بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة النحل:118، 119].
لما ذكر تعالى أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وإنما أرخص فيه عند الضرورة -وفي ذلك توسعة لهذه الأمة التي يريد الله بها اليسر ولا يريد بها العسر- ذكر ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها، وما كانوا فيه من الآصار والتضييق والأغلال والحرج، فقال: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ: أي في سورة الأنعام في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ [سورة الأنعام:146].
ولهذا قال ههنا: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ: أي فيما ضيقنا عليهم وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ: أي فاستحقوا ذلك، كقوله: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا [سورة النساء:160].
ثم أخبر تعالى تكرماً وامتناناً في حق العصاة المؤمنين أن من تاب منهم إليه تاب عليه، فقال: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل، ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ: أي أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي وأقبلوا على فعل الطاعات إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا: أي تلك الفعلة والزلة لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ: أجمل الله هنا ما قصه على نبيه ﷺ في التحريم في باب المطعومات، وفصله في سورة الأنعام وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ.
فالشاهد أن هذه الآية يستدل بها على أن سورة النحل نزلت بعد سورة الأنعام، وكلاهما من السور المكية، وسورة النحل نازلة بعد سورة الأنعام والدليل على هذا هذه الآية، وهذا يُحتاج إليه فيما يقال فيه بالنسخ، فعلى سبيل المثال في قوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا [سورة النحل:67] الآية التي سبقت، وذكرنا أن بعضهم فسرها بالخمر، وقالوا: هذا قبل التحريم، فعلى هذا يكون ذكر هذه الآية على سبيل الامتنان، وفي سورة الأنعام الله يقول: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145]، ولم يذكر شيئاً، والمشروب هو لون من المطعوم، بدليل قوله -تبارك وتعالى: وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [سورة البقرة:249] فسمى الشراب مطعوماً؛ لأنه يطعم.
وفي قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا قال: مِن بَعْدِهَا: أي تلك الفعلة والزلة لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، وليس المقصود بالجهالة -كما هو معلوم- أنه فعله وهو لا يعلم أنه محرم؛ فإن مثل هذا الجهل بشرطه يكون مغتفراً؛ لأن من شروط التكليف العامة في كل تكليف من التكاليف العلم بخطاب الشارع، يعني بلوغ الخطاب، العقل وبلوغ الخطاب، هذا في كل تكليف، يضاف إلى ذلك الإسلام، وكلام أهل العلم في مسألة توجه الخطاب إلى الكفار بفروع الشريعة... إلى آخر ما هو معروف.
وعلى كلٍّ فبلوغ الخطاب شرط، وذلك بشرطه أيضاً؛ لأن المفرط له أحكام أخرى، وإنما المقصود بالجهالة أن كل من عصى الله كما قال السلف فهو جاهل، فلو عرف عظمة الله وقدره لم يجترئ على معصيته، والجهل كما يقال لقلة العلم أو نقص العلم أو ذهاب العلم، أو عدم العلم، كذلك يقال أيضاً للتعدي حينما يقول:
ألا لا يَجهلنَّ أحدٌ علينا | ... |
ليس معناه أنه لا يعلم، وإنما المقصود يتعدى، فالشاهد أن الله هنا قال: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ كل من عصى الله فهو جاهل، قال: ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ في الآية الأخرى قال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ [سورة النساء:17] وكل من تاب قبل الغرغرة فقد تاب من قريب، فهنا قال: ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ الإصلاح هنا يشمل إصلاح الحال، ولهذا اشترط ابن القيم -رحمه الله- كما سبق في الكلام على التوبة أن من شروط التوبة عنده الإقبال على الله ، فجعل ذلك من علامات التوبة الصادقة، أن يُقبل الإنسان على الله وأن تتغير حاله، ويشتغل بالطاعات بدلاً من أن كان يشتغل بالمعاصي.
وأما ما يتعلق بما ضرره وفساده متعدٍ فلا شك أن ما يكون ضرره متعدياً من الإفساد والتضليل أن هذا من شرط التوبة فيه الإصلاح، فالذي نشر بدعاً وأهواء وضلالات، وضلل الناس ونحو هذا، فهذا من شرط توبته أن يصلح ما أفسده، وأن يبين الضلال الذي بثه في الناس.
الشاهد هنا قال: إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، مِن بَعْدِهَا هل المقصود من بعد ذلك العمل السيئ؟ أو المقصود مِن بَعْدِهَا: أي من بعد التوبة؟، يحتمل كما قلنا في الآية التي مضت، وعلى كل حال الله ذكر هنا أن هؤلاء الذين عملوا هذا العمل السيئ تابوا وأصلحوا، إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا: أي من بعد تلك الفعلة التي تاب أصحابها منها لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، فهذان متلازمان، التوبة والعمل السيئ؛ فإن المغفرة التي رتبها الله على ذلك هنا كانت بعد التوبة، والله أعلم.
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة النحل:120-123].
