بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سورة النحل:66، 67].
يقول تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ أيها الناس فِي الأنْعَامِ: وهي الإبل والبقر والغنم، لَعِبْرَةً: أي: لآية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه، نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ أفردها ههنا عوداً على معنى النعم، أو الضمير عائد على الحيوان، فإن الأنعام حيوانات، أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان، وفي الآية الأخرى مِّمَّا فِي بُطُونِهَا [سورة المؤمنون:21]، ويجوز هذا وهذا، كما في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ [سورة عبس:12] وفي قوله تعالى: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ [سورة النمل:36]: أي المال.
وقوله: مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا: أي يتخلص اللبن بياضه وطعمه وحلاوته من بين فرث ودم في باطن الحيوان، فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته، فيصرف منه دم إلى العروق، ولبن إلى الضرع، وبول إلى المثانة، وروث إلى المخرج، وكل منها لا يشوب الآخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به.
وقوله: لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ: أي لا يغص به أحد، ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شراباً للناس سائغاً ثنّى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب، وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه؛ ولهذا امتن به عليهم فقال: وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا دل على إباحته شرعا قبل تحريمه، ودل على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب، وكذا حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل، كما جاءت السنة بتفصيل ذلك.
كما قال ابن عباس -ا- في قوله: سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا السَّكَر: ما حرم من ثمرتيهما، والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما، وفي رواية: السكر حرامه، والرزق الحسن حلاله، يعني ما يبس منهما من تمر وزبيب، وما عمل منهما من طلاء -وهو الدبس- وخل ونبيذ حلال يشرب قبل أن يشتد كما وردت السنة بذلك، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ناسب ذكر العقل ههنا فإنه أشرف ما في الإنسان؛ ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها، قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [سورة يس:34-36].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً المقصود بالأنعام هي الأزواج الثمانية التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- في سورة الأنعام، وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [سورة الزمر:6]، وقوله: لَعِبْرَةً قال: أي: لآية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته، وهذا تفسير بالمعنى.
وأصل العبرة، قيل: مأخوذة من العبور وهو التجاوز، كما يقال: عَبرة، استعبَر؛ وذلك لانتقالها من العين إلى الخد، ويقال: مَعْبر؛ لأنه يعبر به من ناحية إلى ناحية، ويقال: هذا عِبرة فاعتبروا، والاعتبار هو النظر في أمرٍ ثم الرجوع، أو الانتقال منه إلى غيره، فتقول: لك في فلان عِبرة بمعنى أنك تنظر فيما جرى له، ثم تنتقل من ذلك إلى نفسك أنت وتعتبر بهذا وتنتفع، وقيل: العاقل من وُعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه، فابن كثير -رحمه الله- فسرها بالمعنى.
وقوله هنا: نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ذكر أنه هنا أفردها عوداً على معنى النعم، فلم يقل: نسقيكم مما في بطونها، وإنما قال: مِّمَّا فِي بُطُونِهِ وأعاده مذكراً بُطُونِهِ؛ واللبن يخرج من إناثها، ومع ذلك لم يؤنث هنا الضمير، وإنما ذكَّره، لماذا؟ قال: عوداً على الحيوان، فلفظ الحيوان مذكر وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ، والأنعام حيوانات نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ: أي هذا الحيوان، وفي الآية الأخرى مِّمَّا فِي بُطُونِهِا فأنثه، قال: ويجوز هذا وهذا كقوله: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ إِنَّهَا فأنثها، والتذكرة مؤنثة في اللفظ.
ويمكن أن يقال في الكلام: إنه تذكرة، بالتذكير، ويمكن توجيهه باعتبار أنه مؤنث غير حقيقي، والمؤنث غير الحقيقي يمكن أن يعود الضمير إليه مذكراً أو مؤنثاً، أنت مخيَّر، وهكذا في قوله: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ، والهدية مؤنثة، ثم قال: فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ ما قال: جاءت سليمان، يعني الهدية، قال: جَاء سُلَيْمَانَ، فهنا يمكن أن يقال: باعتبار أن الهدية مؤنث غير حقيقي، أو يقال: باعتبار فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ: أي جاء الوفد، أو جاء المال؛ لأن هذه الهدية مال، بهذا الاعتبار، وهذا له نظائر كثيرة في كلام الله -، وفي كلام العرب، ومنه قول الشاعر:
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَقْ | كأنه في الجلدِ تَوليعُ البَهَقْ |
قال: فيها خطوط، ثم قال: كأنه، ما قال: كأنها.
