بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وأجمعين.
قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ [سورة النحل:43، 44].
قال الضحاك: عن ابن عباس -ا: لما بعث الله محمدًا ﷺ رسولًا أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، فأنزل أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [سورة يونس:2] الآية، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يعني: أهل الكتب الماضية: أبشرًا كانت الرسل إليهم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم وإن كانوا بشرًا فلا تنكروا أن يكون محمد ﷺ رسولًا، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [سورة يوسف:109]، ليسوا من أهل السماء كما قلتم.
وكذا روي عن مجاهد عن ابن عباس --: أن المراد بأهل الذكر أهل الكتاب، وذلك كما قال تعالى: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [سورة الإسراء:93-94].
وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [سورة الفرقان:20]، وقال تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [سورة الأنبياء:8]، وقال: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف:9].
وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [سورة الكهف:110]، ثم أرشد الله تعالى من شك في كون الرسل كانوا بشرًا إلى سؤال أصحاب الكتب المتقدمة عن الأنبياء الذين سلفوا هل كان أنبياؤهم بشرًا أو ملائكة؟ ثم ذكر تعالى أنه أرسلهم بِالْبَيِّنَاتِ أي: بالحجج والدلائل، وَالزُّبُر وهي الكتب، قاله ابن عباس -ا- ومجاهد والضحاك وغيرهم، والزبر: جمع زبور، تقول العرب: زبرتُ الكتاب إذا كتبته.
وقال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [سورة القمر:52]، وقال: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [سورة الأنبياء:105]، ثم قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ يعني: القرآن، لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ أي: من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله عليك وحرصك عليه واتباعك له، ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم، فتفصّل لهم ما أُجمل، وتبين لهم ما أشكل، وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي: ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالًا نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ، فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ قال: ”يعني أهل الكتب الماضية“، وهذا كقول من قال: فاسألوا أهل التوراة والإنجيل، وقول من قال: أهل الكتاب، أو اليهود والنصارى، أو نحو ذلك فإن هذا يرجع إلى شيء واحد، الكتب أعم من هذا ولكن المتاح حينما نزلت هذه الآية والذي يمكن أن يسأل هم علماء أهل الكتاب، فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ، اسألوا هؤلاء عن الرسل الماضين هل كانوا بشرًا أو ملائكة؟
وهذه الآية ترد على ألسن العلماء وغير العلماء كثيرًا ويستعملونها في معنىً أعم من هذا، فأهل الذكر يعني كل من ينسب إلى الذكر والعلم، فلا يخصون ذلك بأهل الكتاب، كما يقول الزجّاج في تفسيرها، وهذا الاستعمال في محله، وهو استعمال صحيح غير منكر، فالآية وإن كانت نازلة في معنىً معين، لكن معناها مأخوذ من لفظها الأعم، يمكن أن يحتج به أو أن يورد في الموارد التي تصلح لهذا العموم، أو تدخل تحته فيقال: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ كل من ينسب إلى ذكر وعلم يُسأل، ليس في هذه القضية خاصة، وإنما فيما يصلح في كل مقام.
فالناس إذا احتاجوا إلى معرفة ما أنزل الله على رسول الله ﷺ والتبس عليهم أمر، وأرادوا أن يعرفوا حكمًا يقال لهم: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ؛ لأن الله أرشد هؤلاء الذين نزلت الآية مخاطبة لهم فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ، إلى سؤال أهل الذكر -أهل العلم بالكتب- ليعرفوا أن الرسل كانوا بشرًا، وهكذا كل من أراد أن يتوصل إلى شيء فعليه أن يسأل أهله العارفين به، والمختصين بهذا اللون من ألوان المعرفة، وحتى في الصنائع والأمور الدنيوية، فإذا كانت قضية تتعلق بالطب مثلًا فإنه يَسأل الأطباء ولا يَسأل الفلاحين، وإذا كانت قضية تتعلق بالزراعة فإنه يسأل أهل الزراعة، وهكذا.
