بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [سورة النحل:35-37].
يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم محتجين بالقدر بقولهم: لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ: أي من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ما لم ينزل به سلطانًا، ومضمون كلامهم: أنه لو كان تعالى كارهًا لما فعلنا، لأنكره علينا بالعقوبة، ولما مكننا منه، قال الله تعالى رادًّا عليهم شبهتهم: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ: أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم، بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار، ونهاكم عنه آكد النهي، وبعث في كل أمة أي: في كل قرن وطائفة من الناس رسولًا، وكلهم يدعون إلى عبادة الله، وينهون عن عبادة ما سواه، أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ.
فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم، في قوم نوح الذين أُرسل إليهم نوح، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد ﷺ، الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء:25].
قوله تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [سورة الزخرف:45]، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ، فيكف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ؟ فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، وأما مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدرًا، فلا حجة لهم فيها؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة.
ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل، فلهذا قال: فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ: أي: اسألوا عما كان مِنْ أمر مَنْ خالف الرسل، وكذب الحق كيف دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [سورة محمد:10]، فقال: وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [سورة الملك:18]، ثم أخبر الله تعالى رسوله ﷺ أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم إذا كان الله قد أراد إضلالهم كقوله تعالى: وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا [سورة المائدة:41].
وقال نوح لقومه: وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ [سورة هود:34]، وقال في هذه الآية الكريمة: إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ كما قال الله تعالى: مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الأعراف:186] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس:96، 97].
وقوله: فَإِنَّ اللّهَ: أي شأنه وأمره أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلهذا قال: لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ: أي من أضله، فمن ذا الذي يهديه من بعد الله؟ أي لا أحد، وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ: أي ينقذونهم من عذابه ووثاقه، أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:54].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ، هؤلاء كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يحتجون بالقدر على المعائب، ومعلوم أن القدر لا يجوز أن يحتج به على المعائب، وإنما يمكن أن يحتج به على المصائب، فالله -تبارك وتعالى- يهدي من يشاء، ويضل من يشاء بعلم وحكمة، وما قدره الله -تبارك وتعالى- وقضاه فهو كائن، وهو القائل: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [سورة الليل:5-10]
والقائل: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ [سورة التوبة:115]، وهؤلاء احتجوا على المعائب بالقدر، وهو احتجاج باطل، ووجه احتجاجهم قولهم: لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ: أي: أن الله قدر ذلك علينا، واحتجوا بهذا التقدير على أن الله -تبارك وتعالى- يرضى هذا ويحبه، فظنوا أن مشيئته العامة وقدره الكوني يقتضيان المحبة، كما هو قول بعض طوائف المبتدعة، ومعلوم أن مشيئته العامة وقدره الكوني لا يقتضيان المحبة، فالله -تبارك وتعالى- قدر وجود الكفر ومع ذلك فهو يقول: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [سورة الزمر:7]، وإنما يريد الإيمان والطاعة وفعل الخيرات واجتناب المعاصي، وهذه إرادة شرعية، وتجتمع هذه الإرادة مع الإرادة الكونية فيمن استجاب، وأناب، وآمن، وأطاع الله ورسوله ﷺ.
والحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [سورة النحل:36]، فسَّر الأمة هنا فقال: بعث في كل أمة: أي في كل قرن وطائفة من الناس رسولًا، وهنا جمع بين معنيين، والأمة في أصلها تأتي للمدة الزمنية، وتأتي للجماعة من الناس، وتأتي لمعانٍ أُخَر، وهنا قال: فِي كُلِّ أُمَّةٍ: أي في كل قرن وطائفة من الناس رسولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ، ثم هنا في قوله -تبارك وتعالى: أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ، الطاغوت: يقال لكل ما عبد من دون الله وهو راضٍ، وكل ما تجاوز حده أو تجاوز الناس به الحد وهو راضٍ إن كان ممن يعقل فهو طاغوت، فما عبد من الأشجار والأحجار والأصنام ومن البشر وما إلى ذلك كل هذا يقال له: طاغوت.
وقوله -تبارك وتعالى: فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ أي: من أضله فمن ذا الذي يهديه من بعد الله؟ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ: من أضله، فإنه لا أحد يهديه، هكذا فسرها الحافظ ابن كثير، فالمعنى: إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ: أي: من قدر عليه الضلالة فإنه لا يهديه، لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ، وهذا هو ظاهر الآية، ورجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في تفسيرها.
