الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[6] من قوله تعالى: {وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} الآية 51 إلى قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} الآية 72.
تاريخ النشر: ٠٧ / ذو القعدة / ١٤٢٨
التحميل: 2267
مرات الإستماع: 2225

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ۝ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ۝ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنّا نُبَشّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ۝ قَالَ أَبَشّرْتُمُونِي عَلَىَ أَن مّسّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشّرُونَ ۝ قَالُواْ بَشّرْنَاكَ بِالْحَقّ فَلاَ تَكُن مّنَ الْقَانِطِينَ ۝ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رّحْمَةِ رَبّهِ إِلاّ الضّآلّونَ [سورة الحجر:51-56].

يقول تعالى: وأخبرهم يا محمد عن قصة ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ، والضيف يطلق على الواحد والجمع كالزور والسفر، وكيف دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي: خائفون، وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه إليهم من الضيافة، وهو العجل السمين الحنيذ، قَالُوا لا تَوْجَلْ أي: لا تخف وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي: إسحاق كما تقدم في سورة هود، ثم قَالَ متعجباً من كبَره وكبَر زوجته ومتحققاً للوعد أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقاً وبشارة بعد بشارة قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -رحمه الله: ”وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه إليهم من الضيافة“، إن الله في كل قصص الأنبياء مثلاً أو الأمم يذكر ما يناسب الأمر الذي سيقت له القصة، فأحياناً يذكر القصة مبسوطة مفصلة، وأحياناً يذكر ما يناسب، فذكر في الذاريات أنه جاءهم بعجل حنيذ، وأنه راغ إلى أهله -ذهب خفية وبسرعة- ثم بعد ذلك قربه إليهم وقال: أَلَا تَأْكُلُونَ [سورة الذاريات:27]، وقال: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [سورة هود:70]؛ لأن من أراد شراً فإنه لا يأكل مما يقدم إليه من الطعام، فخاف أن يكون هؤلاء قد أرادوا به سوءاً، فقالوا له: لا تخف.

وقوله: وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [سورة الذاريات:28] أي إسحاق ، وهذا لا شك فيه، إبراهيم ﷺ قال لهم هنا: أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ، والواقعة التي جاءوا فيها إلى إبراهيم ﷺ وأخبروه عن إهلاك قوم لوط، وجادلهم في هذا هي واقعة واحدة، وهي التي حصلت فيها البشارة كما في قول الله -تبارك وتعالى- لما جاءوا إلى إبراهيم ﷺ فبشروه، قال: وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ ۝ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [سورة هود:71، 72]، قالوا لإبراهيم ﷺ: لا تخف، لما رأوه وجِل منهم، ثم بشروه بإسحاق، والمرأة التي بُشرت هي أم إسحاق، وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ، فهذا هو الغلام العليم الذي ذكره الله ، وليس إسماعيل قطعاً.

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيّهَا الْمُرْسَلُونَ ۝ قَالُواْ إِنّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىَ قَوْمٍ مّجْرِمِينَ ۝ إِلاّ آلَ لُوطٍ إِنّا لَمُنَجّوهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدّرْنَآ إِنّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ [سورة الحجر:57-60].

يقول تعالى إخباراً عن إبراهيم لما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى، أنه شرع يسألهم عما جاءوا له، فقالوا: إِنّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىَ قَوْمٍ مّجْرِمِينَ يعنون قوم لوط، وأخبروه أنهم سينجون آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من الهالكين؛ ولهذا قالوا: إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدّرْنَآ إِنّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ أي: الباقين المهلَكين.

وأخبروه في موضع آخر عن إهلاك قوم لوط إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ۝ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ [سورة العنكبوت:31، 32] إلى آخره، فذُكرت القصة في هذه السورة مختصرة.

وقوله -تبارك وتعالى- عن قِيل الملائكة: إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدّرْنَآ إِنّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ، قدرنا يعني قضينا وحكمنا، وقوله: إِنّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ”أي: الباقين المهلَكين“، وكلمة الغابر تأتي بمعنى الذاهب، وتأتي بمعنى الباقي، فمن أهل العلم من فسر مِنَ الْغَابِرِينَ [سورة الأعراف:83] أي: من الذاهبين في الهلاك، ومنهم من فسرها بالباقين، يعني الباقين في الهلاك، فهي من الأضداد، ولا إشكال في حملها على المعنيين -والله تعالى أعلم.

ومثل هذا لا يحتاج إلى ترجيح، فهي من الذاهبين في الهلاك، وإذا فسر بالباقين فهي من الباقين في العذاب، لا تنجو معه، مثل ما يقال في قوله -تبارك وتعالى: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [سورة القلم:20] والصريم بعضهم قال: يعني سوداء محترقة، وبعضهم قال: بيضاء، يعني جرداء ليس فيها زرع، هذا هو المقصود، ولا إشكال، فالمقصود أن ما فيها من زروع وحروث وشجر وما أشبه ذلك كل هذا قد تلف وزال فأصبحت سوداء محترقة، أو أصبحت بيضاء بمعنى أن النبات الذي فيها قد اضمحلّ وزال.

فَلَمّا جَآءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ۝ قَالَ إِنّكُمْ قَوْمٌ مّنكَرُونَ ۝ قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ ۝ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقّ وَإِنّا لَصَادِقُونَ [سورة الحجر:61-64].

يخبر تعالى عن لوط لما جاءته الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه، فدخلوا عليه داره قال: إِنّكُمْ قَوْمٌ مّنكَرُونَ ۝ قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ يعنون بعذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم وحلوله بساحتهم، وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ، كقوله تعالى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ.

وقوله: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ تأكيد لخبرهم إياه بما أخبروه به من نجاته وإهلاك قومه.

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مّنَ اللّيْلِ وَاتّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ۝ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مّصْبِحِينَ [سورة الحجر:65، 66].

يذكر تعالى عن الملائكة أنهم أمروه أن يسري بأهله بعد مضي جانب من الليل، وأن يكون لوط يمشي وراءهم ليكون أحفظ لهم، وهكذا كان رسول الله ﷺ يمشي في الغزو إنما يكون ساقة يُزجي الضعيف ويحمل المنقطع. وقوله: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي: إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا تلتفتوا إليهم، وذروهم فيما حل بهم من العذاب والنكال.

من أهل العلم من حمل الالتفات على الالتفات الحسي، يعني لا تنظروا إليهم، امضوا في طريقكم ولا يلتفت منكم أحد، ومنهم من فسر ذلك بالالتفات المعنوي، يعني وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ: لا تقفوا عند إهلاكهم، وليس معناه النظر والالتفات بالرأس، والأول هو الأقرب -وهو ظاهر الآية- أنهم نهوا عن الالتفات، أن لا يلتفت أي: لا ينظر إليهم حال إهلاكهم.

وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ كأنه كان معهم من يهديهم السبيل.

لا يلزم أن يكون معهم من يهديهم السبيل، وحَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي حيث يأمره الله عن طريق الوحي.

وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أي: تقدمنا إليه في هذا، أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ أي: وقت الصباح كقوله في الآية الأخرى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ.

قوله: أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ الدابر: هو الآخر، أن دابرهم مقطوع مصبحين، تقول: قَطع دابرَهم يعني استأصلهم عن آخرهم، لم يُبق منهم أحداً، معنى ذلك أنه أهلكهم جميعاً.

وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ قَالَ إِنّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ ۝ وَاتّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ ۝ قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ۝ قَالَ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ۝ لَعَمْرُكَ إِنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الحجر:67-72].

يخبر تعالى عن مجيء قوم لوط لما علموا بأضيافه وصباحة وجوههم، وأنهم جاءوا مستبشرين بهم فرحين، قَالَ إِنّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ ۝ وَاتّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم أنهم رسل الله، كما قال في سورة هود، وأما ههنا فتقدم ذكر أنهم رسل الله، وعطف بذكر مجيء قومه ومحاجته لهم، ولكن الواو لا تقتضي الترتيب ولا سيما إذا دل دليل على خلافه.

جاء الملائكة إليه على أنهم ملائكة، وأخبروه لما قال لهم: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ، قالوا: بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ عرف أنهم ملائكة، ثم جاء أهل المدينة يستبشرون، في ترتيب الآيات أنهم جاءوا بعد أن عرف أنهم من الملائكة، وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ قَالَ إِنّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ، فالواو وَجَآءَ هي التي يتحدث عنها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: ”إنها لا تقتضي الترتيب“، الواو أصلاً لا تقتضي الترتيب.

وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ جاء أهل المدينة قبل أن يدور هذا الحوار بين لوط ﷺ وبين الملائكة، وقبل أن يعرف أنهم ملائكة، فلما نزل به هؤلاء الأضياف جاءه قومه وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ۝ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ۝ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [سورة هود:78-80]، على القولين أنه وجه هذا الخطاب للملائكة، أو أنه وجهه لقومه أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [سورة هود:80]، عندئذ قال الملائكة: يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ [سورة هود:81] فالواو هذه لا تقتضي الترتيب.

فقالوا له مجيبين: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ أي: أوَ ما نهيناك أن تضيّف أحداً؟

قوله: أَوَلَمْ نَنْهَكَ يحتمل أنهم نهوه عن أن يضيّف أحداً، ويحتمل أن يكون المعنى أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ أي: أن تجادلنا فيهم، دع الناس وشأنهم، لا تجادلنا في أحد، ولا تنكر علينا هذا العمل، أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ.

فأرشدهم إلى نسائهم وما خلق لهم ربهم منهن من الفروج المباحة. وقد تقدم إيضاح القول في ذلك بما أغنى عن إعادته.

قوله: هَؤُلاء بَنَاتِي قيل إنه عرض عليهم التزوج من بناته، والمشهور أن قوله: هَؤُلاء بَنَاتِي أي: بنات القبيلة، والنبي بمنزلة الأب لقومه، على قراءة آية الأحزاب ”النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم“، لكنها قراءة ليست متواترة، والقراءة الأخرى: ”النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم“، قراءة أبيّ وابن عباس -ا، والأبوة أبوتان كما قيل، أبوة ولادة، وأبوة تعليم وتربية.

هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم وما قد أحاط بهم من البلاء، وماذا يصبحهم من العذاب المستقر؛ ولهذا قال تعالى لمحمد ﷺ: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الحجر:72].

كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- باعتبار أنهم قوم لوط، يجادلونه في هؤلاء الأضياف، ويريدون فعل الفاحشة بهم، وهؤلاء ملائكة جاءوا بعذابهم، وهذا هو الظاهر المتبادر، والقول الآخر الذي قال به طائفة من السلف: إن ذلك يقصد به كفار قريش، إنهم لَفِي سَكْرَتِهِمْ، ولكن هذا فيه بعد، والله أعلم.

وقوله: لَعَمْرُكَ المقصود القسم بعمر النبي ﷺ، يقال: عُمرٌ وعَمرٌ بالفتح والضم، ولكن صار الذي يستعمل مع القسم ما كان بالفتح؛ لأنه أخف على اللسان من أن يقول: لعُمرك، فيقال: لعَمرك، فهو قسم.

ولهذا قال تعالى لمحمد ﷺ: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أقسم تعالى بحياة نبيه -صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض.

وقيل: إن هذا قسم بحياة لوط -عليه الصلاة والسلام، وإن الذين أقسموا هم الملائكة، ولكن هذا بعيد.

قال عمرو بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس -ا- أنه قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد ﷺ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ يقول: وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا. إنهم لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ رواه ابن جرير.

وقال قتادة: لَفِي سَكْرَتِهِمْ أي: في ضلالهم، يَعْمَهُونَ أي: يلعبون، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: لَعَمْرُكَ لعيشك إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال: يترددون.

قوله: يَعْمَهُونَ أي: يتخبطون ويتحيرون ويترددون، وذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أنه عبر بالسكرة إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ على أن المراد -كما هو المشهور والظاهر المتبادر- قوم لوط، وليس المراد به قريش، عبر بالسكرة؛ لأن سكر الشهوة يماثل سكر الشراب، فإذا كانت الشهوة غالبة على الإنسان فإنه يصير في حال مثل السكر، فيوقعه ذلك في ما يدنس شرفه ومروءته، ولربما بلغ به الأمر أن يقع على بنته وأخته ومحارمه -نسأل الله العافية- وكل ذلك بسبب سكر الشهوة؛ ولذلك فإن هؤلاء الذين يجنون على أنفسهم فيشاهدون الأفلام السيئة والمواقع السيئة، يصلون إلى حالة تشبه السكر، ثم بعد ذلك يقع على أقرب من يجد، فكم رجلٍ وقع على بناته، وهذا يقع على أخته، يكون في حال مثل السكران، مثل البهيمة تمامًا، يريد شيئًا يقضي فيه وطره، ولو لم يقض هذا الوطر لوجد عنتًا وتعبًا وألما في جسده، نسأل الله العافية، والله المستعان.

مواد ذات صلة