ومن أهل العلم من يقول بأن الذكر هو القرآن، والله قال بعده: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ، وقال: وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ [سورة الأنبياء:50] فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ: يعني أهل القرآن، وفي هذه الآية ليس هو المراد؛ لأن هؤلاء يجادلون في القرآن، ويجادلون في إرسال محمد ﷺ، ويقولون: إنما يعلمه بشر، فكيف يحالون إلى سؤال أهل القرآن؟ وإنما كانوا يطمئنون إلى أهل الكتاب فكانوا يسألونهم؛ لمعرفتهم بما كان عليه الأنبياء قبلهم.
وقوله -تبارك وتعالى: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، هذه اللفظة بِالْبَيِّنَاتِ من أهل العلم من يقول: إنها مرتبطة بما ذكر قبلها لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ، أي إن كنتم غير عارفين بالبينات والزبر، ولا عهد لكم بها ولا معرفة فاسألوا أهل الذكر، ومن أهل العلم من يقول: إنها متعلقة بقوله: أَرْسَلْنَا، فالله يقول: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ، وَمَا أَرْسَلْنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، والزبر: الكتب، والبينات: الحجج الواضحات، تقول: زبرت الكتاب أي كتبته، والمعنى: وما أرسلنا بالبينات والزبر، وهذا هو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله.
ومنهم من يقول: فيه تقديم وتأخير، -والأصل في الكلام الترتيب، وإذا دار الكلام بين التقديم والتأخير والترتيب فالأصل فيه الترتيب، فيقولون: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا نوحي إليهم، وبعضهم يقول: متعلق بمحذوف، فيكون الكلام هكذا، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ أرسلناهم بالبينات والزبر، والأصل في الكلام الاستقلال، و”إذا دار الكلام بين الاستقلال والإضمار فالأصل الاستقلال“، ومهما أمكن حمل الكلام على وجه صحيح من غير الحاجة إلى التقدير فهو المطلوب وهو الأصل.
ومن أهل العلم من يقول: إنه متعلق بـ نُّوحِي، ويكون الكلام هكذا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ بالبينات والزبر، وهذا أبعد من المعاني المذكورة قبله، وبعضهم يقول: متعلق بقوله: رِجَالًا، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا يعني: متلبسين بالبينات والزبر، أرسلناهم بالبينات والزبر، لا بقوله: أَرْسَلْنَا، وإنما بـ رِجَالًا أي: متلبسين بالبينات والزبر، وهذا فيه بعد، والله تعالى أعلم.
أَفَأَمِنَ الّذِينَ مَكَرُواْ السّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىَ تَخَوّفٍ فَإِنّ رَبّكُمْ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ [سورة النحل:45-47].
يخبر تعالى عن حلمه وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون إليها، ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم وحملهم عليها، مع قدرته على أن يخسف بهم الأرض أو يأتيهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أي: من حيث لا يعلمون مجيئه إليهم، كقوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [سورة الملك:16، 17].
وقوله: أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ أي: في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها في أسفارهم ونحوها من الأشغال الملهية، قال قتادة والسدي: تَقَلُّبِهِمْ أي: أسفارهم، كقوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ [سورة الأعراف:97، 98].
وقوله: فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: لا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه، وقوله: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ أي: أو يأخذهم الله في حال خوفهم من أخذه لهم، فإنه يكون أبلغ وأشد، فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد؛ ولهذا قال العوفي عن ابن عباس -ا: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ، يقول: إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك، وكذا روي عن مجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم، ثم قال تعالى: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ أي: حيث لم يعاجلكم بالعقوبة، كما ثبت في الصحيحين: لا أحد أصبر على أذىً سمِعه من الله، إنهم يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم[1]، وفيهما: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ رسول الله ﷺ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [سورة هود:102][2]، وقال تعالى: وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [سورة الحج:48].
المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تبارك وتعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ: ”أي في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها في أسفارهم ونحوها من الأشغال الملهية“، ونقل عن بعض السلف: ”أي تقلب هؤلاء في أسفارهم“، هذا هو المعنى المتبادر، أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ أي: ذهابهم ومجيئهم وتنقلاتهم وأسفارهم، هذه المعاني التي يذكرها السلف داخلة فيه.
