الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[15] من قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً} الآية 89 إلى قوله تعالى: {وَلَيُبَيّنَنّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} الآية 92.
تاريخ النشر: ٢٧ / ذو الحجة / ١٤٢٨
التحميل: 2990
مرات الإستماع: 2347

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

قال المصنف -رحمنا الله تعالى وإياه:

وقوله تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىَ هَؤُلاَءِ وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىَ لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل:89].

يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً ﷺ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ يعني: أمتك، أي اذكر ذلك اليوم وهوله، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع، وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله ﷺ صدر سورة النساء، فلما وصل إلى قوله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [سورة النساء:41]، فقال له رسول الله ﷺ: حسبك، فقال ابن مسعود : ”فالتفتُ فإذا عيناه تذرفان“[1].

وقوله: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ قال ابن مسعود: قد بيّن لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء. فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي، وكل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم، وَهُدىً أي: للقلوب، وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ، وقال الأوزاعي: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ أي: بالسنة.

ووجه اقتران قوله: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ مع قوله: وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ أن المراد -والله أعلم: إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك سائلك عن ذلك يوم القيامة، فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [سورة الأعراف:6]، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الحجر:92، 93]، يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [سورة المائدة: 109]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [سورة القصص:85] أي: إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه، ومعيدك يوم القيامة وسائلك عن أداء ما فرض عليك، هذا أحد الأقوال، وهو متجه حسن.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ، معلوم أن ”كل“ أقوى صيغ العموم، تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، فأخذ بعضهم من هذا أن القرآن قد اشتمل على جميع العلوم، وأطالوا الكلام في هذا، وتكلفوا في ذلك تكلفات كثيرة قالوا: إنه يشتمل على علم الجبر، والهندسة، والمساحة والأثر، والخط، والفلك، والرياضيات، والطب، والزراعة، والنجارة، والحدادة، إلى غير ذلك من العلوم الكثيرة التي عددوها، وفي كتاب الإكليل للسيوطي، جملة كبيرة من هذا.

وهذا تكلف، والقرآن لم ينزل ليكون كتابًا أو موسوعة علمية في هذه الفنون، وإنما هو كتاب هداية، فهو تبيان لكل شيء مما يحتاج الناس إليه في سيرهم إلى الله، حيث إنه عرفهم بالمعبود وعرفهم بالطريق الموصل إليه، وبالدار التي يصلون إليها، فالأشياء التي ذكرها الله في القرآن ترجع إلى هذه الأمور الثلاثة، فما يذكره من القصص والأخبار وما إلى ذلك يرجع إلى هذا.

وبهذا الاعتبار يكون قوله: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ من قبيل العموم الاستعمالي، كما يسميه الشاطبي -رحمه الله، فلا يفهم منه العموم الذي يذكره الأصوليون، وهو ما يعبرون عنه باللفظ العام المستغرق.

وهذه الآية كقوله -تبارك وتعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [سورة الأحقاف:25] يعني مما جاءت وسيقت هذه الريح لتدميره، فلم تدمر الجبال ولا السماوات ولا الأرض ولا مساكن هؤلاء، ولهذا قال الله : فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [سورة الأحقاف:25]، وكقوله -تبارك وتعالى: وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ [سورة النمل:23] يعني ملكة سبأ، ولم تؤتَ ملك سليمان، وقول الله عن مكة: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة القصص:57] مع أنه يوجد ثمرات في الدنيا لا تجبى إليه؛ ولأنه من العموم الاستعمالي لم يعترض أحد على مثل هذه الآيات فيقول: إن الثمار الفلانية لا تجبى إليه، وهكذا قول النبي ﷺ: لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه[2].

وقد جاء زمن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- بعد زمن الحجاج، والتكلف في تحميل القرآن ما لا يحتمل، والقول بأنه يشتمل على أربعمائة علم أو أكثر ليس صحيحًا، والقرآن وإن كان فيه بعض الإشارات إلى بعض الجوانب مثل الفلك أو نحو ذلك، وما يذكره الله من دلائل قدرته ونحو هذا، فليس معنى ذلك أن القرآن جاء لشرح هذه العلوم، يقولون: يشتمل على علم الحدادة، ويحتجون بقوله تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ [سورة الأنبياء:80]، وعلم النجارة يقولون: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [سورة هود:37]، وهكذا سائر العلوم في علم الهندسة مثلًا أو وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ [سورة الكهف:17] ويبدءون يتكلمون عن الزوايا وما أشبه هذا، وهذا غير صحيح.

