الجمعة 25 / جمادى الآخرة / 1446 - 27 / ديسمبر 2024
[16] من قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} الآية 93 إلى قوله تعالى: {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} الآية 96
تاريخ النشر: ٢٨ / ذو الحجة / ١٤٢٨
التحميل: 2963
مرات الإستماع: 2835

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ۝ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ[سورة النحل:91، 92].

وقوله: إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها.

وقوله: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا قال عبد الله بن كثير والسدي: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده، وهذا القول أرجح وأظهر سواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا، وقوله: أَنكَاثًا يحتمل أن يكون اسم مصدر.

نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا: أي أنقاضاً، ويحتمل أن يكون بدلاً عن خبر كان أي: لا تكونوا أنكاثاً جمع نكِث من ناكث؛ ولهذا قال بعده: تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ: أي: خديعة ومكراً أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ: أي تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم؛ ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم غدرتم، فنهى الله عن ذلك؛ لينبه بالأدنى على الأعلى، إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه، فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى.

قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز، فنُهوا عن ذلك. وقال الضحاك وقتادة وابن زيد نحوه. وقوله: إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ قال سعيد بن جبير: يعني بالكثرة، رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن جرير: أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيجازي كل عامل بعمله من خير وشر.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا جاءت روايات كثيرة في أن المراد بذلك امرأة معينة كانت بمكة، كانت تغزل الصوف، ثم بعد ذلك تنقضه، وهذه الروايات على كثرتها لا يصح منها شيء؛ ولذلك تحمل الآية كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- على أنها من قبيل ضرب المثل، سواء كان هناك امرأة تفعل هذا بمكة، أو لم يكن.

فالمقصود أنه ضرْبُ مثل لتصوير معنىً بأمر محسوس، وإنما تذكر الأمثال لهذا الغرض، تقريب المعاني بالأمور المحسوسات من أجل أن تُفهم ويُعرف المعنى، فكما تقول مثلاً: مثل هذا في نقضه ما بذل فيه جهده كالذي يغزل وينقض ما غزل، وتقول: مثل هذا في بعثرة جهده وتضييعه كمثل الذي يكتب على الماء، ونحو هذا مما يقال، والتأنيث فيه كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا سببه واضح، وهو أن التي تغزل عادة هي المرأة، وإنما ضرب المثل بنقض الغزل وذلك من شأن النساء، كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا.

ثم قال هنا: وقوله: أَنكَاثًا يحتمل أن يكون اسم مصدر أَنكَاثًا: أي أنقاضاً، وبعضهم يقول: هو مصدر، وبعضهم يقول: بدل، والحاصل أن لفظة الأنكاث بعض أهل اللغة يقول: هي جمع نِكث، والمراد به: النقض، فالغزل يحكم ثم بعد ذلك ينقض، فهكذا الذي يعقد العهد والميثاق، ثم ينقضه بعد أن أبرمه، كالتي تغزل ثم بعد ذلك تنقض ما غزلت، فالأنكاث جمع نِكث وهو ما ينكث فتله، وبعضهم كما سبق يقول: إنه جمع نَكِث: يعني الناكث، أَنكَاثًا: يعني ناكثين، ولهذا قال بعده: تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ: أي خديعة ومكراً، وأصل لفظة دَخَلاً كل ما ليس له أساس صحيح فإنه يعبر عنه بذلك، يقال: هذا الأمر فيه دَخَلٌ، بمعنى أنه أمر ليس على الجادة، ليس بصحيح، ليس بمستقيم.

فما هو الدخَل الذي يكون بالنسبة للأيمان؟ هو أن تُتخذ خديعة ومكراً، تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ قال: خديعة ومكراً، فهذا التعبير فيما يختص بالأيمان، لكن تقول: هذا المذهب فيه دخل بمعنى أنه ليس بمستقيم، فيه انحراف، وهنا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ الأقرب -والله تعالى أعلم: أن المعنى أن هؤلاء يعقدون الأيمان والمواثيق والعهود ثم بعد ذلك ينقضونها إذا رأوا أن مصلحتهم تقتضي ذلك من جهة أنهم وجدوا من هو أقوى من الذين عاهدوهم، وأعطوهم الأيمان والمواثيق والعهود، فيتركون هؤلاء ويحالفون هؤلاء، وهكذا يتنقلون ويتلونون ويتقلبون بحسب ما يرونه أوفق لهم فيما يتوهمون أن مصلحتهم تقتضيه، فينقضون العهد بسبب ذلك، يعني قد يعاهدون هؤلاء ثم بعد ذلك تتغير الأحوال فتضعف هذه الطائفة أو القبيلة التي عاهدوها أو حالفوها، ثم بعد ذلك يرون أنهم يقوون عليها فينقضون، أو وجدوا من هم أقوى منهم فيحالفونهم، أو وجدوا فرصة مواتية بأن وقعت حرب بين هؤلاء وهؤلاء، فحالفوا الآخرين، أو نحو هذا مما قد يفعله أهل الجاهلية ومن لم يراعِ للعهود والمواثيق حرمةً.

تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ، لفظة أَرْبَى: أصل هذه المادة يرجع إلى معنى الزيادة، أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ: يعني أكثر وأقوى، فيتركون أولئك الذين عاهدوهم ويتحالفون مع غيرهم، إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ، هنا نقل القولين: يبلوكم بالكثرة أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ، إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ فأعاد الضمير إلى أقرب مذكور ثم نقل قول ابن جرير بأن المقصود الوفاء بالعهد، وعلى كل حال بين القولين ارتباط وملازمة، وذلك أنهم إنما ينقضون حينما يجدون مثل هذه المسوغات من الكثرة والقوة وما إلى ذلك، فيبتليهم الله بهذا لينظر في عملهم، هل يوفون بالعهد أو ينقضونه لطمعٍ قريب يحصِّلونه أو يتوهمونه؟ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ

والتكاليف كما هو معروف عند الأصوليين مبناها على الابتلاء والامتثال، على الراجح من أقوالهم أنها تجمع بين الأمرين، وإن اختلفوا فيها فمنهم من يقول: للابتلاء، ومنهم من يقول: للامتثال، ويترتب على هذا مسألة عملية وهي إذا قلنا: إنها للابتلاء، فمعنى ذلك أنه يسوغ التكليف بما لا يطاق، وإذا قيل: إنها للامتثال فإنه لا يكلف الناس بما لا يطيقون، فبعضهم يقول: هي للامتثال، وبعضهم يقول: هي للابتلاء، كما قال في المراقي:

للامتثال كَلَّف الرقيبُ فموجبٌ تمكناً مصيبُ

أو الابتلاء، فذكر القولين، فيترتب إذا قيل: إنها للامتثال: أنه لا يكون إلا بالإطاقة، وعلى كل حال الراجح أنها للابتلاء والامتثال، فالله يبتلي الناس بالتكاليف، ولا يكلفهم إلا من أجل الامتثال، ولا يوجد في الشريعة تكليف بما لا يطاق، وقوله -تبارك وتعالى: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ [سورة البقرة:284] الراجح أن هذه الآية لم تنسخ، وإنما هي مبينة بقوله -تبارك وتعالى:  فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [سورة التغابن:16].

وكذا قول الله -تبارك وتعالى: اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [سورة آل عمران:102] مبين بـ اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فما يبديه الإنسان وما يخفيه مما تحت طوقه فإن الله يحاسبه عليه من الإيمان والكفر والتوكل على غير الله والتعلق، والمحبة التي لا تصلح إلا لله إذا وجهت للمخلوق، وهكذا من الرياء والسمعة والمقاصد السيئة، والله أعلم.

وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۝ وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة النحل:93-96].

يقول الله تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أيها الناس أُمَّةً وَاحِدَةً كقوله تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [سورة يونس:99]: أي لوفق بينكم ولما جعل اختلافاً ولا تباغض ولا شحناء وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [سورة هود:118، 119]، وهكذا قال ههنا: وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم عليها، على الفتيل والنقير والقطمير، ثم حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلاً أي: خديعة ومكراً؛ لئلا تزل قدم بعد ثبوتها، مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها، وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله؛ لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين، فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام، ولهذا قال: وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.