ومن أهل العلم من فسره بمعنىً آخر فقال: فِي تَقَلُّبِهِمْ: يعني على فرشهم، وذلك كقوله -تبارك وتعالى: وَهُمْ نَائِمُونَ [سورة القلم:19]، وهذا فيه بعد، ولا يتبادر إلى الذهن، وإنما التقلب في الذهاب والمجيء، وطلب المعايش والسفر ونحو ذلك، هذا هو المتبادر، والقرآن إنما يحمل على الظاهر المتبادر، دون المعاني البعيدة.
يقول ابن كثير -رحمه الله: في قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىَ تَخَوّفٍ: ”أي أو يأخذهم الله في حال تخوفهم من أخذه لهم، فإنه يكون أبلغ وأشد“، ومعنى ذلك كما قال الله : أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ [سورة الأعراف:97]، فإذا جاءهم بأس الله بياتًا وهو نائمون، أو جاءهم ضحىً وهم يلعبون، فهم لاهون غافلون لا يتوقعون حصول هذا العذاب الذي ينزل بهم، فيقابله الأخذ على التخوف يعني أنهم حيث يتخوفون من الأخذ ونزول العقوبة، وله وجه، لكن غيره أولى منه -والله تعالى أعلم، وذلك لأن تفسير الآية بالتنقّص عليه عامة المفسرين، بمعنى أن الله يأخذ هؤلاء على تخوف أي على تنقص، فلا يأخذهم أخذًا مستأصلًا بعذاب يستأصلهم ويقطع دابرهم، وإنما يأخذهم شيئًا فشيئًا، حتى يأتي على آخرهم، وهذا معروف في كلام العرب، ومنه الموقف الذي صار لعمر حينما سأل عن التخوف فقام له رجل وقال: إنه التنقص، في لغتهم، وسأله عن شيء يشهد لهذا فذكر له البيت المعروف، يصف الناقة:
تخوف الرحل منها تامكًا قرِدًا | كما تخوف عود النبعة السَّفِن |
يعني: الرحل اشتد على الناقة فأثر في سنامها، وتامكًا قردًا: يعني فيه القراد، وهي دويبة معروفة تعيش غالبًا في الإبل، والغنم.
السفِن الذي يصنع السفينة، ينحت وينقر العود الذي في مقدمها، فالشاهد أن التخوف فُسر بمعنى التنقص الواحد ثم الواحد، فالله -تبارك وتعالى- يقول: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ يعني: العذاب المستأصل، ويقابله أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىَ تَخَوّفٍ، قد يقول قائل: إنه لا يتعارض مع القول الآخر المذكور قبله، وهو أن يأخذهم وهم في حال خوف وترقب، وذلك أنه إذا أخذ صاحبه تخوف الأخذ بعده، لكن من فسر بهذا التفسير المذكور لا يقصد هذا، وإنما يقصد أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىَ تَخَوّفٍ أي: تنقص، أي أنه لا يستأصلهم إنما الواحد بعد الآخر.
وقد يشكل على هذا المعنى بأن ذلك يقع لجميع الناس، فالناس يفنون بهذه الطريقة الواحد بعد الواحد، فهذا المسجد الذي يوجد فيه هؤلاء الناس بعد مدة لا يبقى منهم أحد، يفارقون هذه الدار، الواحد بعد الآخر، كما نشاهد القرن الماضي والذي قبله والذي قبله، كانوا كثيرًا يملئون الأسواق والجوامع وغير ذلك، هل ماتوا جميعًا مرة واحدة؟ إنما يموت الواحد بعد الآخر حتى لا يبقى أحد، وهذا هو الأشهر، وقول من قال بأنه يأخذهم على تخوف يعني على تنقص هو اختيار ابن جرير -رحمه الله، ومن أهل العلم من فسره بمعنىً أبعد من هذا، قال: عَلَىَ تَخَوّفٍ أي: على عجل، أي: يعاجلهم بالأخذ، ولكن هذا فيه بعد، والله أعلم.
أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَىَ مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشّمَآئِلِ سُجّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِن دَآبّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة النحل:48-50].
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها جماداتها وحيواناتها، ومكلفوها من الإنس والجن، والملائكة، فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال، أي: بكرة وعشيًا فإنه ساجد بظله لله تعالى، قال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله ، وكذا قال قتادة والضحاك وغيرهم، وقوله: وَهُمْ دَاخِرُونَ أي: صاغرون.