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة النحل:90]، يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة، ويندب إلى الإحسان، كقوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [سورة النحل:126]، وقوله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [سورة الشورى:40]، وقال: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [سورة المائدة:45] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شرعية العدل والندب إلى الفضل.

وقوله: وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى أي: يأمر بصلة الأرحام، كما قال: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [سورة الإسراء:26]، وقوله: وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فالفواحش: المحرمات، والمنكرات: ما ظهر منها من فاعلها؛ ولهذا قال في الموضع الآخر: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [سورة الأعراف:33] وأما البغي فهو العدوان على الناس، وقد جاء في الحديث: ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم[3].

وقوله: يَعِظُكُمْ: أي يأمركم بما يأمركم به من الخير وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وقال الشعبي عن شُتَير بن شَكَل: سمعت ابن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ الآية، رواه ابن جرير.

تكلم العلماء على هذه الآية: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وتقدم الأثر عن ابن مسعود أنها أجمع آية في كتاب الله -تبارك وتعالى، وفيها الأمر بالأخلاق الجامعة، والنهي عن الرذائل، وهي التي أمر عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أن تقرأ على المنابر في خطبة الجمعة، في آخر الخطبة، فقد كان قبل ذلك يشتمون عليًا في الشام، فلما جاء عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- نهى عن هذا، وأمر بأن تقرأ هذه الآية: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء؛ والعدل: هو الإنصاف وأن يعطى كل ذي حق حقه وما يستحقه، والإحسان: هو الفضل، يعني الزيادة، فالعدل هو الواجب، والإحسان هو ما ندب الله إليه من العفو أو الإفضال على من أساء.

وفسر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- الفحشاء بالمحرمات، والمنكر بما ظهر منها من فاعلها، ولو قيل بأن الفحشاء هي كل ذنب عظيم، فإن هذه اللفظة تدل على هذا المعنى، فالشيء العظيم يقال له: فاحش، فيقال: هذا مال فاحش، ويقال: كلام فاحش، فهو الذنب العظيم، والمنكر: فهذا من عطف العام على الخاص، المنكر أعم، فقد يكون كل ما أنكره الشرع أو عرفت العقول نكارته؛ لأن المنكر عند أهل السنة والجماعة، والقبح يعرف بالشرع، وكذلك أيضًا العقول لها مدخل في هذا، خلافًا للمتكلمين من الأشعرية ونحوهم، الذين يقولون بأن التحسين والتقبيح شرعيان، وأنه لا مدخل للعقل في ذلك، يقولون: العقل لا يدرك حسن الأشياء ولا قبح الأشياء، ويقولون: لو أن الشرع أمر بالزنا والكذب والفواحش لكانت حسنة.

وهذا من أغرب الأشياء، والشارع لا يمكن أن يأمر بهذا، وأهل السنة يقولون بأن المنكر ما دل الشرع على نكارته وقبحه، وما أنكرته العقول؛ لأن من الأشياء ما له حسن أو قبح ذاتي، يعرفه أصحاب العقول، فيقال مثلًا في الظلم والكذب ونحو هذا: هذه تدرك العقول قبحها، ولذلك حتى الكفار يعرفون قبح هذه الأشياء، ولو لم يرد الشرع بذلك، والشرع لا يمكن أن يأمر بمثل هذه الأشياء، فالأشياء التي نهى عنها الشرع هي قبيحة، ولكن قد تدرك العقول قبحها وقد يخفى عليها ذلك، فالشاهد أن الله قال: وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وهي الذنوب العظام، وكذلك أيضًا ينهى عن كل منكر، وهذا يشمل الفواحش وغير الفواحش، فيكون هذا من قبيل عطف العام على الخاص، وهو كثير في القرآن.

وقوله -تبارك وتعالى- هنا: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، يعظكم: الغالب في كلام أهل العلم أنهم يعبرون عن معنى الوعظ فيقولون: هو الأمر أو النهي المقرون بالترغيب والترهيب، ونجد في كثير من المواضع أن الله يأمر وينهى دون أن يكون معه ترغيب ولا ترهيب، ويسميه وعظًا، والجواب عن ذلك بأن يقال: إن القرآن يُنظر إليه باعتبار أنه وحدة متكاملة، قد ذكر الله فيه الترغيب والترهيب والتخويف، وإذا أمر الله فإنه قد أخبر أن أمره يجب أن يمتثل، وإلا فإنه يتوعد ويعاقب ويعذب من عصاه.

