال، فهذا له ارتباط بالتقوى، والأبيات التي تنُسب للشافعي -رحمه الله- وقد لا تثبت عنه.

شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يُهدى لعاصي[2]

والنبي ﷺ قال: وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه[3]، فالرزق يشمل هذا وهذا، والمعصية تكون سببًا للحرمان، ومن أعظم الرزق العلم، فيُحرم العلم بسبب الذنب، وقد ينسى العلم الذي حصله بسبب الذنب، لكن قد يُستفاد هذا المعنى من هذه الآية من جهة المناسبة فقط، لا أنه من باب الشرط والجزاء، وهذا من أعدل الأقوال، والله تعالى أعلم، يعني: خلافًا لمن قال بأن هذا من قبيل الشرط والجواب، وأن هذا مُرتب على هذا، أو من أنكر ذلك بالكلية، وقال: إن الآية ليس فيها دلالة أصلاً على هذا، فيُستخرج ذلك من جهة المناسبة، والله أعلم.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- أشار إلى شيء من هذا، في أثر التزكية والتقوى في تحصيل العلم، وذكر أن لتزكية النفس والعمل بالعلم، وتقوى الله تأثير عظيم في حصول العلم، وذكر أيضًا في موضع آخر عند ذكر هذه الآية، احتج بها، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ يقول: قد يكون من هذا الباب فكل من تعليم الرب، وتقوى العبد يُقارب الآخر ويُلازمه ويقتضيه، فمتى علمه الله العلم النافع اقترن به التقوى بحسب ذلك، ومتى اتقاه زاده من العلم وهُلّم جرًا[4].

والقول بأن هذه الآية ليست من باب الشرط والجواب هو قول الجمهور، لكنه ليس محل اتفاق، فبعض العلماء يُفسرها هكذا: أنك إن اتقيت الله علمك، هذا هو المعنى، مع أن الظاهر قد لا يدل على ذلك بصورة صريحة، أو مُباشرة، كما ذكرت، لكن تجد علماء وأئمة مثل القُرطبي -رحمه الله- يقول: بأن ذلك وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه، أن يجعل في قلبه نورًا يفهم به ما يُلقى إليه، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقانًا، أي فيصلاً يفصل به بين الحق والباطل[5]، فالقرطبي جعل القضية من باب الشرط والجزاء، إن اتقيت الله علمك، هذا المعنى صحيح، صحيح من حيث هو، لكن هل الآية تدل عليه دلالة مُباشرة؟ الذي يظهر أنه ليس كذلك في هذه الآية خاصة، وإلا فالمعنى من حيث هو معنى ثابت وصحيح.

ويُؤخذ أيضًا من قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ أن الأصل في الإنسان الجهل، والله يقول لنبيه ﷺ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [سورة النساء:113] أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ۝ وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى [سورة الضحى:6، 7] يعني: أنه لا عهد له بالوحي والنبوة، والكتاب، وتفاصيل الشريعة، التي أوحاها الله إليه، وليس معنى الضلال: أنه كان على دين المشركين، وإنما المعنى: ما كان له عهد بالكتاب والوحي، وتفاصيل هذه الشرائع، التي أوحاها الله إليه، وهذا كما قال الله : وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة النحل:78]. 

فالله يمتن على عباده بالتعليم، فهذه نِعمة؛ وذلك يقتضي أن يُشكر على ذلك، وأن تُرعى حق رعايتها، إن كان ذلك في أشرف العلوم وهو العلم بالله وبكتابه، والطريق الموصل إليه، فإن ذلك يقتضي العمل بهذا العلم، فلا يستوي حال من علّمه الله -تبارك وتعالى، وحال من لا علم له، ويكونون في العمل سواء، وأحيانًا يكون العامي أفضل من هذا الذي قد تعلّم وحصل كثيرًا من علوم الشريعة، ما فائدة العلم إذًا؟ ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وقد استعاذ النبي ﷺ من ذلك.