وتحتمل الآية معنىً آخر وهو أن الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ: أي من يُضلُّ الناسَ، ولكن هذا فيه بعد؛ لأن المعنى أوسع من هذا، والآية فيها على كل حال قراءتان متواترتان، فهذه القراءة التي نقرأ بها لاَ يَهْدِي هي قراءة الكوفيين، وقرأ بقية القراء لاَ يُهْدَى مَن يُضِلُّ، وهذه القراءة في المعنى أكثر وضوحًا من الأولى، إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُهْدَى مَن يُضِلُّ، من يضله الله فلا أحد يهديه من الناس، وأما القراءة الأولى لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ: من سبقت له الشقاوة عند الله -تبارك وتعالى- فإن الله لا يهديه.
وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة النحل:38-40].
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين أنهم حلفوا فأقسموا بالله جهد أيمانهم، أي: اجتهدوا في الحلف، وغلظوا الأيمان على أنه لا يبعث الله من يموت، أي: استبعدوا ذلك، وكذبوا الرسل في إخبارهم لهم بذلك، وحلفوا على نقيضه، فقال تعالى مكذبًا لهم ورادًّا عليهم: بَلَىَ: أي بلى سيكون ذلك، وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا: أي لا بد منه وَلَكِنّ أَكْثَرَ الْنّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ: أي: فلجهلهم يخالفون الرسل ويقعون في الكفر، ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد، فقال: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ: أي للناس، الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ: أي من كل شيء لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [سورة النجم:31].
في قوله هنا: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، الضمير في قوله: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ يرجع إلى من؟ يحتمل أن يكون عائدًا إلى الموتى، وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا: أي يبعثهم لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ: أي يبين لهؤلاء الذين ماتوا، وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا أعم في المعنى، أي لِيُبَيِّنَ لَهُمُ: أي للناس المؤمن والكافر، فالله يوم القيامة يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، وهذا دل عليه القرآن في مواضع أخرى، ويحتمل أن يكون لِيُبَيِّنَ لَهُمُ متعلقًا بقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أي: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، لكن ما قبله أقوى منه وأقرب في المعنى، ويحتمل أن يكون الضمير في لِيُبَيِّنَ لَهُمُ يرجع إلى هؤلاء الذين يجادلون في قدرة الله على إحياء الموتى، والبعث، وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا، لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ هؤلاء الذين يشاقون ويجادلون في البعث، هذا معنى لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ من أمر البعث وإحياء الموتى بعد فنائهم.
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ: أي: في أيمانهم وأقسامهم لا يبعث الله من يموت، ولهذا يُدَعُّون يوم القيامة إلى نار جهنم دعًا، وتقول لهم الزبانية: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الطور:14-16]، ثم أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن، فيكون، والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة، فيكون كما يشاء، كقوله: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [سورة القمر:50]، وقال: مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [سورة لقمان:28]، وقال في هذه الآية الكريمة: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: أي: أن نأمر به مرة واحدة فإذا هو كائن، أي أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به، فإنه تعالى لا يُمانَع ولا يخالف؛ لأنه الواحد القهار العظيم الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [سورة النحل:41، 42].
يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان والخِلّان رجاء ثواب الله وجزائه، ويحتمل أن يكون سبب نزولها في مُهاجِرة الحبشة الذين اشتد أذى قومهم لهم بمكة حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة؛ ليتمكنوا من عبادة ربهم، ومن أشرافهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله ﷺ، وجعفر بن أبي طالب ابن عم الرسول ﷺ، وأبو سلمة بن عبد الأسود، في جماعة قريب من ثمانين ما بين رجل وامرأة صدّيق وصدّيقة - وأرضاهم، وقد فعل، فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة، فقال: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً.
قال ابن عباس -ا- والشعبي وقتادة: المدينة، وقيل: الرزق الطيب، قاله مجاهد، ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيرًا منها في الدنيا، فإن من ترك شيئًا لله عوضه الله بما هو خير له منه، وكذلك وقع فإنهم مكن الله لهم في البلاد، وحكمهم على رقاب العباد، وصاروا أمراء حُكامًا، وكل منهم للمتقين إمامًا، وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا، فقال: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ: أي: مما أعطيناهم في الدنيا، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ: أي: لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله، ثم وصفهم تعالى فقال: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ: أي: صبروا على الأذى من قومهم متوكلين على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.