وقد ورد في نزولها حديث حسن رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس -ا- قال: بينما رسول الله ﷺ بفناء بيته جالس إذ مر به عثمان بن مظعون، فكشر إلى رسول الله، فقال له رسول الله ﷺ: ألا تجلس؟ فقال: بلى، قال: فجلس رسول الله ﷺ مستقبله، فبينما هو يحدثه إذ شخص رسول الله ﷺ ببصره إلى السماء، فنظر ساعة إلى السماء، فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض، فتحرف رسول الله ﷺ عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره، فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له، وابن مظعون ينظر، فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له، شخص بصر رسول الله ﷺ إلى السماء كما شخص أول مرة، فأتبعه بصره حتى توارى إلى السماء، فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى، فقال: يا محمد فيما كنت أجالسك ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة!، فقال: وما رأيتني فعلت؟ قال: رأيتك شخصَ بصرُك إلى السماء، ثم وضعته حيث وضعته على يمينك، فتحرفت إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئًا يقال لك، قال: وفطنت لذلك؟ فقال عثمان: نعم، قال رسول الله ﷺ: أتاني رسول الله آنفًا وأنت جالس قال: رسول الله؟ قال: نعم، قال: فما قال لك؟ قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ الآية، قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدًا ﷺ[4]، إسناد جيد متصل حسن قد بيّن فيه السماع المتصل.

هذا الحديث في إسناده شهر بن حوشب، وهو مضعف، وفيه آخر أيضًا يقال له: عبد الحميد بن بهرام.

وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ۝ وَلاَ تَكُونُواْ كَالّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوّةٍ أَنكَاثًا تَتّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَأُمّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمّةٍ إِنّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيّنَنّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [سورة النحل:91، 92].

هذا مما يأمر الله تعالى به، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة، ولهذا قال: وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ولا تعارض بين هذا وبين قوله: وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ [سورة البقرة:224] الآية، وبين قوله تعالى: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [سورة المائدة:89] أي: لا تتركوها بلا كفارة، وبين قوله -عليه الصلاة السلام- فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها[5] وفي رواية: وكفرت عن يميني[6] لا تعارض بين هذا كله ولا بين الآية المذكورة ههنا، وهي قوله: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا؛ لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق لا الأيمان التي هي واردة على حثٍّ أو منع؛ ولهذا قال مجاهد في قوله: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا يعني الحِلْف، حِلْفَ الجاهلية، ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله ﷺ: لا حِلْف في الإسلام، وأيما حلْف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة[7] وكذا رواه مسلم، ومعناه: أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلْف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.

وأما ما ورد في الصحيحين عن أنس أنه قال: حالف رسول الله ﷺ بين المهاجرين والأنصار في دورنا[8]، فمعناه أنه آخى بينهم فكانوا يتوارثون به حتى نسخ الله ذلك، والله أعلم.

حمل جماعة من أهل العلم قوله تبارك وتعالى: بِعَهْدِ اللّهِ على عموم العهود، العهد مع الله ، والعهد مع المخلوقين، فإذا عاهد الإنسان ربه فيجب عليه أن يفي وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقنَّ [سورة التوبة:75]، فالشاهد: أن الله -تبارك وتعالى- لمّا أخلفوا هذا قال: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ [سورة التوبة:77]، وهكذا النذر هو عهد مع الله يجب الوفاء به، والعهود مع الناس داخلة في هذا وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، والأيمان جمع يمين وهي الحَلِف، وعرفنا لماذا قيل لها: يمين، وأن الأصل أنه كان من عادتهم أن الواحد منهم إذا حلف أخذ بيمين صاحبه توكيدًا للقول بالفعل، ثم نُسي ذلك، فصارت تطلق اليمين على كل حَلِف.

