الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
[11] من قوله تعالى: {وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمّ يَتَوَفّاكُمْ} الآية 70 إلى قوله تعالى: {وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} الآية 72.
تاريخ النشر: ٣٠ / ذو القعدة / ١٤٢٨
التحميل: 2863
مرات الإستماع: 2321

بسم الله الزظرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله- في تتمة تفسير قوله تعالى:

ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ [سورة النحل:69] الآيات.

وقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ما بين أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها، وقوله: فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ أي: في العسل شفاء للناس، أي من أدواء تعرض لهم، قال بعض من تكلم على الطب النبوي: لو قال فيه الشفاء للناس، لكان دواء لكل داء، ولكن قال: فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ، أي يصلح لكل أحد من أدواء باردة، فإنه حار، والشيء يداوى بضده.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية قتادة عن أبي المتوكل علي بن داود الناجي عن أبي سعيد الخدري -: أن رجلاً جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال: اسقه عسلاً، فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال: يارسول الله سقيته عسلاً، فما زاده إلا استطلاقا، قال: اسقه عسلاً، فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال: يارسول الله، ما زاده إلا استطلاقا، فقال رسول الله ﷺ: اذهب فاسقه عسلاً، فذهب فسقاه عسلاً ثم جاء فقال: يا رسول الله ما زاده إلا استطلاقاً، فقال رسول الله ﷺ: صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلاً[1] فذهب فسقاه عسلاً فبرئ.

وفي الصحيحين عن عائشة -ا: أن رسول الله ﷺ كان يعجبه الحلواء والعسل[2]، هذا لفظ البخاري، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: الشفاء في ثلاثة: في شرطة مِحجم، أو شربة عسل، أو كيةٍ بنار، وأنهى أمتي عن الكي[3].

وقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي: إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامة والاجتناء من سائر الثمار، ثم جمعها للشمع والعسل، وهو من أطيب الأشياء، لآية لقوم يتفكرون في عظمة خالقها، ومقدرها، ومسخرها، وميسرها، فيستدلون بذلك على أنه الفاعل، القادر، الحكيم، العليم، الكريم، الرحيم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الحافظ -رحمه الله- في قوله: فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ: "قال بعض من تكلم على الطب النبوي: لو قال فيه الشفاء للناس لكان دواء لكل داء، ولكن قال: فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ أي: يصلح لكل أحد من أدواء باردة، فإنه حار والشيء يداوى بضده"، ووجه هذا القول أن "شفاء" نكرة في سياق الإثبات، والنكرة في سياق الإثبات لا تفيد العموم؛ ولذلك يوجد فرق بين هذا الموضع وبين قول النبي ﷺ: الشفاء في ثلاث[4]، وقوله: قال: الشفاء في ثلاثة[5] فدخول "ال" هنا إذا كانت "ال" هذه معرّفة فإن ذلك يكون للعموم، الشفاء كل الشفاء، وأما هنا فـفِيهِ شِفَاءٌ، ومن أهل العلم من يقول: إذا استعمل العسل منفرداً كان شفاءً لبعض الأدواء، وإذا خلط مع غيره من المركبات والمعاجين فهو شفاء لكل الأدواء بالتركيب، -والله تعالى أعلم.

ثم إن الله قال: فِيهِ شِفَاءٌ ولم يقل: دواء؛ لأن الدواء قد ينفع وقد يضر، وقد لا ينفع ولا يضر، فذكر النتيجة، فقال: فِيهِ شِفَاءٌ وهذا أبلغ ما يكون، وقوله -تبارك وتعالى: فِيهِ شِفَاءٌ قال بعض أهل العلم من السلف وبعض من جاء بعدهم: إن المقصود به القرآن، هذا القرآن الذي قصصنا عليكم فيه القصص، وذكرنا فيه العبر فيه شفاء للناس، وهذا بعيد.

والكلام فيما يخرج من بطون هذه المخلوقات العجيبة الصغيرة، ثم قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل:69]، آية فيما ألهمها الله -تبارك وتعالى- وصرفها هذا التصريف، ودبرها هذا التدبير العجيب، وما يخرج من بطونها ويتحول إلى هذا الشفاء، ففيها عبرة بالغة من كل وجه.

