الإثنين 21 / جمادى الآخرة / 1446 - 23 / ديسمبر 2024
[49] تتمة قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} الآية 115
تاريخ النشر: ٢٧ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 3968
مرات الإستماع: 2919

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف -رحمه الله- وقوله: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116] قال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو سعيد الأشج، أخبرنا أسباط عن مطرف عن عطية عن ابن عباس قال: "قَانِتينَ" مصلين، وقال عكرمة وأبو مالك: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ مُقِرُّون له بالعبودية، وقال سعيد بن جبير: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ يقول: الإخلاص. وقال الربيع بن أنس: يقول كل له قانتون أي: قائم يوم القيامة، وقال السدي: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ أي: مطيعون يوم القيامة، وقال خَصيف عن مجاهد: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ قال: مطيعون، كن إنساناً فكان، وقال: كن حماراً فكان، وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ مطيعون، قال: طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره، وهذا القول عن مجاهد -وهو اختيار ابن جرير- يجمع الأقوال كلها وهو أن القنوت هو الطاعة والاستكانة إلى الله، وهو شرعي وقَدري كما قال الله تعالى: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [سورة الرعد:15].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

قوله: عن ابن عباس قال: "قَانِتينَ" مصلين: هل هذا المعنى يتأتى في جميع المواضع؟

يقول النبي –عليه الصلاة والسلام: أفضل الصلاة طول القنوت[1]، يعني طول الصلاة؟ ويقول تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [سورة آل عمران:43] هل المعنى يا مريم صلي لربك واسجدي واركعي؟ ويقول تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ [سورة الأحزاب:35]، هل يعني المصلين والمصليات؟

الجواب: ليس بظاهر تفسير القنوت في جميع مواضعه بالصلاة، لكنه يحتمل في بعض المواضع دون بعض.

وقوله:قال عكرمة وأبو مالك: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ مُقِرُّون له بالعبودية:الذين قالوا بهذا قصدوا به أن هذا الإقرار بالنسبة لأهل الإيمان يكون بألسنتهم، وبالنسبة لغيرهم يكون بأمر آخر، ما هذا الأمر الآخر؟

بعضهم يقول: المراد به ما يظهر عليهم من أثر صنع الله فيه، ودلائل قدرته بخلقه التي تبدو عليه، كل ذلك يجعله عبداً مربوباً مخلوقاً لربه وخالقه القدير شاء أم أبى، فإقراره بالعبودية من جهة ظهور أثر صنعة الخالق عليه، فهذا هو الإقرار بالنسبة للكافر على قول بعض أهل العلم.

وبعضهم يذهب بهذا بالنسبة لغيرهم كما في السجودفي قوله تعالى: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [سورة الرعد:15] وذلك أنه لما ذكر جميع من في السماوات ومن في الأرض قالوا: سجود الظلال بالنسبة للكافر.

وقول بعضهم: قانتون بمعنى الإخلاص هذا فيه إشكال إذا فسر في جميع المواضع؛ وذلك أنه لا يصح أن يقال في قوله –عليه الصلاة والسلام- مثلاً: أفضل الصلاة طول القنوت [2] أي طول الإخلاص.

لكن ودون شك أن من قال الإخلاص لم يقصد بذلك تفسيرها في جميع المواضع، وإنما يفسر هذه الآية، أي: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116] أي مخلصون، وكذلك الأمر في قول من قال: قانتون أي قائم يوم القيامة.

عن الربيع بن أنس: قانتون قال: أي قائم يوم القيامة، وهذا المعنى أخذوه من أصل القنوت، حيث ذهبت طائفة كبيرة من أهل العلم من أهل اللغة وغيرهم لما نظروا في أصلها اللغوي فقالوا: أصل القنوت في كلام العرب بمعنى القيام، فحينما قال: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116] أي قائم يوم القيامة، وكأن الذي ألجأه إلى هذا المعنى استشكال ما يقع من جهة الكافر إذا قلنا: إن القنوت هنا بمعنى العبادة، أو بمعنى الخضوع إلى آخره، و"كلٌّ" التي في قوله تعالى: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116] هي أقوى صيغ العموم، والكافر جاحد ومنكر ومكابر ومعرض عن الله فلهذا -والله أعلم- نظر بعضهم إلى أصل معنى القنوت وحمله على معنىً يكون للمؤمن والكافر وذلك في الآخرة، فقال: أي قائمون، وسمي بيوم القيامة لقيام الناس فيه لرب العالمين، وهذا المعنى تفسيره في هذا المقام فيه بعد وإن كان لوحظ فيه أصل المعنى اللغوي لكن ضعفه في كونه جعله في يوم القيامة.

