الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[9] من قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ} الآية 61 إلى قوله تعالى: {إِنّ فِي ذَلِكَ لآية لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} الآية 65.
تاريخ النشر: ٢٩ / ذو القعدة / ١٤٢٨
التحميل: 2810
مرات الإستماع: 2247

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ مّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبّةٍ وَلَكِن يُؤَخّرُهُمْ إلَىَ أَجَلٍ مّسَمّىَ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ۝ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنّ لَهُمُ الْحُسْنَىَ لاَ جَرَمَ أَنّ لَهُمُ الْنّارَ وَأَنّهُمْ مّفْرَطُونَ [سورة النحل:61، 62].

يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة: أي لأهلك جميع دواب الأرض تبعاً لإهلاك بني آدم، ولكن الرب يحلم ويستر، وينظر إلى أجل مسمى، أي لا يعاجلهم بالعقوبة، إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحداً.

روى ابن جرير عن أبي سلمة قال: سمع أبو هريرة -ا- رجلاً وهو يقول: ”إن الظالم لا يضر إلا نفسه، قال: فالتفت إليه، فقال: بلى والله، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم“[1].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ مّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبّةٍ، ظاهر هذه الآية العموم فـ”دابة“ نكرة في سياق النفي تفيد العموم، وإذا سبقت بـ”من“ فإن ذلك ينقلها من حيز الظهور في العموم إلى حيز التنصيص الصريح في العموم، فهي نص صريح في العموم، مّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبّةٍ، فهذا عام لكل الدواب، يدل عليه قوله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ [سورة فاطر:45].

ومن أهل العلم من خص ذلك بالكفار، واحتج بالنصوص التي تدل على أنه لا تحمل وازرة وزر أخرى، وأن الله لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره، فقالوا: إن هذا العموم الظاهر في اللفظ مراد به الخصوص، وأنتم تعرفون أن العموم ثلاثة أنواع: العام الباقي على عمومه، والعام المخصوص، يعني الذي ورد ما يخصصه، والنوع الثالث: هو العام لفظاً، لكنه خاص في المعنى، يعني أنه أطلق لفظاً عاماً على معنىً خاص، فبعضهم يقول: إن هذا من قبيل العام المراد به الخصوص، مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ المقصود الكفار؛ لأنهم هم أصحاب الظلم والإجرام العظيم، فالله يهلكهم، وإن اختلفت عبارات هؤلاء العلماء في المعنى المعبر عنه إلا أن ذلك يرجع إلى ما ذكرت، يعني بعضهم يقول: يهلك الآباء فيهلك بسبب هلاكهم النسل، وينقطع، وبعضهم يقول: يهلك الكفار.

والأقرب -والله تعالى أعلم، وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن، وتدل عليه النصوص الأخرى: أن المراد بذلك العموم، والنصوص دلت على أن الظالم إذا لم يؤخذ على يده عم الناسَ العذابُ، وأن هذا الظلم والفساد والإجرام يكون سبباً للعقوبات العامة، ما لم يغير ويؤخذ على يد هؤلاء، ”أنهلك وفينا الصالحون؟ “ قال: نعم إذا كثر الخبث[2].

فيأتي البلاء والعذاب عاماً شاملاً للجميع، وإنما ينجي الله الذين ينهون عن السوء، وإذا نظرت إلى أعمال الخلق حتى أهل الإيمان منهم، فإن الإنسان لا يخلو من إساءة وظلم، ولا يخلو من تقصير في حق الله -تبارك وتعالى، ولو يؤاخذنا الله بذنوبنا لما بقي من الناس أحد، ليس الكلام في الناس فحسب وإنما الكلام في الدواب، قد تموت الجعلان في جحرها، والحبارى في وكرها بسبب ظلم بني آدم، وبغيهم وعتوهم على الله -تبارك وتعالى، وهذا أمر لا ينكر.

والنبي ﷺ يقول: إلا منعوا القطر من السماء[3]، يعني إذا منع الأغنياء زكاة الأموال، منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، فإذا منع الناس القطر من السماء عم ذلك الجميع، الفقير الذي لا تجب عليه الزكاة أصلاً، والغني، والبهيمة، فهذان قولان، والأقرب حمل الآية على العموم، والضمير في قوله -تبارك وتعالى: مّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبّةٍ، يرجع إلى الأرض، والأرض لم يرد لها ذكر قبل ذلك، فرجع الضمير إلى غير مذكور، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه إذا كان يفهم من السياق فإنه يمكن أن يرجع الضمير إليه، وإن لم يكن له ذكر سابق، كقوله -تبارك وتعالى- على أحد المعنيين في تفسير قوله -جل وعلا: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [سورة ص:32]، ففسر ذلك بالخير وفسر بالشمس وهو الأشهر، حَتَّى تَوَارَتْ أي: الشمس، بِالْحِجَابِ، فالشمس لم يرد لها ذكر قبل ذلك، ولكن يفهم من السياق، كقول الشاعر:

أمَاوِيَّ ما يغني الثراءُ عن الفتى إذا حشرجتْ يوماً وضاق بها الصدرُ

إذا حشرجت: يعني النفس والروح، وذلك لم يرد له ذكر في كلام الشاعر قبله، وكقول الآخر:

حتى إذا ألقتْ يداً في كافر وأَجَنّ عوراتِ الثغور ظَلامُها

فرجع الضمير إلى غير مذكور.