يمدح تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ووالد الأنبياء -عليهم السلام، ويبرئه من المشركين ومن اليهودية والنصرانية، فقال: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا فأما الأمة: فهو الإمام الذي يقتدى به، والقانت: هو الخاشع المطيع، والحنيف: المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد؛ ولهذا قال: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وقال مجاهد: أمة: أي أمة وحده.
وقوله: شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ: أي قائماً بشكر نعم الله عليه، كقوله تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [سورة النجم:37]: أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به.
في قوله هنا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قال: الأمة هو الإمام الذي يقتدى به، وهذا التفسير من أحسن ما ذكر في تفسير هذه اللفظة في هذا المقام، وإلا فالأمة كما هو معلوم تأتي لمعانٍ متعددة في القرآن، وسبق الكلام على شيء من هذا، ومنهم من فسر الأمة بالعالم، كَانَ أُمَّةً: أي كان عالماً، ولا شك أن ما ذكره الحافظ ابن كثير: أنه الإمام الذي يقتدى به، أبلغ من مجرد العالم، فإن العالم قد لا يقتدى به، وقد لا يعمل بعلمه، وقد لا يكون أهلاً للاتباع.
وبعضهم يقول: كان معلماً للخير، وبعضهم يجمع بين الأمرين فيقول: كان عالماً ومعلماً للخير، وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أبلغ أيضاً من هذا، فإن الإنسان قد يكون معلماً للخير ولكنه ليس بأهل للاقتداء، فما كل من علَّم يصلح أن يقتدى به، وهكذا قول من قال: يؤمُّه الناس ليأخذوا عنه، فإن هذا يرجع إلى بعض ما سبق، إذا كان معلماً للناس الخير باذلاً للعلم، فإن معنى ذلك أنه يرجع الناس إليه ليأخذوا عنه.
فهذه المعاني كما ترون هي معانٍ جزئية، فالسلف يفسرون الشيء أحياناً ببعض معناه، والأحسن أن يفسر اللفظ بما هو أوسع من ذلك وما يشمل هذه جميعاً، فالأمة هو الرجل الجامع لخصال الخير التي تفرقت في غيره، ومن هنا صار محلاً للائتساء والاقتداء، فهو عالم معلم للخير يرجع الناس إليه فيما نابهم، وينتفعون بعلمه، إلى غير ذلك من المعاني التي ترجع إلى هذا، الرجل الجامع لخصال الخير التي تفرقت في غيره يقال له: أمة، فتجد من الناس من يتصف بالعلم، ومن الناس من يتصف بنفع الناس، ومن الناس من يتصف بصفات أخرى، فهذا جامع لخصال الخير التي تفرقت، فصار أمة وحده بهذا الاعتبار، فالقرآن الأحسن أن يفسر بهذه الطريقة.
قَانِتًا القنوت سبق الكلام عليه وأنه يأتي لمعانٍ متعددة، وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ [سورة الأحزاب:35]، وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ [سورة الأحزاب:31]، وشيخ الإسلام ألَّف رسالة في قنوت الأشياء لله ، وحاول أن يستقرئ هذه اللفظة في القرآن، وما دلت عليه، والنتيجة التي خرج بها أن القنوت هو دوام الطاعة، وهذا الذي ذهب إليه أيضاً ابن القيم -رحمه الله، دوام الطاعة يقال له: قنوت، فإن الذي يطيع فترة ثم بعد ذلك يفتر وينقطع، لا يقال له: قانت، قال النبي ﷺ: أفضل الصلاة طول القنوت[1]: يعني طول القيام، وهكذا.
وقال هنا: كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ، قال: القانت الخاشع المطيع، هذا يحتاج إلى أن يقيَّد كما سبق، المطيع الذي يديم الطاعة، وهذا المعنى -أي أنه هو المطيع- هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله. قال: والحنيف: المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد، هذا مثال يصلح على التفسير باللازم، فالتفسير يكون بالمطابق أو بدلالة التضمن، أو باللازم، وقد يكون بأنواع أخرى، وهذا مثال على التفسير باللازم، من حيث إن الحنيف: هو المقبل على الشيء، فهو حنيف: أي مقبل على ربه -تبارك وتعالى- بالتوحيد والاستجابة والإنابة، فالإقبال على الشيء يقال له: حَنَفٌ، ولهذا يقال فيمن تكون إحدى رجليه مقبلة على الأخرى: أحنف، ولهذا قيل للأحنف بن قيس -رحمه الله: الأحنف لهذا السبب، يقال: إن أمه كانت ترقصه وهو صغير وتقول:
والله لولا حَنَفٌ في رجله | ما كان في فتيانكم من مثله |
فهذا أصله بمعنى الإقبال، إقبال إحدى الرجلين على الأخرى، ولازم ذلك الميل، فبعضهم فسر به الحنَف، قال: هو الميل عن الشرك، والحنيف: هو المائل عن الشرك إلى الإسلام والتوحيد، تفسير باللازم، وإلا فأصله الإقبال على الشيء، ومِن لازم هذا الإقبال وجود هذا الميل والانحراف، فإذا فسرناه بلازمه قلنا بأنه مائل ومنحرف عن كل ملة وشرعة ودين سوى الإسلام، سوى التوحيد، هذا وجه التفسير هنا بالميل، وكثير من المفسرين يذكرون هذا، ويصح تفسير الشيء باللازم، وليس هذا من قبيل الخطأ إطلاقاً، وإذا تأملت في الأقوال المنقولة عن السلف في التفسير تجد جملة منها هي من قبيل التفسير باللازم.