قوله: يَتَفَيّأُ ظِلاَلُهُ التفيؤ يكون بعد انتصاف النهار، والمعنى العام الذي تفسر به الآية يَتَفَيّأُ يعني: يتنقل ذات اليمين وذات الشمال، وإنما يقال له: فيء إذا كان بعد انتصاف النهار، هذا هو الفيء، وما قبله يقال له: ظل، والفيء من فاء إذا رجع، فإذا رجع الظل ثانية بعد أن نسخته الشمس يقال له: فيء، فالظل الثابت الذي يُرى يقال له إذا طلعت الشمس ظل، فلا تزال الشمس تنسخه وينقص حتى يذهب، ولا يبقى إلا فيء الزوال، ثم بعد ذلك تنتقل الشمس إلى الناحية الأخرى فينتقل الظل إلى الجانب الآخر، فهذا الذي ينتقل إلى الجانب الآخر بعدما زال الظل جميعًا يقال له: فيء، انتقل الظل من هذه الناحية إلى هذه الناحية، يَتَفَيّأُ ظِلاَلُهُ، فمن قال: يتنقل ظلاله، ينتقل ذات اليمين وذات الشمال، فهو يرجع إلى هذا المعنى -والله أعلم.
قول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ”ونزلهم منزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم فقال: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ“، هذا الآية لا شاهد فيها على تنزليهم منزلة العقلاء، لكن الشاهد في الآية التي بعدها؛ لأنه هنا استعمل لفظة ”ما“ وهي تستعمل لغير العاقل، لكن في الآية الثانية قال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، الأصل في غير العقلاء أن يقال: يسجد ما في السماوات، ويقال: وظلالها، فالشاهد أن ما يضاف إلى العقلاء يستعمل في غير العقلاء في حالات معلومة، وهو إذا كان من باب التغليب مثلًا، فالعقلاء أغلب، أو أن يكون من باب الأشرف، وتستعمل الألفاظ الخاصة بالعقلاء في غير العقلاء إذا اشترك غير العقلاء مع غيرهم وكانوا هم الأكثر، وكذلك إذا كان العقلاء أشرف فيعبر بعبارة ترجع إليهم، أو أنه أضاف إلى غير العقلاء فعلًا من أفعال العقلاء، مثل قوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف:4]، ما قال: رأيتها لي ساجدة، كما هو الشأن لغير العقلاء يعبر عنها بمثل هذا، وعلة تنزيلهم منزلة من يعقل أنه أسند إليهم فعلًا من أفعال العقلاء وهو السجود.
وقوله: وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ أي: تسجد لله، أي غير مستكبرين عن عبادته، يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ أي: يسجدون خائفين وجلين من الرب ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ أي: مثابرين على طاعته تعالى وامتثال أوامره، وترك زواجره.
وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتّخِذُواْ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإيّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي الْسّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَهُ الدّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتّقُونَ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمّ إِذَا مَسّكُمُ الضّرّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمّ إِذَا كَشَفَ الضّرّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل:51-55].
يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه، وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا قال ابن عباس -ا- ومجاهد وعكرمة وميمون بن مهران والسدي وقتادة وغير واحد: أي دائمًا، وعن ابن عباس أيضا: أي واجبًا، وقال مجاهد: أي خالصًا له، أي له العبادة وحده ممن في السموات والأرض، كقوله: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [سورة آل عمران:83]، هذا على قول ابن عباس وعكرمة، فيكون من باب الخبر، وأما على قول مجاهد فإنه يكون من باب الطلب، أي ارهبوا أن تشركوا بي شيئًا، وأخلصوا لي الطاعة، كقوله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [سورة الزمر:3].
قوله -تبارك وتعالى: وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ معروف أن الصيغة هنا صيغة تثنية، لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ، فقال: اثْنَيْنِ وكان يمكن أن يكتفى بقوله: وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ، ولكن الغرض التأكيد.
ومن أهل العلم من يقول: فيه تقديم وتأخير، أي: وقال الله لا تتخذوا اثنين إلهين إنما هو واحدٌ إله، والأصل في الكلام الترتيب، ولا حاجة لمثل هذا التكلف.
