بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة النحل:56-60].
يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد بغير علم، وجعلوا للأوثان نصيباً مما رزقهم الله: فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [سورة الأنعام:136] أي جعلوا لآلهتهم نصيباً مع الله وفضلوها على جانبه، فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه وائتفكوه وليقابلنهم عليه، وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم، فقال: تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، وجعلوها بنات الله فعبدوها معه، فأخطئوا خطأ كبيراً في كل مقام من هذه المقامات الثلاث، فنسبوا إليه تعالى أن له ولداً ولا ولد له، ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات، وهم لا يرضونها لأنفسهم، كما قال: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [سورة النجم:22].
وقوله ههنا: وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ: أي عن قولهم وإفكهم، أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [سورة الصافات:151-154].
وقوله: وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ: أي يختارون لأنفسهم الذكور ويأنفون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا: أي كئيباً من الهم وَهُوَ كَظِيمٌ ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ: أي يكره أن يراه الناس مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ: أي: إن أبقاها أبقاها مُهانة لا يورِّثها ولا يعتني بها، ويفضل أولاده الذكور عليها أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ: أي: يئدها، وهو أن يدفنها فيه حية كما كانوا يصنعون في الجاهلية، أفمن يكرهونه هذه الكراهة، ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله؟
أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ: أي بئس ما قالوا، وبئس ما قسموا، وبئس ما نسبوه إليه، كقوله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [سورة الزخرف:17]. وقوله ههنا: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ: أي النقص إنما ينسب إليهم، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى: أي الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ، قوله: لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ يمكن أن يكون ذلك عائداً إلى العابدين المشركين، وهذا الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وذلك أنه قال: ”يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد بغير علم“، يعني بغير علم منهم لما لا يعلمون حقيقته من معبوداتهم من الأصنام والشياطين إلى غير ذلك، يجعلون لهم نصيباً مما رزقهم الله فسيَّبوا لهم السوائب، وبحَّروا البحائر، فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا إلى غير ذلك مما قص الله -تبارك وتعالى، يجعلون لهم نصيباً مما رزقهم الله ، وهذا المعنى تحتمله الآية، ويشهد له قوله -تبارك وتعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ [سورة الحـج:71].
المعنى الثاني الذي تحتمله الآية: أن يكون ذلك عائداً إلى المعبودين، يعني وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ: يعني لهذه المعبودات التي لا تعلم شيئاً عن عبادتهم، فهي غافلة عنهم، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [سورة الأحقاف:5]، ويكون ذلك من وصف هذه المعبودات، والله قال عنها: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [سورة النحل:21] كما سبق.
وعلى كل حال الآية تحتمل المعنيين، والقرآن يعبَّر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وإذا احتملت الآية معنيين فأكثر ولم يوجد ما يمنع من حملها على هذه المعاني، فيمكن أن تحمل عليها جميعاً، فهؤلاء الكفار يعبدون آلهة مزعومة لا حقيقة لها، ولا يعلمون حقيقتها وإنما هو شيء زينه لهم الشيطان، وهذه المعبودات لا تعلم شيئاً عن عبادتهم، فهي غافلة عن ذلك كله، والله -تبارك وتعالى- أعلم.
يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ”سَاء مَا يَحْكُمُونَ: أي جعلوا لآلهتهم نصيباً مع الله، وفضلوها على جانبه“، إلى آخر ما ذكر، ثم قال: وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ إلى أن قال: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى، البشارة تأتي غالباً معبراً بها عن الإخبار بما يسرُّ، هذا الاستعمال الشائع الذائع، وقد تستعمل قليلاً في الإخبار بما يسوء، كما يقول الله مثلاً: فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الانشقاق:24] أو نحو ذلك، وهكذا أيضاً في كلام العرب:
أبَشّرتني يا سعد أنّ أحبتي | جَفَوني وقالوا: الود موعده القبرُ |
وقول الآخر:
يبشرني الغراب ببيْن أهلي | فقلت له: ثكلتك من بشيرِ |
وأشباه ذلك، فقد تأتي لهذا المعنى قليلاً.
وقوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ قال: ”أي ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن“، كَظِيمٌ قيل: الذي قد امتلأ غيظًا وغمًا وهمًا وحنقًا، وقيل: هو الذي يكبت ما به من تغيظ وغم فلا يظهره.
وبعضهم يقول: هو الذي يُطْبق فاه، مأخوذ من الكاظمة: وهو سد فم البئر، وهذه المعاني متقاربة، فالإنسان الكظيم: هو الذي قد امتلأ حنقًا، ولكنه يكتم ذلك ولا يظهره، أما الذي إذا غضب وتحركت نفسه تكلم وأفضى بذلك، ولربما شتم، فمثل هذا لا يقال: إنه كظيم، ويعقوب -عليه الصلاة والسلام- لما قص الله خبره وصفه بذلك، معنى ذلك أنه يكتم حزنه وغمه وقد امتلأت نفسه بذلك، فهذه العبارات التي يذكرونها لا منافاة بينها، لأنه لا يكون موصوفًا بهذا إلا إذا كان يكتمه، والذي يكتمه يقال عنه: ساكت، والذي يكون ساكتًا يعبر عنه بأنه قد أقفل فمه، ولا يكون هذا لمن كان خالي القلب، ليس فيه شيء من الغم أو الغضب أو نحو هذا.
وهنا في هذه الآيات وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا والمقصود هنا بالسواد: أنه يظهر على وجهه من الكراهة، وينعكس على الوجه؛ فالوجه مرآة للقلب، فإذا أظلم القلب أظلم الوجه، والعرب تعبر عما يحصل للإنسان من الخزي والذل ونحو ذلك بسواد الوجه.
يقال: سوَّد الله وجهه، أو اسودَّ وجهه، أو يقولون: فلان سوَّد وجه قومه، أو نحو هذا، وهذا أمر يشاهد ويظهر على وجه الإنسان، والإنسان يعرف في وجهه المحبة والفرح والكراهة والغضب وما إلى ذلك مما يقع في قلبه.
فسواد الوجه يكون لما يقع في القلب، تارة يكون بسبب البدعة، وتارة يكون بسبب المعاصي التي تسوِّد الوجه إذا كانت كبارًا، أو كانت من الأمور المدنسات للشرف أو نحو هذا، فيظهر السواد على الوجه، حتى إنه يقوى أحيانًا فيراه كل أحد، وتارة يكون هذا بسبب ما يعانيه الإنسان من أمر عارض يحصل له من ذلٍّ أو نحو هذا، تقول: فلان وجهه أسود، فأحيانًا بسبب الغيظ أو الحقد الشديد، وهذا ظاهر كثير يعرفه كل أحد، حتى إنك لا تستطيع أن تنظر في بعض الوجوه لشدة ما فيها من السواد، وقد تكون بشرة الإنسان سوداء ولكن في وجهه من الصفاء والإشراق ما ينشرح الصدر بالنظر إليه ورؤيته، فليس السواد هو سواد البشرة، إنما السواد هو سواد القلب الذي ينعكس على الوجه فيظلم هذا الوجه، -نسأل الله العافية، وهناك بعض الأشياء تكون أسرع إلى سواد الوجه -نسأل الله العافية- مثل الذي يحمل الأحقاد على الناس، وليس له شغل إلا الوقيعة في أعراضهم، والتشفي منهم، ورمي الناس بما ليس فيهم، فترى في وجهه من السواد ما لا تراه في غيره.