وقوله: وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا يقول: لا تعارض بين هذا وبين قوله: وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ [سورة البقرة:224]؛ لأن المعنى في هذه الآية: لا تتركوا فعل الخير والصلة والبر والإحسان بحجة أنكم حلفتم أن لا تفعلوه، فلا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس، فإذا رأى الإنسان أنه حلف على شيء ثم وجد غيره خيرًا منه فإنه يكفر عن يمينه كما ثبت عن النبي ﷺ، قال: وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا فهذه الأدلة التي أوردها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- تدل على أن الإنسان ينقض اليمين ويكفر عنها، ثم بيّن أن المراد بقوله: وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ أي: التي في العهود. 

وبعض أهل العلم يقول: المقصود به الأيمان المؤكدة، وهذا بعيد، ومنهم من يقول: وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا المقصود به ليس الذي في العهود وإنما الأيمان التي ينعقد عليها القلب، لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ [سورة المائدة:89]، فهذه اليمين لا يجوز للإنسان أن ينقضها، فإذا رأى أن غيرها خيرٌ منها فإنه يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير، أما ما يجري على أَلسِنة الناس ولا ينعقد عليه القلب فإن هذا ليس له حكم اليمين، فلا بأس بأن الإنسان يفعل خلاف مقتضاه، والمقصود بـ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا أي: لا تنقضوها غير مبالين بها، لأن لها حرمة يجب على الإنسان أن يقف عندها ويمتنع مما حلف عليه أن يتركه، أو يفعل ما حلف أنه يفعله، أو يكفر عن يمينه، ولعل هذا المعنى أقرب، والله تعالى أعلم.

وقوله: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا منهم من فسره بالشهيد -أي شهيدًا، ومنهم من فسره بالرقيب، ومنهم من فسره بالحافظ، يرقبكم ويحفظ عليكم أعمالكم وأيمانكم، ويشهد عليكم بذلك، ويراعي أحوالكم من الوفاء والنقض، فهذه المعاني التي ذكرها السلف متقاربة، والله تعالى أعلم.

  1. رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب قولة المقرئ للقارئ حسبك، برقم (4763)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل استماع القرآن وطلب القراءة من حافظ للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر، برقم (800)، واللفظ للبخاري.
  2. رواه البخاري، كتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه، برقم (6657)، أن أنساً قال: "اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم.
  3. رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2511)، من حديث أبي بكرة ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب البغي، برقم (4211)، وأحمد في المسند برقم (20398)، وقال محققوه: إسناده صحيح، وصححه ابن حبان في صحيحه برقم (455)، والألباني في السلسلة الصحيحة برقم (918)، وفي تحقيق مشكاة المصابيح برقم (4932).
  4. رواه أحمد في المسند (5/87)، برقم (2919)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، والطبراني في المعجم الكبير (9/39)، كلاهما من طريق عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب، كلاهما فيهما كلام، بعضهم وثق عبد الحميد بن بهرام وبعضهم ضعفه، وبعض العلماء قبل روايته عن شهر بن حوشب؛ لأنه ممن لازمه وحفظ حديثه، والذين ردوا حديثه لأنه صدوق يروي عن ضعيف وهو شهر بن حوشب، انظر: سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي (7/334)، وضعف العلماء شهر بن حوشب وللمزيد من الفائدة وبيان كلام العلماء عليه ينظر: كتاب سير أعلام النبلاء (4/374).
  5. رواه البخاري، كتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده، برقم (6342)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب نذر من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه، برقم (1649)، من حديث أبي قلابة ، واللفظ له.
  6. رواه البخاري، كتاب كفارات الأيمان، باب الاستثناء في الأيمان، برقم (6340)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب نذر من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه، برقم (1649)، من حديث أبي موسى الأشعري .
  7. رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة -، باب مؤاخاة النبي ﷺ بين أصحابه -، برقم (2530).
  8. روى الإمام البخاري -رحمه الله- في مؤاخاة النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: "لما قدموا المدينة آخى رسول الله ﷺ بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع قال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمّها لي أطلقْها فإذا انقضت عدتها فتزوجْها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقِطٍ وسمن، ثم تابع الغُدو، ثم جاء يوما وبه أثر صفرة، فقال النبي ﷺ: مَهْيَم؟، قال: تزوجت، قال: كم سقت إليها؟، قال: نواة من ذهب، أو وزن نواة من ذهب"، كتاب فضائل الصحابة، باب إخاء النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار، برقم (3569).

مواد ذات صلة