وقوله: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ أي: من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيده، وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله.

وقوله: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا وإن كان ثم معاد ففيه أيضاً لهم الحسنى، وإخبار عن قيل من قال منهم، كقوله: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيئُوسٌ كَفُورٌ ۝ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [سورة هود: 9-10].

وكقوله: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [سورة فصلت:50]، وقوله: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً [سورة مريم:77]، وقال إخباراً عن أحد الرجلين أنه: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً ۝ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً [سورة الكهف:35-36]، فجمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني الباطل بأن يجازوا على ذلك حسناً، وهذا مستحيل.

في قوله -تبارك وتعالى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ قراءة غير متواترة: قراءة ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكُذُبُ يعني: الألسنة الكاذبة، وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكُذُبُ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى، هذه الألسنة الكاذبة تزعم أن لهم الحسنى، والمعنى على هذه القراءة لا إشكال فيه.

ولكن القراءة المتواترة وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى يمكن أن يقال في معناها -والله تعالى أعلم: كأنه جعل قولهم هو عين الكذب، فإذا نطقت به ألسنتهم كانت واصفة لهذا الكذب، إذا نطقوا فإن نطقهم هذا يكون وصفاً لكذب، وهذا تعبر به العرب ويعرف في كلامهم، ويكون ذلك كالمبالغة في الوصف، كما يقولون: وجهه يصف الجمال أو الحسن، وعينها تصف السحر، فجعل العين هي الجمال، وجعل الوجه هو الحسن، فإذا قال: يصف وجهه الحسن، فإن ذلك على سبيل المبالغة، تصف عينها السحر، يعني أن عينها هي السحر، لما فيها من الجمال والجاذبية، وفي قراءة ”الكُذُب“ يكون الكُذُب صفة للألسن.

وفيما يتعلق بالحسنى، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله: أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى: ”أن لهم الحسنى في الدنيا، وإن كان ثم معاد ففيه أيضاً لهم الحسنى“، أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى، الحسنى يمكن أن تفسر بهذا، فهي مؤنثة في الصيغة، يعني أن لهم الخلّة الحسنى، أو الصفة الحسنى، أو نحو ذلك، وفي أسماء الله الحسنى يعني أنها بالغة في الحسن غايته، فالحسنى هنا فسرها بعض أهل العلم بالجنة.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- ذكر ما يدل على هذا، كقوله -تبارك وتعالى: وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى [سورة فصلت:50] يعني: الجنة، لكن ابن كثير -رحمه الله- عبر بمثل هذه العبارة باعتبار أنهم لا يؤمنون بالآخرة أصلاً ولا بالجنة ولا بالنار، فهو يقول: أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى يعني: في الدنيا، فإذا افتُرض أن يكون البعث حقاً فإن العاقبة تكون لهم، والجنة هي مآلهم ومصيرهم، وابن جرير -رحمه الله- يقول: يوم القيامة: يعني الجنة، وهذا الذي رجحه الشنقيطي، -والله تعالى أعلم.

ووجْهُ كلام ابن كثير -رحمه الله- حتى قال هذا الكلام: أنهم لا يؤمنون أصلاً بالآخرة، فهم يضيفون إلى أنفسهم الكمالات في الدنيا، وإن كان هناك بعث فتكون الجنة هي مصيرهم، بل قال ابن كثير -رحمه الله: ”إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا وإن كان ثم معاد ففيه أيضاً لهم الحسنى“، ثم ذكر قول ابن جرير ورجحه، وكلامه الأول أعم من هذا، لأن المفسر أحياناً يكتب على فترات، ويغير بين حين وآخر، وابن جرير تجد له في تفسير الآية الواحدة كلاماً طويلاً، ثم يذكر أقوال السلف، ويفهم من أول كلامه معنىً، وفي آخره إذا جاء يرجح -أحياناً- يقول: قال أبو جعفر، ويذكر كلاماً يُفهم منه معنى آخر.

ولهذا قال تعالى راداً عليهم في تمنيهم ذلك: لاَ جَرَمَ أي: حقاً لابد منه، أَنَّ لَهُمُ النَّارَ أي: يوم القيامة وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ، قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم: منسيون فيها مضيعون، وهذا كقوله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [سورة الأعراف:51]، وعن قتادة أيضا: مُّفْرَطُونَ أي: معجلون إلى النار من الفرط، وهو السابق إلى الورد، ولا منافاة؛ لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار، وينسون فيها أي يخلدون.

قوله -تبارك وتعالى- هنا: لاَ جَرَمَ أي: حقاً، أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ، ومفرطون ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- لها معنيين، قال مجاهد ومن معه: ”منسيون فيها مضيعون“، من قولهم: أفرطت فلاناً خلفي أي تركته، إذا خلفته ونسيته تقول: أفرطته، فهذا معنى أنهم متروكون، منسيون، مخلّفون في النار، كما قال الله : فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا.