هنا في قوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا: هناك نهى عن اتخاذ الأيمان هذا الاتخاذ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ، وتوعدهم على ذلك، ونهاهم عن هذا تحت أي مبرر كان، بمعنى: لا يسوغ لكم التلاعب بالعهود والمواثيق والأيمان والنقض بتسويغ ذلك بكون هؤلاء أقوى من هؤلاء وأكثر ونحو هذا، إنما يلتزم الإنسان العهد ويفي به، وهنا وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، نهى عنه مبيناً أثره، وهناك ينهاهم عنه مهما كانت مبرراته، ولهذا قال: إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ ففيه تهديد مبطن، وهنا وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ ما هو الأثر؟

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا قال: مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها، هو لا يقصد الآن تفسير الآية بكاملها، وإنما يقصد فقط فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا أن هذا يمثل به لمن حاد وزل وانحرف عن الطريق، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، تقول مثلاً: لا تتبع خطوات الشيطان فتزل قدم بعد ثبوتها، لا تقرأ الشُّبه ولا تصغِ إلى أهل الشبه وأهل البدع والأهواء فتزل قدم بعد ثبوتها، من عرَّض نفسه للفتنة أولاً لم ينج منها آخراً، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، فهذا مثل لمن حصل له انحراف وميل عن الطريق الصحيح، لكن معنى الآية: وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، الحافظ ابن كثير فسر ذلك بأنه يتسبب في فتن غير المسلمين حينما يرون المسلمين يتلونون، وينقضون العهود والمواثيق، بحسب ما يرونه مصالح عاجلة وقريبة، فهم مَصْلحيُّون لا يقفون عند مبدأ ولا يرعون للعهد حرمة، وإنما ينكثون العهود والمواثيق متى ما رأوا الفرصة مواتية، فيصدهم ذلك عن دين الله ، ولا يقبلون الإسلام؛ لأنهم يرون الغدر والخيانة، هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير.

فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا: يعني أن ذلك يكون صداً لغير المسلمين، لكن هذا لا يخلو من إشكال -والله أعلم؛ لأن هؤلاء الكفار لم تثبت أقدامهم أصلاً على الصراط حتى تزل، هم بعيدون عن الصراط المستقيم، ولهذا قال بعضهم: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا: أي أن ذلك الناكث هو المراد بقوله: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، فيكون قد حاد عن الحق وخرج عنه بنقضه للعهد وصار بهذا منحرفاً ظالماً مستحقاً للعقوبة، وهذا أقرب من المعنى الأول.

وبعضهم يفسر هذا بأيمان البيعة التي تعطى للنبي ﷺ، فخصه بنوع من الأيمان والعهود، فتلك في عموم العهود والمواثيق والأيمان، وهذه في نوع خاص منها وهو ما يعطى لرسول الله ﷺ من أيمان البيعة، فإذا نقض فإن ذلك يكون فتاً في عضد المسلمين، وضعفاً في الإسلام، وسبباً للتضعضع والتراجع وغلبة العدو، إذا نكثتم عهودكم وبيعتكم ولم تفوا بذلك فإن ذلك يكون سبباً لضعف المسلمين وتراجعهم، وطمع عدوهم أو غلبته عليهم، وهذا لا دليل عليه، -أي التخصيص بهذا المعنى، ولهذا الأقرب -والله تعالى أعلم: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا أنه قدم الناكث، فهو الذي يكون قد انحرف وخرج عن الحق بنقضه للعهود والمواثيق، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ.

الحافظ ابن كثير ربما يحتج بهذا الجزء من الآية بأنه قرينة على أن المقصود فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا قدمُ غير المسلمين، فتكونون قد صددتم عن سبيل الله، لكن على المعنى الذي ذكرته آنفاً وهو أنه تزل قدم الناكث وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فلا شك أن نقض العهود يتسبب عنه صد الناس عن الحق، وليس فقط نقض العهود بل كل التصرفات التي تسيء إلى الإسلام والمسلمين تكون صداً عن سبيل الله، ولهذا المؤمن يدعو ربه أن لا يكون فتنة للذين آمنوا، كما أن الله  علّمنا: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا [سورة الممتحنة:5].

وكما سبق أن الفتنة مصدر، تأتي بمعنى الفاعل وتأتي للمفعول، لَا تَجْعَلْنَا بمعنى الفاعل، لا تجعلنا فاتنين بأن تسلطهم علينا، كما قال طائفة من السلف : أنْ تُسلطهم علينا فيغلبونا ويقهرونا فيقال: لو كان هؤلاء على الحق لما كانوا بهذه المثابة، فهذا معنى، ويدخل فيه لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً بأن الناس لا يلتزمون شرع الله ، ويصدر عنهم ما ينفر الناس عن الدخول في الإسلام، كما هو واقع الأمة اليوم، فيكون ذلك صداً عن سبيل الله وفتنة للناس عن الدخول فيه، وبمعنى المفعول لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لا تسلطهم علينا فيقهرونا ويغلبونا، فنُفتن في ديننا، ونُصَدَّ عن سبيل الله، لا تسلطهم علينا فيفتنونا عن ديننا، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فهذه المعاني داخلة فيه، والله تعالى أعلم.