وفي قوله: لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ قال: أي لا يغص به أحد؛ ولهذا ابن جرير قال: قيل بأنه لم يغص باللبن أحد سَآئِغًا: الذي لا يغص به الإنسان، يشربه دون عناء، وهنا في قوله -تبارك وتعالى: وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا، تَتَّخِذُونَ مِنْهُ مثل ما سبق، ما قال: تتخذون منها، وثمرات جمع ثمرة، مؤنثة، تَتَّخِذُونَ مِنْهُ يقال فيه كما قيل في السابق.
يقول الحافظ -رحمه الله: وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه؛ ولهذا امتن به عليهم فقال: وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ دل على إباحته شرعاً قبل تحريمه، فالذي عليه ابن كثير -رحمه الله- أن السَّكَر هو المسكر، يعني: ما يسكر مما يتخذ من هذه الثمرات، وهو الخمر، وعلى هذا تكون الآيات النازلة في الخمر -بهذا الاعتبار: الآية الأولى: هذه الآية في ”سورة النحل“، على سبيل الامتنان، والآية الثانية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [سورة البقرة:219]، فذكر هذا وهذا، والآية الثالثة: لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى [سورة النساء:43]، والآية الرابعة: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90]، فهذه أربع آيات، هكذا قال من فسر السَّكَر هنا بالمسكر.
والقول الآخر المعروف في المسألة هو أن هذه الآية لا تعلق لها بالخمر، وأن الله لا يمتن به على عباده وإنما كانت إباحته أصلية، والفرق بين الإباحة الأصلية والإباحة الشرعية أن الإباحة الأصلية: هي الإبقاء على الحال التي كانوا عليها قبل ورود الشرع، فلا يتعرض لها الشرع أصلاً، ولم يرد فيها دليل يدل على التحريم، ولا على الإباحة بعينها، ولا الاستحباب ولا الوجوب، ويقال لها: البراءة الأصلية، والإباحة الأصلية، وأما الإباحة الشرعية: فهو أن يرد عن الشارع ما يدل على إباحتها بخصوصها، فبهذا الاعتبار إذا امتن بها تكون إباحة لها، فتكون إباحة الخمر قبل التحريم إباحة شرعية.
والذين قالوا: إن هذه الآية ليس لها علاقة بموضوع الخمر قالوا: إن إباحتها كانت أصلية، فإذا جاء ما يرفع الإباحة الأصلية لا يقال له: نسخ، ولهذا يقولون: هذه الآية غير منسوخة أصلاً؛ لأن الشارع لم يتعرض فيها للخمر، إنما هي في العصير فقط، ولذلك بعضهم قال: إن السَّكَر هو الخل، بلغة الحبشة، والخل غير مسكر، وهؤلاء يقولون: الرزق الحسن هو ما يؤكل من الشجرتين.
وبعض أهل العلم يقول: السَّكَر هو العصير الحلو الذي يتخذ منها، هذا العصير قيل له: سَكَر، قالوا: لأنه يشتد ويتحول إذا ترك مدة فيكون مسكراً فسمي سَكَراً بهذا الاعتبار، لما يئول إليه لو ترك، وعلى كل حال ابن جرير -رحمه الله- يفسر السَّكَر والرزق الحسن بمعنىً واحد، لا يفرق بينهما، يقول: العبارة مختلفة، ولكن المعنى متحد، فهو يرى أن السَّكَر ما يحل من الطعام والشراب من الشجرتين، هذا كله عند ابن جرير -رحمه الله- يُعد من السَّكَر، ما يحل أن يؤكل وأن يشرب من ثمرات النخيل والأعناب، وهو الرزق الحسن عنده.
ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: دل على إباحته شرعاً، هذه الإباحة التي ذكرت لكم الإباحة الشرعية، وعبارته دقيقة، وينبني على هذا أثر وحكم، وهو أن رفعها يقال له: نسخ، فعندهم هذه الآية منسوخة، لأنهم فسروه بالمسكر، بخلاف الآخرين، قال: ودل على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب، هذا بنص الآية، قال: وكذا حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل، هذا لم يؤخذ من الآية، قال: كما جاءت السنة بتفصيل ذلك، قول النبي ﷺ: ما أسكر كثيره فقليله حرام[1]، ما أسكر، وهذا للعموم، فكل نوع من أنواع الأشربة أو الأشياء التي تؤكل، أو عن طريق شم أو وخز بالإبر، أو غير ذلك مما يؤثر على العقل بالإسكار فإنه محرم، ولا يختص ذلك بما يتخذ من الثمرتين.
وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا، ابن جرير -رحمه الله- يقول: التقدير وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ ما تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا، فيوجد مقدر محذوف، يعني ”ما“ تتخذون منه، حُذف اختصاراً، والكلام يفهم مع حذفه، وبعضهم يقول: إنه معطوف على الأنعام، والتقدير: وإن لكم من ثمرات النخيل والأعناب لعبرة، الله يقول: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ثم قال: وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا، فالواو هذه عاطفة على ماذا؟
بعضهم يقول: على قوله: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ: يعني ومن ثمرات النخيل تتخذون سكراً، فالعبرة حاصلة بهذا وهذا، بالأنعام وما يخرج من بطونها، والثمرات وما يستخرج منها ويعصر من العصير، كل ذلك فيه عبرة، ولكن المعنى الأول الذي ذكره ابن جرير أقرب من هذا، ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله: مِّمَّا فِي بُطُونِهِ، يقول: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ، وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ: يعني نسقيكم من ثمرات النخيل سَكَراً، سواء قلنا: إنه العصير أو المسكر، وعلى كلٍّ، منهم من يقول: إن قوله: وَمِن ثَمَرَاتِ متعلق بقوله: تَتَّخِذُونَ، وهذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا فهو متعلق به، وهذا القول قول له وجه من النظر ظاهر، أما ارتباطه بالعبرة -وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً: يعني وفيما تتخذون- ففيه بعد، والله وأعلم.
في قوله: السَّكَر ما حرِّم من ثمرتيهما، نقل هذا عن ابن عباس، والرزق الحسن: ما أحل من ثمرتيهما، هذا هو المشهور، وفي رواية: ”السَّكَر حرامه، والرزق الحسن حلاله“. طيب كيف يمتن به؟ يكون ذلك قبل التحريم، وعلى كلٍّ هذا قول الجمهور، أن السَّكَر هو المسكر، وأن الآية كانت قبل التحريم، وعلى هذا تكون منسوخة، والرزق الحسن حلاله.
يقول: وما عمل منهما من طلاء وهو الدبس، المقصود بالدبس: ما يسيل من التمر يسمونه عسل التمر.
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل:68، 69].
المراد بالوحي هاهنا الإلهام والهداية والإرشاد للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتاً تأوي إليها، ومن الشجر ومما يعرشون، ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديسها ورصها بحيث لا يكون في بيتها خلل، ثم أذن لها تعالى إذناً قدرياً تسخيرياً أن تأكل من كل الثمرات، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى مذللة لها، أي: مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم، والبراري الشاسعة، والأودية والجبال الشاهقة، ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة، بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل، فتبني الشمع من أجنحتها وتقيء العسل من فِيها، وتبيض الفراخ من دبرها، ثم تصبح إلى مراعيها.
وقال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً: أي مطيعة، فجعلاه حالاً من السالكة، قال ابن زيد: وهو كقول الله تعالى: وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [سورة يس:72] قال: ألا ترى أنهم ينقلون النحل ببيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم، والقول الأول هو الأظهر، وهو أنه حال من الطريق، أي فاسلكيها مذللة لك، نص عليه مجاهد، وقال ابن جرير: كلا القولين صحيح.
في قوله: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي الإيحاء هنا قال: بمعنى الإلهام، وهذا صحيح، ليس معنى ذلك أن نزل عليها وحي بالمعنى المعروف كإرسال الملك أو نحوه، وإنما الإلهام والوحي كما قال الله : وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى [سورة القصص:7]، وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي [سورة المائدة:111]، فيكون أحياناً لبعض بني آدم غير الأنبياء، وقد يكون أيضاً من قبيل الإلهام وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ، وقد يكون ما يسمى بالوحي التسخيري لبعض الجمادات، وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا [سورة فصلت:12] على هذا التفسير، إلى غير هذا من الأنواع.