ومن أهل العلم من يقول: إنه قال: لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ليبين أن الأمر الذي أنكره هو التعدد، لا إلى الجنسين، وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ فالإله واحد لا يكون متعددًا.
ومن أهل العلم من يقول: قال ذلك مبالغة في التنفير عن اتخاذ آلهة وشركاء مع الله ، وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ وهذان المعنيان أقرب من المعنى الأول الذي هو دعوى التقديم والتأخير، وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ هل يكون الإله أكثر من واحد؟ فهذا القول مع القول الذي قبله يمكن أن يجتمعا.
وقوله -تبارك وتعالى: وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا نقل عن ابن عباس -ا- وغيره أي: دائمًا، ونقل عن ابن عباس: واجبًا، ونقل عن غيره: خالصًا له، الدين: المقصود به الطاعة والعبادة، وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا قول من قال: أي ثابتًا، أو قول من قال: واجبًا، أو قول من قال: مستمرًا دائمًا، أو نحو ذلك، كل هذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد، والمقصود أن كل من يدان له ويطاع من الملوك والرؤساء والعظماء إنما يدان لهم في مدة محدودة من الزمان ما يلبث الواحد منهم أن يموت أو يعزل، ثم بعد ذلك ينساه الناس، وتنقطع طاعته، فأما الله فإنه يطاع طاعة مستمرة دائمة، وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أي: دائمًا واجبًا ثابتًا مستمرًا لا ينقطع ولا يزول كما هو الحال بالنسبة لمن يطاع في هذه الدنيا.
وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- لما ذكر تفسير من فسره بأنه خالصًا، قال: ”هذا على قول ابن عباس وعكرمة، فيكون من باب الخبر، -يعني في الذي قبله وهو “دائمًا”، وأما على قول مجاهد فإنه يكون من باب الطلب“، وَلَهُ الدِّينُ هي خبر متضمن معنى الطلب، حينما يخبر أن الدين خالص له على هذا التفسير، حينما يقول: وله الدين خالصًا، يعني لا تشركوا معه أحدًا، ويكون خبرًا مضمنًا معنى الأمر، مضمنًا معنى الطلب، وهذا له نظائر في القرآن، نحو قوله -تبارك وتعالى: وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ [سورة البقرة:272] هذا خبر، فمن أهل العلم من قال: إنه خبر مضمن معنى الأمر، وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ أي: أنفقوا ابتغاء وجه الله، والله يقول في موضع آخر: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ [سورة البقرة:233] فهذا خبر بصيغة خبرية، ولكنه بمعنى الأمر والطلب، -والله أعلم.
قوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ الجؤار: هو رفع الصوت بالضراعة، تَجْأَرُونَ أي: ترفعون أصواتكم بتضرع أن يكشف الله عنكم هذا الضر، وما حل بكم، وتفسر اللام بالعاقبة، فيكون معنى الآية: ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ يعني: أن وقوعهم في الإشراك بعد كشف الضر عنهم يكون عاقبته الكفر بنعمة الله عليهم، وأصل الشرك هو أظلم الظلم، وذلك أنه وضع العبادة في غير مَن خَلَق، فهو توجه إلى غير المنعم بالعبادة والشكر، فالله الذي خلق وأعطى ورزق هو المستحق أن يعبد وحده لا شريك له، وعبادته هذه من شكره -تبارك وتعالى، فإذا وُجه العمل والعبادة إلى غير من خلق، وإلى الذي لم يعطِ ولم يرزق، فهذا من الظلم، فتوجيه العبادة إلى جماد لا يملك نفعًا ولا ضرًا، وترك المنعم المتفضل من أعظم الظلم، فتكون لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ للعاقبة بهذا الاعتبار، -والله أعلم.
وقوله: فَتَمَتّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ من باب التهديد والوعيد مثل: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [سورة فصلت:40]، ومثل: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [سورة الزمر:8]، والأمر صيغته هذه تأتي لمعانٍ منها التهديد.
- رواه البخاري، كتاب الأدب، باب الصبر على الأذى، برقم (5748)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لا أحد أصبر على أذىً من الله ، برقم (2804)، من حديث أبي موسى .
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ، برقم (4409)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2583).