هذه النحلة حينما تنطلق وتبحث عن الأزهار أو المرعى ثم تأتي وتقوم بتصرفات عجيبة؛ من أجل أن يعرف بقية النحل هذا المرعى، فيجتمع حولها النحل، ثم بعد ذلك تبدأ تدور وتصدر صوتاً، وهذا الدوران بقدر بُعْد المكان، ثم يبدأ يدور حولها كل هؤلاء النحل من العاملات، يدرْنَ حولها مرة، ثم بعد ذلك يدرْن مرة ثانية، ثم يدرْن مرة ثالثة تأكيداً للمكان، أين هو بالضبط، ثم تنطلق مع هذه النحل إلى هذا المكان، وقد يكون بعيداً، وترجع كل واحدة محملة.

وأما حبوب اللقاح فتضعها في بعض أطرافها، وهذه الجيوب لا توجد إلا في هذه الشغالة التي تمتص رحيق الأزهار، فتأتي محملة بهذا الرحيق، وتأتي محملة بحبوب اللقاح، وأصحاب النحل يعرفون أحياناً المرعى الذي ذهبت إليه، يعرفونه مما يتساقط أحياناً عند الخلية من هذه الحبوب، فيعرف من أين أخذت، ونوع الغذاء الذي تغذت عليه، فإذا ضاعت وذهبت إلى مكان آخر استقبلها الحرس الذي على باب الخلية ودفعوها، فإن أصرت قتلوها ولكنها لا تدخل خليتهم، وإنما ترجع إلى خليتها، وأخبارها في هذا عجيبة، فهي آية من آيات الله، وطريقة تركيب هذه الخلية والشمع، وكيف تصنعه؟! أمر عجيب.

وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمّ يَتَوَفّاكُمْ وَمِنكُم مّن يُرَدّ إِلَىَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [سورة النحل:70].

يخبر تعالى عن تصرفه في عباده، وأنه هو الذي أنشأهم من العدم ثم بعد ذلك يتوفاهم، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم -وهو الضعف في الخلقة، كما قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [سورة الروم:54].

وقوله: لِكَيْلا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً أي: بعدما كان عالماً أصبح لا يدري شيئاً من الفَنَد والخرف؛ ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الآية عن أنس بن مالك -: أن رسول الله ﷺ كان يدعو: أعوذ بك من البخل والكسل والهرم، وأرذل العمر وعذاب القبر، وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات[6]. وقال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة:

سئِمتُ تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين عاماً لا أبا لك يسأم
رأيتُ المنايا خبطَ عشواء مَن تُصب تمتْه ومن تُخطئ يُعمَّر فيهرم

قوله -تبارك وتعالى: وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [سورة الحـج:5]، أرذل الشيء هو أردؤه وأحطه، وأرذل العمر يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم، وهو الضعف في الخلقة"، الله قد بيّن هذا، فقال: لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا، فهذا هو الذي يفسر به أرذل العمر، خلافاً لمن حد ذلك بسنة معينة فقال: إذا بلغ الخامسة والسبعين فهذا هو أرذل العمر.

وبعضهم يقول: إذا بلغ التسعين، والصحيح أن مثل هذا لا يُحدّ؛ لأن الناس يتفاوتون، فمنهم من يبلغ الخامسة والسبعين وهو أحسن حالاً من ابن الخمسين، ومنهم من يبلغ التسعين وهو أحسن حالاً من ابن الستين، ويكون ممتعاً بسمعه وبصره وقواه، ولم يتغير، لكن أرذل العمر هو أن يتحول الإنسان إلى ما وصف الله : لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا

والأطباء يقولون: إن خلايا المخ عند الإنسان إذا تقدم به السن يموت بعضها، فإذا مات بعضها أصبح الإنسان يخلط، يدخل عليه ولده فيقول: من هذا، وتجلس عنده زوجته فيقول: هذه من؟ ويخرج من بيته ما يعرف يرجع، يحجرون عليه في البيت، يقفلون الأبواب مثل الطفل الصغير تماماً، يقفلون الباب على هذا الكبير الذي ربما كان صاحب رأي وحزم وقوة، يعامل كما يعامل الطفل الصغير، لا يخرج، انتبهوا له، لا أحد يترك الباب مفتوحاً، ولا يعرف عبادة ولا يعرف صياماً، ولا يعرف شيئاً، إذا قيل: تصوم؟ قال: نعم أنا صائم، وبعدها بلحظات يطلب الطعام، ويصلي ويتلفت، كالطفل الصغير، فهذا هو أرذل العمر.