وقوله: اجْتَبَاهُ: أي اختاره واصطفاه كقوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ [سورة الأنبياء:51]، ثم قال: وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضيٍّ.
وقوله: وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً: أي جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
الحسنة: الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير هنا قال: أي جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته، هذا من أجمع ما يكون في التفسير، وهذه على كل حال تجدها كثيراً في هذا الكتاب المبارك، أعني تفسير ابن كثير -رحمه الله، فبعضهم يفسر الحسنة وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً يفسرها بالخصلة أو الحالة الحسنة، لكن ليست هذه العبارة في الإبانة كعبارة الحافظ ابن كثير -رحمه الله، بل بعضهم يفسرها بأضيق من هذا، يقول: الحسنة هي الولد الصالح، فإن الله قال: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ [سورة مريم:49]، فيقولون: هذه هي الحسنة.
وكذلك أيضاً بعضهم يقول: الذكر الحسن في الدنيا، وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [سورة مريم:50]، وكذلك الله أخبر عن إبراهيم ﷺ بمثل هذا في مواضع، فالحاصل أن ابن جرير -رحمه الله- يقول: الذكر الحسن هو الحسنة، وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [سورة الشعراء:84]، أي يذكر بالخير، كما هو واقع عبر هذه القرون والأجيال المتعاقبة، وبعضهم فسر ذلك بهذا وهذا، يعني بالولد الصالح والذكر الحسن الجميل، وبعضهم يفسر هذا بالنبوة، وبعضهم يقول: الصلاة عليه في التشهد -عليه الصلاة والسلام، وبعضهم يقول: القبول عند أهل الأديان، فأهل الأديان جميعاً يقبلونه ويعظمونه، ولذلك تجد اليهود يقولون: إنه منهم، والنصارى يقولون: إنه منهم، ولهذا قال الله : مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا [سورة آل عمران:67] والشاهد أن هذه العبارات التي قالها مَن قالها من السلف ليست كعبارة ابن كثير.
الاتباع لإبراهيم ﷺ: بعضهم يقول: في أصل الدين، يعني في التوحيد، والله لما ذكر الأنبياء الذين جاءوا بعده مِن عقبه، فهو أبو الأنبياء -عليه الصلاة والسلام، لما ذكرهم قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام:90]، فالاقتداء بالنسبة لشرائعهم، فالله قال: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [سورة المائدة:48]، فالشرائع مختلفة، وأصل الدين واحد.
فمن أهل العلم من قال: المقصود اتباع إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في التوحيد، وأصل الدين، ومن قالوا: هو الاقتداء به في كل شيء أخذوا من هذا، قالوا: إن النبي ﷺ بعث بالحنيفية، وقالوا أيضاً: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، فما لم ينسخ فنحن مأمورون بالاقتداء به فيه، وبعضهم خص ذلك بالمناسك، وهذا تضييق للمعنى؛ فملة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أوسع من هذا، ولكن في قوله تعالى: وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125] من فسره بغير المقام المعروف قال: مقام إبراهيم مفرد مضاف، يعني مقامات إبراهيم، وذلك باتباعه في المناسك، في منى وعرفة ومزدلفة وما أشبه ذلك.
والمقصود بالمصلَّى يعني المتعبَّد، وبعضهم كابن جرير يقول: الاتباع لإبراهيم ﷺ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا في التبري من المشركين ومن معبوداتهم، والتدين بدين الإسلام، وعلى كلٍّ النبي ﷺ مأمور باتباع ملة إبراهيم ﷺ، والنبي ﷺ بعث بشريعة شاملة كاملة هي أوسع ما شُرِّع وأنزل على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- إمام الحنفاء فيُتّبع في دعوته إلى التوحيد والبراءة من المشركين، ومن معبوداتهم.
فائدة في قول: أبو الأنبياء:
إبراهيم أبو الأنبياء الذين جاءوا بعده، وليس الذين قبله.
ونوح -عليه الصلاة والسلام- يسمونه بآدم الصغير؛ لأن كل البشر الذين جاءوا بعد نوح -عليه الصلاة والسلام- هم من ذريته، وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ [سورة الصافات:77]، وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- الأنبياء الذين جاءوا من بعده كانوا من ذريته، عدا لوط فإنه كان معاصراً له، أما الذين قبله فليس الكلام في هذا، وإنما المقصود أن كل من جاء بعده فهو من ذريته من ولد إسحاق إلا النبي ﷺ، فإن هؤلاء من الكثرة بحيث قيل له: أبو الأنبياء، وليس كل الأنبياء حتى الذين قبله.
- رواه مسلم:1/520) باب أفضل الصلاة طول القنوت، برقم:756) من حديث جابر بن عبد الله -ا.