وقال بعضهم: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116] أي مطيعون يوم القيامة، والقنوت يأتي بمعنى الطاعة، لكنهم قالوا: يوم القيامة لأن الكافر غير مطيع والعاصي عاصي، إذن: هذا يكون يوم القيامة حيث لا يستطيع أحد أن يعصي أصلاً بل كلهم في غاية الذل والخضوع لله فالقنوت قيل بمعنى القيام، وبعضهم يقول: هو بمعنى الطاعة، فإذا ركب هذا المعنى في الدنيا سيستشكل السامع هذا الكلام؛ إذ ليس كل الناس في طاعة، لذلك قالوا: هذه الطاعة تكون يوم القيامة.

وبعضهم لم يجعلها يوم القيامة وذلك أنهم نظروا إلى معنى آخر للطاعة فيما يتعلق ويتصل بالأمر الكوني، لذلك تجده يقول هنا: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ قال: مطيعون، كن إنساناً فكان، وقال: كن حماراً فكان: بمعنى الأمر القدري الكوني الذي لا يستطيع الإنسان أن يتخلص أو ينفك منه بحال من الأحوال، فالناس في كل حالاتهم إنما هم تحت قدر الله لا يخرجون عن ذلك في قليل ولا كثير، والمقصود أن بعضهم نظر إلى الطاعة فجعلوها في الآخرة، وبعضهم جعلوها في الدنيا لكنهم لم يجعلوها في الأمر الشرعي وإنما جعلوها في الأمر الكوني القدري، فهذا قال:مطيعون، قال: طاعة الكافر في سجود ظله فهذا جعلها في الدنيا، إذ الكافر لا يطيع؛ لذلك قال: في سجود ظله وهو كاره.

ثم قال: وهذا القول عن مجاهد هو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها: كيف يجمع الأقوال كلها؟

أي: إذا كان مطيعاً فهو مصلٍّ وإذا كان مطيعاً فهو مخلص، وإذا كان مطيعاً فكذلك هو منقاد لأمر الله في كل حالاته، وكذلك هو مطيع طاعة اضطرار في أمر الله الكوني القدري، سواءً كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة.

قال: وهو أن القنوت هو الطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقَدري: الحاصل أن ابن جرير -رحمه الله- يفسر القنوت هنا بالطاعة لله والإقرار له -تبارك وتعالى- وبالعبودية، وهذه الطاعة والاستكانة والإقرار بالنسبة للكافر تكون بما يظهر عليه من أثر الصنعة، وبالنسبة للمؤمن بعبودية الاختيار التي يتقرب فيها إلى الله

فالحاصل أن ما يظهر على الخلق من آثار الصنعة كل ذلك يدل على أنهم قانتون لله من هذه الحيثية بمعنى أنهم مُقِرُّون من هذه الجهة وإن جحدوا بألسنتهم فدلائل قدرته وخلقه فيهم أظهر من جحود ألسنتهم؛ فأجسامهم شاهدة على هذا الخلق والقدرة وما أشبه ذلك، والخلاصة فهذه الطاعة إما إقراراً بالألسن والجوارح والقلب وإما إقراراً بما يظهر عليهم من أثر الصنعة فهو ظاهر عليهم.

وبعضهم يفسر القنوت بمعنى السكون وبعضهم بمعنى السكوت، حيث إنهم لما كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت: وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [سورة البقرة:238] سكتوا فكان نهي عن الكلام.

شيخ الإسلام له رسالة خاصة في القنوت وفسره في جميع موارده فقال: إنه يدور في جميع هذه المواطن على معنى المداومة والاستمرار على الشيء، هكذا قال -رحمه الله.

وهذا القول يمكن أن يناقش وقد يرد عليه إشكالات كما يرد على غيره، انظر مثلاً حديث: أفضل الصلاة طول القنوت فالقنوت في الصلاة قد يستشكل هنا، لكن يمكن أن يفسر هذا بمثل: وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ [سورة الأحزاب:35] ويمكن أن يفسر بمثل: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ [سورة آل عمران:43]، أي أديمي الطاعة.

وعلى كل حال بعض أهل العلم يقول: إن القنوت مشترك بين هذه المعاني، بمعنى أن القنوت ليس له معنىً واحداً، وإنما هو مثل لفظة العين، فهي تطلق على العين الباصرة، وتطلق على العين الجارية، وتطلق على الذهب، وتطلق على الجاسوس، وغير ذلك من الألفاظ المشتركة مثل لفظة أمة، فالأمة بمعنى الجماعة من الناس، أو الجماعة المجتمعة على ملة ودين أو نحلة، أو بمعنى الرجل الجامع لخصال الخير، أو المدة الزمنية كما قال تعالى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [سورة يوسف:45]، إلى غير ذلك من المعاني.