لكن الطفل الصغير ينتظر فيه الكمال، فليس هو بأرذل العمر، المرحلة التي يمر بها الصغير انتقال من نقص إلى كمال، هذا المنتظر فيه، وأما هذا فلا يرجى فيه بعد ذلك إلا المزيد من الضعف ثم الموت، ويحتاج إلى غيره في أخص شئونه، يضعف تماماً عن القيام بنفسه فضلاً عن أن يقوم بغيره فهذا أرذل العمر، وهو أصعب الأشياء على نفس الإنسان، ولذلك إن كان معه شيء من الإدراك والعقل فإن ذلك ربما يمرضه مرضاً فوق مرضه، واعتلالاً فوق علته أن يكون كَلاً على غيره، عبئاً عليهم، نسأل الله العافية.

والعلماء ذكروا أن صاحب القرآن، وأهل القرآن لا يصلون إلى هذه المرحلة، لا يحصل لهم هذا الخرف، وذكر جماعة من أهل العلم، أن العلماء لا يردون إلى أرذل العمر، وبعضهم يربط بين هذه الآية وبين قول الله -تبارك وتعالى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [سورة التين:5]، ثم استثنى فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة التين:6]، ففسروا قوله: أَسْفَلَ سَافِلِينَ بأرذل العمر، وقالوا: يستثنى منه الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

لكن الذي يظهر -والله أعلم- أن الآية هذه تتحدث عن أمر آخر، وليس أرذل العمر أو المراحل العمرية الطبيعية التي يمر بها الإنسان، فإن مراحل عمر الإنسان كما يقسمها بعضهم: مرحلة النشوء، ثم مرحلة الوقوف، التي هي مرحلة الشباب، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة الضعف المحدود، بداية الضعف يعني: مرحلة الكهولة، ثم بعد ذلك يأتي الضعف الظاهر، وهي مرحلة الشيخوخة، يقولون: يمر بمرحلة الطفولة بتقسيماتها، من صبىً وغيره، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة الشباب، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة الكهولة، وبعضهم يحد الكهولة بالثلاثين، فإذا بلغ الثلاثين كان كهلاً، يأخذون هذا من قوله تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً [سورة آل عمران:46] قالوا: إن عيسى -عليه الصلاة والسلام- رفع وهو في الثالثة والثلاثين أو قريباً من هذا، والله المستعان.

في قول زهير: رأيتُ المنايا خبطَ عشواء، هذا الكلام غير صحيح، وكل شيء بقدر الله -تبارك وتعالى.

وَاللّهُ فَضّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىَ بَعْضٍ فِي الْرّزْقِ فَمَا الّذِينَ فُضّلُواْ بِرَآدّي رِزْقِهِمْ عَلَىَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ [سورة النحل:71].

يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من الشركاء، وهم يعترفون أنها عبيد له كما كانوا يقولون في تلبيتهم في حجهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فقال تعالى منكراً عليهم: أنتم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم، فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم؟ كما قال في الآية الأخرى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [سورة الروم:28] الآية.

قال العوفي عن ابن عباس -ا- في هذه الآية: يقول لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني؟ فذلك قوله: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وقال في الرواية الأخرى عنه: فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟

وقوله: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي: أنهم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فجحدوا نعمته، وأشركوا معه غيره، وعن الحسن البصري قال: كتب عمر بن الخطاب هذه الرسالة إلى أبي موسى الأشعري -: "واقنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فضَّل بعض عباده على بعض في الرزق بلاءً يبتلي به كُلاً، فيبتلي من بسط له كيف شكْره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله؟" رواه ابن أبي حاتم.

هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هو الظاهر المتبادر من قوله: فَمَا الّذِينَ فُضّلُواْ بِرَآدّي رِزْقِهِمْ عَلَىَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ، أي أنتم لا تفعلون، وتأنفون من هذا، فتستنكفون أن تردوا ما أعطاكم الله من الإفضال والإنعام والرزق إلى عبيدكم ومماليككم، فهم لا يملكون شيئاً معكم، وما بأيديهم فهو ملك لكم، ثم أنتم تشركون مع الله غيره، وتضيفون إليهم ما ليس لهم وهم عبيد مربوبون لله -تبارك وتعالى، وأما قول من قال: إن المقصود بذلك هو الإنكار عليهم أو أن هذا مضمن للأمر والحث على أن يواسوا هؤلاء المماليك فيلبسوهم مما يلبسون، ويطعموهم مما يطعمون، فهذا بعيد، ليس هذا الذي يدل عليه ظاهر القرآن، والله تعالى أعلم.

وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ الطّيّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [سورة النحل:72].

يذكر تعالى نعمه على عبيده بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجاً من جنسهم وشكلهم، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكوراً وإناثاً، وجعل الإناث أزواجاً للذكور، ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة وهم أولاد البنين، قاله ابن عباس -ا- وعكرمة والحسن والضحاك وابن زيد، قال شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: بنين وحفدة: وهم الولد وولد الولد، وقيل: الخدم والأعوان، وقيل: الأختان، وقيل: الأصهار، قلت: فمن جعل وَحَفَدَةً متعلقاً بـأَزْوَاجِكُم، فلابد أن يكون المراد الأولاد وأولاد الأولاد والأصهار؛ لأنهم أزواج البنات أو أولاد الزوجة.

وقوله: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أي: من المطاعم والمشارب، ثم قال تعالى منكراً على من أشرك في عبادة المنعم غيره: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وهم الأنداد والأصنام، وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ أي: يسترون نعم الله عليهم ويضيفونها إلى غيره، وفي الحديث الصحيح: إن الله يقول للعبد يوم القيامة ممتناً عليه: ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟[7].

قوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً، يقال: حَفَدَ إذا أسرع في الخدمة، فالحَفْد هو الإسراع في الخدمة، هكذا فسره أئمة اللغة كالخليل وأبي عبيد القاسم بن سلام، وأمثال هؤلاء.

يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عن ابن عباس -ا، قال: بَنِينَ وَحَفَدَةً، "وهم الولد وولد الولد"، وهذا القول هو الأظهر، وهو المتبادر إذا أردنا أن نرجح واحداً من هذه الأقوال، فالحفدة هم الأولاد وأولاد الأولاد، وهذا المعنى اختاره ابن العربي والقرطبي والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحم الله الجميع، قال: "وقيل: الخدم"، ومعلوم أن الأولاد وأولاد الأولاد يخدمون الإنسان ويسرعون في خدمته، "وقيل: الخدم والأعوان، وقيل: الأختان"، هذا قال به جماعة من السلف، والختن: مَن كان مِن قِبل المرأة، فقرابة المرأة، يقال لهم أختان، كابنها وأخيها، يعني ابن المرأة من غيرك، إن كانت متزوجة قبل ذلك، والأصهار ما كان من قبل الزوج، وما كان من قبل الزوجة أيضاً يقال لهم: أصهار.

فالشاهد أنه قال: "قيل: الأختان وقيل: الأصهار"، بمعنى أن الأصهار مثلاً أزواج البنات ممن يسارع في الخدمة إذا كان الإنسان قد صاهر أناساً كرماء وفضلاء، وقد يبتلى بغيرهم، كما يقول العامة: "النسب نشد"، فقد يبتلى بحنظل فلا يلقى منهم إلا الأذى والشقاء، لكن من حيث الأصل، يعني من قال هذا فهو باعتبار أن مثل هؤلاء إذا كانت نفوسهم كريمة فهم ممن يكونون كذلك.

ويقول الحافظ -رحمه الله: "فمن جعل وَحَفَدَةً متعلقاً بـأَزْوَاجِكُم"، يعني يكون وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً، ويحتمل وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ ثم قال: وَحَفَدَةً يحتمل أن يكون متعلقاً بالأزواج، ثم قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "فلابد أن يكون المراد الأولاد وأولاد الأولاد، والأصهار؛ لأنهم أزواج البنات"، فهذا له تعلق بالزوجات، أو أولاد الزوجة، وابن جرير -رحمه الله- حملها على هذه المعاني جميعاً باعتبار أن الحَفْد هو الإسراع في الخدمة، فقال: هذا يحصل بالأولاد وأولاد الأولاد وأزواج البنات والخدم والأعوان والمماليك، فكل هؤلاء ممن يسرع في الخدمة يقال لهم: حفدة.