وهذا المعنى هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، يقول ابن كثير: ”عن قتادة: مُّفْرَطُونَ أي: معجلون إلى النار من الفرط“، من قولهم: أفرطته في طلب الماء مثلاً، فهذا الفارط هو الذي يسبق الناس ليستقي لهم، ولهذا يقال في الصغير الذي يموت: إنه فرط، كأنه سبق أبويه إلى الآخرة أو الجنة، فالذي يتقدم الناس إلى الماء مثلاً يقال له ذلك، وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ على هذا المعنى يكون مفرطون: أي مقدمون إلى النار، معجلون إليها كما نقل عن قتادة، وفي قراءة أخرى في رواية ورش مُفرِطون أي: أنهم مسرفون في الذنوب، وهي سبب العذاب، وهناك قراءة أخرى، لكنها ليست متواترة، وَأَنَّهُم مُفَرِّطُونَ أي: مضيعون لأمر الله -، فهذه قراءات ثلاث في هذه الآية.

وبالنسبة للقراءات المتواترة إذا تعددت وكان لكل قراءة معنى فإنها تنزل منزلة الآيات المتعددة، ففي قوله: مُّفْرَطُونَ يحتمل معنى أنهم معجلون إلى النار، ويحتمل معنى أنهم متروكون منسيون في النار، وهذا كله تدل عليه هذه اللفظة في كلام العرب، والآية إذا كانت تدل على معنيين فأكثر ولم يوجد مانع من حملها عليها، فإنها تحمل على هذه المعاني جميعاً، ولا منافاة بين هذين المعنيين، فهم معجل بهم إلى النار، ويُتركون وينسون فيها لا يخرجون منها، فكل هذا تدل عليه هذه اللفظة، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والقراءة الأخرى وَأَنَّهُم مُفرِطون أي: في الذنوب والمعاصي، مسرفون فيها، فيكون هذا من قبيل ذكر السبب الذي أوجب لهم النار، والله أعلم.

تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىَ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ۝ وَاللّهُ أَنْزَلَ مِنَ الْسّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنّ فِي ذَلِكَ لآية لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [سورة النحل:63-65].

يذكر تعالى أنه أرسل إلى الأمم الخالية رسلاً، فكذبت الرسل، فلك يا محمد في إخوانك من المرسلين أسوة فلا يهيدنّك تكذيب قومك لك، وأما المشركون الذين كذبوا الرسل فإنما حملهم على ذلك تزيين الشيطان لهم ما فعلوه، فَهُوَ وَلِيّهُمُ الْيَوْمَ أي: هم تحت العقوبة والنكال، والشيطان وليهم ولا يملك لهم خلاصاً ولا صريخ لهم، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

وهذا المعنى الذي ذكره الحافظ -رحمه الله- أن قوله: فَهُوَ وَلِيّهُمُ الْيَوْمَ ”أي: في الآخرة يوم القيامة“، هو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، والآية تحتمل غير هذا، ويمكن أن يكون المراد بذلك الدنيا عامة، ويمكن أن يراد به وقت التزيين في الدنيا، ويمكن أن يكون المراد به بعضًا من الدنيا، أي حينما نزلت هذه الآية فَهُوَ وَلِيّهُمُ الْيَوْمَ، وحمْل الآية على أن المراد بذلك الآخرة لعله هو الأقرب -والله أعلم.

والولي: هو الناصر، ومعلوم أن هؤلاء لا ناصر لهم، والله يقول: وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ [سورة الأنبياء:39]، فإذا كان الشيطان هو وليهم فمعنى ذلك أنه لا ولي لهم، فالشيطان لا يستطيع أن ينصرهم ولا أن يمنعهم، بل يقول: إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [سورة إبراهيم:22]: يعني بمنقذكم، فالشيطان يتبرأ منهم، ولا يستطيع أن ينصرهم، وكما قال الله فيما وقع في يوم بدر: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ [سورة الأنفال:48]، فهو لا ينصرهم ولا يخلصهم.

ثم قال تعالى لرسوله: إنه إنما أنزل عليه الكتاب ليبيّن للناس الذي يختلفون فيه، فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه، وَهُدًى أي: للقلوب، وَرَحْمَةً أي: لمن تمسك به لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وكما جعل سبحانه القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها، كذلك يحيي الأرض بعد موتها بما أنزله عليها من السماء من ماء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي: يفهمون الكلام ومعناه.
  1. رواه ابن جرير في تفسيره (17/231)، والبيهقي في الشعب (6/54)، برقم (7479).
  2. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، برقم (3168)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج، برقم (2880)، من حديث زينب بنت جحش -ا- زوج النبي ﷺ.
  3. رواه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات، برقم (4019)، والطبراني في المعجم الكبير(12/446)، برقم (13619)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (106)، من حديث عبدالله بن عمر -ا.

مواد ذات صلة