وعلى كل حال هذا المعنى الذي ذكره الله -تبارك وتعالى- من استيائهم إذا بشر أحدهم بالأنثى معروف مشهور في كلام العرب، كما قال العقيل بن عُلُّفَة، وكانت عنده بنت يقال لها: الجرباء، خُطبت فقال:
إني وإن سيق إلي المهرُ |
ألفٌ وعبدان وذود عشرُ |
أحب أصهاري إليَّ القبرُ |
وآخر عنده بنت يقال لها: مودة، يقول:
مودة تهوى عمْرَ شيخٍ يَسرُّه | لها الموت قبل الليل لو أنها تدري |
وقال آخر:
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقًا | والموت أكرم نزَّالٍ على الحُرَم |
يدفن بنته، -يئدها، ويقول بعد ذلك:
إذا تذكرت بنتي وهي تندبني | فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدمي |
أحاذر الدهر يومًا أن يلمّ بها | فيهتك الستر عن لحم على وضمِ |
أخشى عليها فظاظة عم أو جفاء أخٍ | وكنت أخشى عليها من أذى الكلم |
فيدفنها، ويغالب نفسه كل ذلك من أجل الخشية على العرض والعار، وكثير من المسلمين اليوم للأسف ضيعوا هذا، وهذا آخر يقال له: عبد الله بن طاهر يقول:
لكل أبي بنت يراعي شئونَها | ثلاثةُ أصهار إذا حُمِد الصهرُ |
فبعل يراعيها وخدر يكنها | وقبر يواريها وخيرهم القبرُ |
يقول: وهذا أفضل الأصهار الثلاثة، وكلامهم في هذا كثير، تجدون في أخبار العرب أشياء من هذا، أحد الأعراب ولدت امرأته بنتًا، وعلى عادة العرب يكرهون البنات، فاعتزل امرأته، ونفر منها، فقالت هذه المرأة المسكينة البائسة، وكنيته أبو حمزة:
ما لأبي حمزة لا يأتينا |
يظل بالبيت الذي يلينا |
غضبان أن لا نلد البنينا |
ليس لنا من أمرنا ما شينا |
وإنما نأخذ ما أعطينا |
يعني: ما شئنا.
والله المستعان.
الْمَثَلُ الْأَعْلَى الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: أي الكمال المطلق من كل وجه. لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ فالنقائص منسوبة إليهم، هم ينسبون إلى الله ما يكرهون من البنات، والنصارى نسبوا له الزوجة والولد، والله -تبارك وتعالى- يقول: لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ، والمثل يأتي بمعنى الصفة، كما قال الله : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ [سورة محمد:15] الآية، يعني صفة الجنة في هذا الموضع، فالمثل يأتي بمعانٍ متعددة، فهنا لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ: يعني الصفة السيئة، والله له المثل الأعلى، له الأوصاف الكاملة، الكمال المطلق من كل وجه، فهو الغني ، غني عن الصاحبة والولد، والولد لا يكون إلا من فقر وحاجة، والله منزَّه عن ذلك.
قال ابن القيم -رحمه الله- تعالى في تفسير قوله تعالى: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض.
"فجعل مَثَلَ السَّوءِ المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال للمشركين وأربابهم، وأخبر أن المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمالات كلها له وحده؛ ولهذا كان المثل الأعلى وهو أفعل تفضيل: أي أعلى من غيره، فكيف يكون أعلى وهو عدم محض ونفي صرف، وأي مثل أدنى من هذا، تعالى الله عن قول المعطلين علوًا كبيرًا.
فمَثَل السّوءِ لعادم صفات الكمال، ولهذا جعله مثل الجاحدين لتوحيده وكلامه وحكمته؛ لأنهم فقدوا الصفات التي من اتصف بها كان كاملًا، وهي الإيمان والعلم والمعرفة واليقين والعبادة لله والتوكل عليه والإنابة إليه، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والصبر والرضا والشكر، وغير ذلك من الصفات التي اتصف بها من آمن بالآخرة، فلما سلبت تلك الصفات عنهم -وهي صفات كمال- صار لهم مثل السوء، فمن سَلب صفات الكمال عن الله وعلوه على خلقه وكلامه وعلمه وقدرته ومشيئته وحياته وسائر ما وصف به نفسه فقد جَعل له مثل السوء، ونزهه عن المثل الأعلى، فإن مثل السوء هو العدم وما يستلزمه، وضده المثل الأعلى وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره.
ولما كان الرب تعالى هو الأعلى، ووجهه الأعلى، وكلامه الأعلى، وسمعه الأعلى، وبصره وسائر صفاته عليا كان له المثل الأعلى، وكان أحق به من كل ما سواه، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان؛ لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحده، ويستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير، وهذا برهان قاطع من إثبات صفات الكمال على استحالة التمثيل والتشبيه، فتأمله؛ فإنه في غاية الظهور والقوة، ونظيرُ هذا القهرُ المطلقُ مع الوحدة فإنهما متلازمان، فلا يكون القهار إلا واحدًا، إذ لو كان معه كفء له فإن لم يقهره لم يكن قهارًا على الإطلاق، وإن قهره لم يكن كفئًا، وكان القهار واحدًا، فتأمل كيف كان قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [سورة الشورى:11]، وقوله: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [سورة الروم:27]، من أعظم الأدلة على ثبوت صفات كماله سبحانه.
فإن قلت قد فهمت هذا وعرفته فما حقيقة المثل الأعلى؟ قلت: قد أشكل هذا على جماعة من المفسرين واستشكلوا قول السلف فيه، فإن ابن عباس -ا- وغيره قالوا: مَثَلُ السَّوْءِ: العذاب والنار، ولله المثل الأعلى: شهادة أن لا إله إلا الله، وقال قتادة: هو الإخلاص والتوحيد.
وقال الواحدي: هذا قول المفسرين في هذه الآية ولا أدري لم قيل للعذاب: مثَل السوء وللإخلاص: المثل الأعلى، قال: وقال قوم: المثل السوء: الصفة السوء من احتياجهم إلى الولد، وكراهتهم للإناث؛ خوفَ العيلة والعار، ولله المثل الأعلى: الصفة العليا من تنزهه وبراءته عن الولد، قال: وهذا قول صحيح فالمثل كثيرًا ما يرد بمعنى الصفة قاله جماعة من المتقدمين.
وقال ابن كيسان: مثل السوء: ما ضرب الله للأصنام وعبدتها من الأمثال، والمثل الأعلى: نحو قوله: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [سورة النور:35].
وقال ابن جرير: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى: نحو قوله: هو الأطيب والأفضل والأحسن والأجمل، وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله غيره.
قلت: المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا، وعلم العالمين بها، ووجودها العلمي والخبر عنها وذكرها، وعبادة الرب سبحانه بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه، فهاهنا أربعة أمور:
الأول: ثبوت الصفات العليا لله سبحانه في نفس الأمر، علمها العباد أو جهلوها، وهذا معنى قول من فسره بالصفة.
الثاني: وجودها في العلم والتصور، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وإجلاله وتعظيمه، وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه، بل يختص به في قلوبهم كما اختص في ذاته، وهذا معنى قول من قال من المفسرين: أهل السماء يعظمونه، ويحبونه، ويعبدونه، وأهل الأرض يعظمونه، ويجلونه وإن أشرك به من أشرك وعصاه من عصاه وجحد صفاته من جحدها، فكل أهل الأرض معظمون له مجلون له خاضعون لعظمته مستكينون لعزته وجبروته، قال تعالى: بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116]. فلست تجد أحدًا من أوليائه وأعدائه إلا والله أكبر في صدره، وأكمل وأعظم من كلٍّ سواه.
الثالث: ذكْرُ صفاته والخبر عنها، وتنزيهها عن النقائص والعيوب والتمثيل.
الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيده والإخلاص له والتوكل عليه والإنابة إليه، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى، فعبارات السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها، وقد ضرب الله سبحانه مثل السوء للأصنام بأنها لا تخلق شيئًا وهي مخلوقة، ولا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا. ا. هـ[1].
على كل حال هذه هي الخلاصة: أن المثل الأعلى بمعنى الصفة الكاملة، والكمال المطلق من كل وجه، وهؤلاء لهم مثل السوء، أي النقائص هم أحق بها، وهم أهلها، والله -تبارك وتعالى- هو الكامل في ذاته وصفاته، وأسمائه وأفعاله من كل وجه.
بعض ما ذكره الحافظ ابن القيم هنا يمكن أن يناقش على كل حال في كلامه على المثل الأعلى، بحيث إن هذا التركيب أو هذا اللفظ لا يمكن أن يشترك فيه اثنان من حيث اللغة، وكذلك في كلامه على القهار، فمثل هذا قد يناقش، لكن في الجملة: مثل هذا الكلام لا تكاد تجد من المفسرين من يشرح المثل الأعلى، أو يشرح التفسير عمومًا بمثل هذه الطريقة الفذة، والله المستعان.
- الصواعق المرسلة:3/1035)