على كل حال وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، بعض العلماء يقول: الترتيب هنا جاء بحسب الأفضل والأكمل ثم الأدنى، من الأعلى إلى الأدنى؛ بأن العسل الذي يكون في الجبال أفضل من العسل الذي يكون في الشجر، وهكذا، ثم بعد ذلك وَمِمَّا يَعْرِشُونَ مما يضعه الناس من الصناديق أو الأشياء المعروشة التي تكون للنحل.
وقوله: ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً، قوله: ذُلُلاً هذه حال إما من السبل، أي: اسلكي سبل ربك مذللة، تسلك السبل مذللة، وهذا هو الأقرب وهو المتبادر، ويحتمل أن يكون حالاً من النحل، فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً: أي مذللة طائعة لله -تبارك وتعالى، لا تخرج عن أمره وتسخيره، فألهمها ذلك، هذا معنى وهذا معنى، والآية تحتمل المعنيين، وابن جرير -رحمه الله- حملها على الأمرين، بناء على القاعدة التي ذكرتها في مناسبات شتى وهي: ”أن اللفظ إذا احتمل معنيين فأكثر ولم يوجد مانع من حمله عليها فإنه يحمل على الجميع“، فهنا فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً: أي هذه السبل مذللة لك، وهي أيضاً في الحال هذه: النحل طائعة مستجيبة لله -تبارك وتعالى، سخرها هذا التسخير، ولا إشكال في هذا إن شاء الله.
هذه السبل مذللة لها بمعنى أنها تسلكها من غير مشقة ولا عناء ولا تعب، وإنما تسير فيها كما تشاء، والذين يعرفون النحل وكتبوا فيه ذكروا أشياء عجيبة من طرق اهتداء ومعرفة النحل الأماكن التي تأوي إليها، الخلية نفس الخلية، كل نحلة تذهب إلى خليتها، ما تذهب إلى خلية أخرى، ولو ذهبت إلى خلية أخرى فإن الحرس الذين يكونون على الخلية يقتلونها، فلا بد أن ترجع إلى نفس خليتها، ولو كانت خلايا كثيرة جداً متجاورة، كل نحلة ترجع إلى نفس خليتها، ولا تضيع، وتكلموا كيف تعرف هذه النحل المكان الذي تأوي إليه، وكيف تسير بزوايا معينة؟ وإذا رأت مكاناً يصلح للمرعى كيف تأتي وتخبر النحل في الخلية ليصلنَ إليه، وأين تجمع ما تأخذه في داخلها، ففي داخلها وعاءان، وعاء لغذائها الخاص بها، هي التي تأكله، وتعيش عليه وتقتات منه، ووعاء آخر مثل الخزان للعسل، هذا لا تعيش عليه، فتذهب به وتفرغه، وبعض النحل لا يحمل العسل، وإنما يحمل الماء، يذهب إلى الأماكن التي فيها ماء ويأتي به إلى الخلية، للأغراض التي يحتاج فيها إلى الماء، فهي تنقل ماء فقط، فلو عصرتها على ورقة أو نحو هذا ما يخرج إلا ماء، فهي صهريج يذهب ويحمل ويأتي فقط، والبقية يحملن العسل، وهناك ما دوره الحراسة، والملكة كما تعرفون هي التي تضع البيض.
والشاهد هو حال النحل في تسخير الله لها، وكيف تبني هذه الخلايا بهذه الطرق السداسية، وذلك آية من آيات الله ، ولعله يأتي كلام على هذا -إن شاء الله تعالى- في الكلام على الأسماء الحسنى، وفي الكلام على اسم الله ”الخالق“، ومن أراد أن يتوسع في هذا يمكن أن يرجع إلى بعض المؤلفات، مثل كتاب [غريزة أم تقدير إلهي؟]، هذا كتاب مفيد، ويوجد أيضًا شريط كامل عن النحل وعن كل ما يتعلق بها، في شريط سي دي أو فيديو، كل ما يتعلق بالنحل من معلومات.
وهكذا المعنى الآخر فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا: أي أنك ذليلة مطيعة مستجيبة.
- رواه أبو داود: باب النهي عن المسكر: برقم:3681) من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: ما أسكر كثيره فقليله حرام وقال الألباني: حسن صحيح.