لكن هنا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ بتصرفهم السيئ هذا، ونقضهم للعهود والمواثيق، لا شك أن هذا يتسبب عنه الصد عن سبيل الله -تبارك وتعالى.

ثم قال تعالى: وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً: أي: لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عرض الحياة الدنيا وزينتها؛ فإنها قليلة، ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له، أي جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به وطلبه وحفظ عهده رجاء موعوده، ولهذا قال: إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ: أي يفرغ وينقضي، فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر مُتناهٍ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ: أي وثوابه لكم في الجنة باقٍ لا انقطاع ولا نفاد له، فإنه دائم لا يحول ولا يزول وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قسم من الرب تعالى مؤكد باللام، أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم، أي: ويتجاوز عن سيئها.

أحسن -كما تعلمون: صيغة تفضيل، وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، فهذا المعنى الذي مشى عليه ابن كثير هو الذي اختاره ابن جرير أيضاً، بمعنى يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون، فيتجاوز عن السيئ، ويجازيهم بأحسنها لا بأسوئها، هذا معنىً.

وبعض أهل العلم يقول: يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون أي: يجعل لهم الأجر والثواب على مقدار ما يكون فاضلاً من أعمالهم الصالحة، فالأعمال الصالحة تتفاوت، ويتفاوت الناس في إحسانهم فيها، من حضور القلب، وشدة الإخلاص والإخبات أثناء العمل، وما أشبه هذا مما يحصل فيه تفاضل بسبب المتعلق من جهة الزمان والمكان، فيكون الجزاء على الأرفع منها، فيرفع الضعيف وما كان جزاؤه قليلاً تكون المحاسبة على الأعلى.

فمثلا: أنت عندك بضاعة منها ما هو جيد ومنها ما هو رديء، وكلها بضاعة، عندك مواد مصنوعة، عندك منسوجات منها ما هو جيد ومنها ما هو ركيك أو رديء، فتكون المحاسبة لك إذا أردنا أن نعطيك حقك تماماً أن يعطى كل نوع منها ما يستحقه، فعلى هذا المعنى هنا؟ لا، بل يعامل الجميع معاملة الأحسن والأفضل منها، من كرم الله وفضله على عباده، يجبر لهم الضعف، ويرفع لهم الأجور، بحيث إنها تكافئ الأفضل من أعمالهم، نجزيهم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، وهذا معنىً ذكره بعض أهل العلم، وهو معنىً حسن، وسبب الاختلاف، أن ”أحسن“ أفعل تفضيل إذا استعملناها في بابها الذي وضعت له، وهو أن شيئين اشتركا في صفة فزاد أحدهما على الآخر، فحينئذ الأعمال السيئة -كما مشى عليه ابن كثير وابن جرير رحمهما الله- غير داخلة في المفاضلة؛ لأنه لا يفاضل بين الأعمال السيئة والحسنة، ما يقال: الطاعة أفضل من المعصية.

ألم تر أنّ السيف ينقصُ قدرُه إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا

وإنما يكون في شيئين اشتركا في صفة، تقول: زيد أعلم من عمرو، الفرائض أفضل من النوافل، وكل ذلك فاضل، فهنا تكون هذه الأعمال قد اشتركت بالحسن فزاد بعضها على الآخر، فبعضهم قال: السيئ غير مشترك في الحسن هنا، ما الذي يشترك في الحسن؟ قالوا: المباح، والسيئ مذموم، إذًا يجزيهم بأحسن: يعني بالطاعات دون المباحات، أعمالُهم فيها المعصية وفيها المباح وفيها العمل المشروع الذي أمر الله به ورسوله ﷺ أمْر إيجاب أو ندب، هذا المشروع، هذا القسم الثالث، فالتي اشتركت في الحسن غير مذمومة شرعًا هي المباحات والأمور الأخرى المشروعة، فيجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون، يعني بأحسن أعمالهم، وأما المباح فلا يحاسب الإنسان عليه، هذا المعنى الثالث، هي ثلاثة معانٍ على كل حال، والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة