الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
[10] من قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} الآية 94 إلى قوله تعالى: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} الآية 99.
تاريخ النشر: ١١ / ذو القعدة / ١٤٢٨
التحميل: 2205
مرات الإستماع: 2275

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله- في تتمة كلامه على قوله -جل وعلا: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [سورة الحجر:95] الآيات.

قال محمد بن إسحاق: كان عظماء المستهزئين خمسة نفر، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم، من بني أسد بن عبد العزى بن قصي: الأسود بن المطلب أبو زمعة، كان رسول الله ﷺ فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه، فقال: اللهم أعم بصره، وأثكله ولده[1]، ومن بني زهرة: الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، ومن بني مخزوم: الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي: العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم، ومن خزاعة: الحارث بن الطُلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد عمرو بن ملكان.

معنى الطلاطلة في اللغة: الداهية.

ضبط بعضهم مَلْكان، وبعضهم مَلَكان، وبعضهم مِلْكان بالكسر والإسكان.

فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله ﷺ الاستهزاء أنزل الله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ۝ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ ۝ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ [سورة الحجر:94-96].

وقال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير أو غيره من العلماء: أن جبريل أتى رسول الله ﷺ وهو يطوف بالبيت، فقام وقام رسول الله ﷺ إلى جنبه، فمر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي، ومر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه، فاستسقى بطنه فمات منه حَبَناً، ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرحٍ بأسفل كعب رجله، وكان أصابه قبل ذلك بسنتين، وهو يجر إزاره، وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلاً له.

الحَبَن انتفاخ البطن، فمات منه حَبَناً.

يريش نبلاً له: يعني يلصق فيه الريش، والسهم يوضع فيه الريش من أجل أن ينطلق بطريقة لا ميل فيها.

فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك الخدش، وليس بشيء، فانتقض به فقتله، ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص قدمه فخرج على حمار له يريد الطائف، فربض على شِبْرِقة فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته، ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخض قيحاً فقتله.

فانتقض: يعني جراحه انتقضت، أي تجددت بعدما برئت.

فامتخض بالضاد، فامتخض قيحاً، يعني تحرك القيح في رأسه وانتشر فمات.

وقوله: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ تهديد شديد ووعيد أكيد لمن جعل مع الله معبوداً آخر.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكما أن الأثر السابق لا يصح، فكذلك هذا لا يصح، ”وعن عروة بن الزبير أو غيره من العلماء: أن جبريل.. إلى آخره“، وجاء أيضًا بنحوه عن ابن عباس -ا- عند أبي نعيم ولكن بإسناد حكم عليه بالوضع، ولا يوجد من الآثار التي تشبه هذا ما هو أحسن حالًا وأقوى سندًا، ومجموع هذه الروايات يدل على أن لذلك أصلًا، والله أعلم.

وقوله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ۝ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [سورة الحجر:97-98] أي: وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك ضيق صدر وانقباض فلا يهيدنّك ذلك ولا يثنينك عن إبلاغك رسالة الله، وتوكل عليه فإنه كافيك وناصرك عليهم، فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة، ولهذا قال: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ.

قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، كقوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ [سورة الأنعام:33] وكقوله: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6]، وقوله: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ [سورة هود:12] الآية، فهذه الآيات ونظائرها تدل على هذا المعنى، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ.

ثم أرشده إلى ما يفعله عند ذلك فقال: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ، كما قال الله : إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [سورة المزمل:5] ثم قال له: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ۝ إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [سورة المزمل:6، 7]، الشاهد أنه أرشده إلى قيام الليل، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ [سورة البقرة:45] يستعان بها على هذا وعلى كل ما يصيب الإنسان من الشدائد، وحتى على القيام والنهوض بالتكاليف الشرعية.

كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن نعيم بن همّار أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكْفك آخره[2]. وفي بعض الألفاظ: اكفني أربع ركعات[3].

وقوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [سورة الحجر:99] قال البخاري: قال سالم: الموت، وسالم هذا هو سالم بن عبد الله بن عمر، كما روى ابن جرير عن سالم بن عبد الله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال: الموت، وفي الصحيح عن أم العلاء -امرأة من الأنصار -ا- أن رسول الله ﷺ لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات، قالت أم العلاء: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله ﷺ: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، فمن؟ فقال: أما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير[4]، ويستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتًا، فيصلي بحسب حاله.

لأن ذلك قيد إلى حد الوفاة، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، وسواء كان ذلك في الصلاة أو في غيرها، ويبين ذلك حديث النبي ﷺ أن القلم رفع عن ثلاثة[5]، فطالما أن الإنسان وجد فيه العقل فإنه مطالب بالعبادة إلى أن يأتيه الموت، فالعبادة لا تسقط عن المكلف ما دام يعقل، لا تسقط سقوطًا كليًا ولا تصير إلى بدل، بخلاف بعض العبادات التي تسقط بالعجز كالحج، ومنها ما يسقط إلى بدل مثل الوضوء إلى التيمم، أما تفسير بعض الصوفية بأن اليقين هو أن يصل الإنسان -كما يزعمون- إلى مرحلة الكشف، ثم تسقط عنه بعد ذلك التكاليف، فهذه زندقة وإلحاد.

ويقولون في قوله تعالى مثلًا: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۝ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۝ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۝ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ۝ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [سورة المدثر:43-47] أتاهم اليقين يعني الكشف، هؤلاء الكفار في النار يقولون: حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ! ومعنى اليقين: الموت، والقرآن يفسر بالقرآن، وهذا الحديث في عثمان بن مظعون قال: فقد جاءه اليقين[6] يعني: الموت.

كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين -ا- أن رسول الله ﷺ قال: صلَّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنْب[7]، ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم، وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء -عليهم السلام- كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد الناس وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة، وإنما المراد باليقين ههنا الموت، كما قدمناه، ولله الحمد والمنة، والحمد لله على الهداية، وعليه الاستعانة والتوكل، وهو المسئول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها، فإنه جواد كريم.

آخر تفسير سورة الحجر، والحمد لله رب العالمين.

  1. وذكره الحافظ –أيضا- في البداية والنهاية (3/105)، وابن هشام في السيرة (2/256).
  2. رواه الإمام أحمد في المسند برقم (22469)، وقال محققوه: حديث صحيح، وهذا إسناد رجاله ثقات، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4342).
  3. رواه الإمام أحمد في المسند برقم (17390)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح غير نعيم بن همار، فقد روى له أبو داود والنسائي، وهو في قول الجمهور صحابي، وعده العجلي تابعياً، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2794).
  4. رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب القرعة في المشكلات، برقم (2541).
  5. رواه أبو داود، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً، برقم (4398)، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم، برقم (2041)، والنسائي، كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، برقم (3432)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3512).
  6. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه، برقم (1186).
  7. رواه البخاري، أبواب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب، برقم (1066).

مواد ذات صلة