فائدة:

الرقية هي من باب الطب والتداوي، والأصل في باب الطب الإباحة، ما لم يشتمل على محرم، فكل ما دلت التجربة على أنه ينفع ويفيد بإذن الله وليس فيه محظور فإنه جائز، هذه قاعدة الطب في الشريعة، والرقى هي من الطب، شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول بأن المرعوف يكتب على جبهته وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي [سورة هود:44] إلى آخر الآية، فيتوقف الرعاف، ويقول: مجرب، فإذا كان كذلك فلا إشكال فيه، مع أنه لم يرد عن النبي ﷺ، وهكذا كثير من الرقى ما وردت عن النبي ﷺ، والنبي ﷺ قال: علميها رقية النملة[8]، ولم تتعلم منه أصلاً -عليه الصلاة والسلام، وقال للقوم: اعرضوا عليّ رقاكم[9]، فما لم يشتمل على منكر أو شرك أو نحو هذا فلا بأس به، فقد تكون الرقية بالقرآن أو بالسنة أو بكلام آخر ليس فيه محرم، لا شرك ولا كلام غامض لا يفهم أو نحو هذا، فلا إشكال.

وابن القيم -رحمه الله- يذكر أن الإنسان إذا أصابه خوف مثلاً يقرأ آيات السكينة، ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ [سورة التوبة:26] الآيات هذه، يجمعها ويجلس يقرأها، يهدأ، أو يُرقى بها، وكذلك الإنسان الذي يعاني من قلة النوم والأرق يمكن أن تقرأ عليه آيات، وفي العين ممكن أن تركز على وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [سورة القلم:51]، والقرآن كله شفاء، وهذا يُعرف أثناء الرقية، فأحياناً عند رقية الممسوس إذا مررت على بعض الآيات يشتد هذا عليه جداً، ويطالب هذا الجني المتلبس فيه أن يخرج ويقول: أنا أتوب، وأنا سأتركه لكن لا تقرأ، عند بعض الآيات أحد الناس صرع وكان يسمع سورة النور، فلما وصل عند لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [سورة النور:27]، صاح بأعلى صوته، وقال: أنا سأخرج، أعاهدكم على الخروج، فمثل هذه الأشياء أحياناً تكتشف أثناء القراءة، إذا قرأت سورة الصافات، ووصلت عند قوله تعالى: وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ۝ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ [سورة الصافات:8، 9]، يتقطع.

  1. رواه البخاري، كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، برقم (5360)، ومسلم، كتاب السلام، باب التداوي بسقي العسل، برقم (2217).
  2. رواه البخاري، كتاب الأشربة، باب شراب الحلوى والعسل، برقم (5291)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينوِ الطلاق، برقم (1474).
  3. رواه البخاري، كتاب الطب، باب الشفاء في ثلاث، برقم (5357).
  4. رواه ابن ماجه، كتاب الطب، باب الكي، برقم (3491)، والطبراني في المعجم الكبير (11/437)، برقم (12241)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1154).
  5. رواه البخاري، كتاب الطب، باب الشفاء في ثلاث، برقم (5356)، من حديث ابن عباس -ا.
  6. رواه البخاري، كتاب التفسير، سورة الحجر، باب وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [سورة النحل:70]، برقم (4430)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من العجز والكسل وغيره، برقم (2706).
  7. رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم (2968) من حديث أبي هريرة .
  8. رواه أبو داود، كتاب الطب، باب ما جاء في الرقى، برقم (3887)، عن الشفاء بنت عبد الله -ا- قالت: دخل عليّ رسول الله ﷺ وأنا عند حفصة فقال لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة (النملة قروح تخرج في الجنبين) كما علمتيها الكتابة، وأحمد في المسند (45/46)، برقم (27095)، وقال محققوه: رجاله ثقات، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (178)، وفي مشكاة المصابيح برقم (4561).
  9. رواه مسلم، كتاب السلام، باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، برقم (2200)، من حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علىّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك.

مواد ذات صلة