هذه الآية يقال فيها كما قيل في الآية التي سبقت وهي قوله -تبارك وتعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ [سورة النحل:30] فهنا قال: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً: أي مباءة حسنة، أو تبْوِئة حسنة، والذين هاجروا هنا يمكن أن يحمل على أعم مما ذكر، يعني لا يختص هذا بالذين هاجروا إلى الحبشة، أو الذين هاجروا من مكة إلى المدينة مثلًا، وإنما ذلك وعد من الله عام لكل من هاجر بدينه فرارًا به؛ فإن الله وعده بهذا الوعد، وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ.
ولا يؤثر على هذا أن التعبير جاء بالفعل الماضي، وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ، فكل من تحقق فيه هذا الوصف فهو موعود بذلك، وأولى من يدخلون فيه أولئك الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة أو إلى المدينة، فكل ذلك يشمله هذا العموم وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً فهذا وعد لمن هاجر، ولهذا عبر بالفعل الماضي، ما قال: والذين يهاجرون، أو سيهاجرون، وإنما هذا تسلية ووعد لمن فقد الأهل والعشيرة والوطن في سبيل الله -تبارك وتعالى، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، والمباءة سبق الكلام عليها.
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وهذه الحسنة التي تكون في الدنيا: من أهل العلم -كما سبق- من يقول: هي النصر على الأعداء، ومنهم من يقول: ما حصل من الفتوح، ومنهم من يقول: ما يقع لهم، أو ما وقع لهم من الذكر الجميل على مر العصور، وبعضهم يقول: الرزق الطيب ونحو ذلك، والآية هنا يقال فيها كما قيل في الآية السابقة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً.
فلا يفهم من هذا أن المقصود هو رغد العيش، والنعيم الذي يكون للأبدان، فإن من هؤلاء من قتل ولم يرَ هذه الفتوح، ولم يحصل له التوسع والتلذذ بالطيبات، ولكن ما يحصل لأهل الإيمان من السعادة واللذة والأنس والانشراح بمعرفة الله ، وقد يحصل معه لهم شيء من هذا الحطام العاجل في الدنيا كما حصل لكثير من أصحاب رسول الله ﷺ، وعلى كل حال في قوله هنا: وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ، يحتمل أن يكون قوله لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ راجعًا إلى المؤمنين، الذين وعدهم الله ، أو الذين تخلفوا عن الهجرة، فإن أجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، ويحتمل أن يكون عائدًا إلى الذين ظلموهم وآذوهم وأخرجوهم، فالله يقول: وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ.
سؤال: من فسر الآية المتقدمة فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ [سورة النحل:26] بأن الله أتى إليهم حقيقة، فما حكم ذلك؟
لا، ليس كذلك ولا يفهم هذا من ظاهره، قال: فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ، أتى بنيانهم من القواعد، بهذا القيد، فأتاه من القواعد ما معناه؟ معناه أنه دمره، وأبطله، وأزاله، هذا المقصود، لمّا تقول: فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، أتاهم يعني: جاءهم بنفسه من حيث لم يحتسبوا؟ لا، وإنما أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا بالعذاب، هذا هو ظاهر القرآن، وليس هذا من التأويل في شيء، فأتى بنيانهم: بمعنى أزاله.
فائدة: فيمَ يُهتدى بالنجوم؟
وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [سورة النحل:16] يُهتدى بها في الأسفار، ونظرُ إبراهيم في النجوم ليس فيه دلالة على غير ذلك، وإنما ذكر بعض أهل العلم أنه أراد أن يشاكلهم، أو أن يفعل شيئًا لأنهم يعبدون ويعظمون هذه النجوم والكواكب، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [سورة الصافات:88، 89] ليوهمهم بهذا المعنى من أجل أن يتوصل إلى تحطيم هذه الأصنام، ثم قال لهم بعد ذلك: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [سورة الأنبياء:63]، وإلا فالنظر في النجوم هنا لا يدل على أنه عرف أنه سقيم، أو ليس بسقيم بمجرد النظر في النجوم، فإنها لا تُنبئ عن شيء من ذلك إطلاقًا.