وكذلك أيضًا إن كان هذا العلم في علوم مادية دنيوية، من العلوم النافعة، فإنه لا بد أن يوجه فيما ينفع الناس، يعني: لا توجه هذه العلوم إلى ما يُفسد ويضر، فالعلم سلاح، كما هو معلوم، فهذا العلم قد يوجه إلى ما يُبيد البشرية، ويفتك بها، ويُهلك الحرث والنسل، وقد تُستعمل العلوم الدقيقة العميقة بما يكون فيه الدمار، فتتحول هذه الحضارة إذا لم تكن مذمومة بتقوى الله وشرعه، إلى حالة بهيمية سبعية، لها مخالب وأنياب، تُدمر وتفتك، وتُثير الرعب والخوف، بينما العلم ينبغي أن يوجه في نفع الناس، وبناء نهضتهم وحضارتهم، وتقليل معاناتهم، وتخفيف آلامهم، وتسهيل وتذليل صعوبات الحياة، وما أشبه ذلك.

وأيضًا ختم هذه الآيات الواردة في المعاملات المالية والنفقات، والربا، ثم الدين والإشهاد على البيع، وما إلى ذلك بالأمر بتقوى الله -تبارك وتعالى، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ تنبيه إلى أنه يجب أن يُراعى ذلك في معاملات الناس، ويتمثلوا ما أمرهم الله -تبارك وتعالى- به، فالله بكل شيء عليم، فلا يخفى عليه شيء من أحوالهم، ومعاملاتهم، ونفقاتهم، وتجاوزاتهم، ومظالمهم، وأخذهم أموال الناس بالباطل، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو يُذكرهم بتقواه، ويخوفهم في الوقت نفسه بأنه بكل شيء عليم.

فهذه الآية الكريمة -كما ترون- فيها هذه التفاصيل الكثيرة، إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ أمر، وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثم فَلْيَكْتُبْ فلما قال الله تعالى: وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ قبله قال: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ يكتب كما علمه الله على وفق العدل، فَلْيَكْتُبْ ثم قال: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وكذلك أيضًا: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا.

ثم جاءت التفاصيل: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وهكذا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا كل هذا تحفيز لهم على التزام هذه القضايا، وكل ذلك يدل على سعة رحمة الله، وعلى دقة هذه الشريعة وسعتها، وأنها تحفظ مصالح الخلق، حتى في القضايا اليسيرة، وأنهم متى ما التزموا شرع الله، وعملوا بمقتضاه كان ذلك سببًا لسعادتهم، ورفاهيتهم، وحفظ حقوقهم، وأموالهم، وما إلى ذلك، هذا كله نجده في مثل هذه التوجيهات الربانية.

فهذه الآية مع أنها أطول آية في القرآن، ومع ذلك فيها من الاختصار الشيء الكثير، وهذا من بلاغة القرآن، والإيجاز والإطناب عند علماء البلاغة يكون بكل مقام بحسبه، فتارة تكون البلاغة بالإطناب، وتارة تكون بالإيجاز، فهنا لاحظ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [سورة البقرة:282] ما ذكر مُتعلق الإيمان، آمنوا بماذا؟! وكذلك أيضًا: كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ علمه ماذا؟ علمه الكتابة، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وليتق في ماذا؟ في إملائه هذا الذي عليه الحق، فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا سفيهًا في ماذا؟ في رأيه، أَوْ ضَعِيفًا في بيانه، مِنْ رِجَالِكُمْ يعني: المرضيين، وهكذا: فَرَجُلٌ يعني: مرضي، وَامْرَأَتَانِ مرضيتان، مِنَ الشُّهَدَاءِ المرضيين، فكل هذا مُقدر، فمعنى هذا الطول إلا أنه -كما ترون- كل هذه المواضع فيها إيجاز واختصار، استغناء بفهم المخاطب، أو السامع.

وفيها من ضروب البلاغة ما يُسمى بالالتفات، وقلنا: إن الالتفات يُنشط السامع، ويكون في كل مقام بحسبه، فلاحظ الانتقال من الحضور إلى الغيبة، إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ، وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ومن الغيبة إلى الحضور وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ ثم قال: وَاسْتَشْهِدُوا خاطبهم، وكذلك انتقل إلى الغيبة مرة أخرى وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ ثم انتقل إلى الحضور وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ [سورة البقرة:283] ثم إلى الغيبة وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [سورة البقرة:283] إلى الحضور وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ هذا بعض ما تضمنته هذه الآية.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا.

اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار، على الوجه الذي يُرضيك عنا.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس برقم: (1987) وحسنه الألباني.
  2. ديوان الإمام الشافعي، ص (69).
  3. أخرجه سنن ابن ماجه في كتاب الفتن، باب العقوبات برقم (4022) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (3006).
  4. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 106).
  5. تفسير القرطبي (3/ 406).

مواد ذات صلة