فالمقصود أن القنوت من أهل العلم من يقول: إنه مشترك بين معانٍ متعددة، وهذا القول إذا قلنا به تنحل به كثير من هذه الإشكالات والاعتراضات التي ترد في بعض المقامات مما لا يصلح أن يفسر بها القنوت بمعنىً بعينه، فيلجئهم ذلك إلى بعض المحامل والمعاني كالذي يقول في الآخرة أو غير ذلك.

فالمقصود أننا قد لا نستطيع في كثير من الحالات على الأقل أن نفسر لفظة بلفظة ترادفها وتأتي بكل معانيها تماماً، ومن ثم يقع الإشكال عند تفسير اللفظة؛ لأنك لا تفسرها بلفظة تؤدي المعنى المطلوب، وإنما هو شيء يقربه فيقع في مثل هذا التفاوت في العبارات، كل واحد يتلمس معنى يقرب المقصود فيأتي في الواقع ببعضه لا بكله، فلفظة القنوت تفسيرها بمجرد الطاعة لا يكفي، وإنما هي طاعة في سكون مثلاً، تقول: فلان قانت لله ، وفلان من القانتين، فهل المقصود أنه فقط من المطيعين؟ لا، وإنما فيه معنى زائد على مجرد الطاعة، فيرد فيه معنى السكون، ويرد فيه معنى الخضوع والاستكانة، وفيه معنى المداومة على الطاعة بمعنى أنه لا يقال: قانت، أو فلان من القانتين لمن يطيع الله  فترة قصيرة، والله أعلم.

وقوله تعالى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة:117] أي: خالقها من غير مثال سبق، قال مجاهد والسدي: وهو مقتضى اللغة، ومنه يقال للشيء المحدث: بدعة كما جاء في صحيح مسلم: فإن كل محدثة بدعة[3].

والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية، كقوله: فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وتارة تكون بدعة لغوية كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: "نعْمَتْ البدعةُ هذه"[4].

قال ابن جرير: فمعنى الكلام: فسبحان الله أنى يكون له ولد، وهو مالك ما في السماوات والأرض، تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوَحْدانيّة وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه، وهذا إعلام من الله لعباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله بُنُوَّته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته، وهذا من ابن جرير، -رحمه الله- كلام جيد وعبارة صحيحة.

وهو نظير قوله -تبارك وتعالى- في سورة الأنعام: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ [سورة الأنعام:101] كيف يكون له ولد وهو مخترع هذا العالم العلوي منه والسفلي؟ فلا بد أن يكون هذا العالم بجميع ما فيه ومما فيه المسيح -عليه الصلاة والسلام- أن يكون مربوباً لله -تبارك وتعالى، كيف وقد جاء المسيح أيضاً من غير والد؟ فالله خلقه بالكلمة على غير مثال سابق، فلا عهد للناس بهذا، وإنما كان آية تدل على قدرة الله وبديع صنعه.

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة:117]: هذه اللفظة "بدع" تدل على الاختراع والإحداث من غير مثال سابق، وهذه الآية مثل آية الأنعام، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ [سورة الأنعام:101] ووجه ذلك أن من  ابتكر السماوات وخلقها من غير مثال سابق فهو على ما دونها أقرب، فكيف يخرجون هذا الشخص الذي هو المسيح مثلاً أو عزير من عموم قدرته العظيمة الشاملة التي بها خلق هذه الأفلاك والسماوات فيجعلون ذلك  الشخص المخرج شريكاً لله فضلاً عن إخراجهم له من كونه مربوباً مخلوقاً لله !! وعلى كل حال في هذه الآية بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة:117] رد عليهم من عدة وجوه، لا نريد أن نتطرق إلى هذا على سبيل التفصيل.

والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في  كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب أفضل الصلاة طول القنوت (756) (ج 1 /  ص 520).
  2. سبق تخريجه.
  3. أخرجه أبو داود في كتاب السنة - باب في لزوم السنة (4607) (ج 2 /  ص 610) وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم - باب اجتناب البدع والجدل (46) (ج 1 /  ص 18) وأحمد (ج 3 /  ص 371) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2549).
  4. أخرجه الأمام مالك في الموطأ (ج 1 / ص 114) والبيهقي في شعب الإيمان (ج 3 / ص177). 

مواد ذات صلة