بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى:
وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [سورة الإسراء:37، 38].
يقول تعالى ناهياً عباده عن التجبر والتبختر في المشية وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً أي: متبختراً متمايلاً مشي الجبارين، إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ أي: لن تقطع الأرض بمشيك، قاله ابن جرير، واستشهد عليه بقول رؤبة بن العجاج:
وقاتمِ الأعماقِ خاوي المُخْتَرَقْ |
وقوله: وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً أي: بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك، بل قد يجازَى فاعل ذلك بنقيض قصده، كما ثبت في الصحيح: بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم وعليه بردان يتبختر فيهما، إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة»[1]، وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه في زينته، وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض.
وقوله: كُلّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهاً أما من قرأ سَيِّئَةً أي: فاحشةً، فمعناه عنده كل هذا الذي نهيناه عنه من قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ إلى هنا، فهو سَيِّئَةٌ مؤاخذ عليها مكروهاً عند الله لا يحبه ولا يرضاه، وأما من قرأ سَيِّئُهُ على الإضافة فمعناه عنده كل هذا الذي ذكرناه من قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [سورة الإسراء:23] إلى هنا فسيِّئه أي فقبيحه مكروه عند الله، هكذا وجّه ذلك ابن جرير -رحمه الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا وفي قراءة أخرى متواترة وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرِحاً على البناء على اسم الفاعل، والمرَح فسر بشدة الفرح، وفسر بالتكبر والتبختر، والخيلاء، وتجاوز الإنسان قدره، وهذه الأقوال متقاربة وليس بينها تنافٍ، فالمشي في الأرض مرحاً بمعنى أنه يمشي مشيةً يتبختر فيها ويتعاظم ويختال.
وليس المقصود من هذا أن الفرح مذموم من كل وجه، فهناك فرح مشروع ومنه قوله – تبارك وتعالى : قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [سورة يونس:58]، ومنه الفرح بنصر الإسلام، وظهور المسلمين فليس هذا مذموماً، بل هو فرح يحبه الله .
وهناك فرح مباح لا يكون مذموماً، ومنه الفرح بالمكاسب الدنيوية، والربح في التجارات، أما الفرح المذموم فهو الذي يحمل على التعاظم والخيلاء، والتكبر، والتجبر والأشَر والبطَر.
فمن فسر قوله –تبارك وتعالى: وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا بشدة الفرح فهو محمول على الفرح المذموم، وقد قال بعض أهل العلم: إن مَرَحًا حال، وقيل: هو مصدر وقع حالاً، أي: ذا مرح، تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا أي مارحاً متلبساً بالكبر والخيلاء.
قوله: إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ [سورة الإسراء:37] أي: لن تقطع الأرض بمشيك، وهذا قول ابن جرير، واستشهد عليه بقول رؤبة بن العجاج: وقاتم الأعماق خاوي المخترقن.
وقال بهذا القول الأزهري، والنحاس، وهو قول مشهور في تفسير الآية، وهو معنىً صحيح في لغة العرب.
فالإنسان الذي يتكبر لن يقطع الأرض بمشيته هذه التي يتبختر بها، فإذا نظرت إليه وهو يمشي من بعيد فتراه كأنه ذرة، فماذا تمثل هذه المشية بالنسبة للأرض؟
وقيل في معنى قوله: إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ أي: لن تنقب الأرض بمشيتك، فحينما يضرب هذا المختال برجله على الأرض فلن يخرقها، وهذا القول له قرينة ترجحه، وهي قوله -تبارك وتعالى: وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً، والآية تحتمل المعنى الأول والثاني، فالمتبختر لن يقطع الأرض بمشيته، ولن يخرقها حينما يضرب بقدمه، فهو لا يمثل شيئاً.
وإذا أردت أن تعرف هذا جيداً، فانظر إلى الناس وأنت في الطائرة، انظر إلى المدن، لا ترى الناس أصلاً؛ لصغرهم، وانظر إليهم من مكان مرتفع في مِنىً وهم يذهبون إلى الجمرات، تراهم كالذر، لا تميز هذا من هذا، لا تميز المتعاظم في نفسه، من غيره، لكن الإنسان ينسى نفسه، ويتكبر على الخلق، فالشاهد أن هذا معنى، والمعنى الآخر صحيح، أي نقب الأرض، وهذا الذي اختاره أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله، واختاره أيضاً من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، ويمكن أن تحمل الآية على الجميع، والله أعلم.
يقول: وقوله: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا، قال: ”أما من قرأ سَيِّئَةً أي: فاحشةً، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً“ وهي قراءة متواترة، ”فمعناه عنده: كل هذا الذي نهينا عنه من قوله: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ إلى هنا فهو سيئة، مؤاخذ عليها، مكروها عند الله، لا يحبه ولا يرضاه، وأما من قرأ سَيِّئُهُ على الإضافة فمعناه عنده: كل هذا الذي ذكرناه من قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ، إلى هنا فسيِّئه أي قبيحه مكروه عند الله، هكذا وجّه ذلك ابن جرير -رحمه الله-“.
فعلى قراءة كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً الأشياء المذكورة في هذه الوصايا، وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة الإسراء:23] إلى آخره، هذه ليست بسيئة، ولهذا حاول العلماء أن يحددوا مرجع اسم الإشارة كُلُّ ذَلِكَ فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: من قوله: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ؛ لأنه أول النواهي، وهذا غير صحيح؛ لأن الله قال قبله: فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا، وقال: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء:29].
فإن قيل: إنما ذكر وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ باعتبار أن تلك يتخللها أوامر، أو جاءت في سياق أوامر، فجاءت تبعاً لها، فيمكن أن يقال: حتى هذه وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى [سورة الإسراء:32] جاء بعدها أيضاً، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [سورة الإسراء:35]، ولهذا فإن بعضهم يقول: هذه تبدأ من قوله: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36]؛ لأن هذه الأشياء كلها التي جاءت بعدها نواهٍ، ما جاء بعدها أمر، فيكون كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً، حينما يمشي الإنسان في الأرض مرحاً.
ومن أهل العلم من يقول: ترجع إلى كل ما سبق، باعتبار أن هذه المنهيات سيئة، وأن الأمر بالشيء يتضمن أو يقتضي النهي عن ضده، فهي بهذا الاعتبار كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً أي: أن أضداد هذه المأمورات وهذه المنهيات أيضاً في نفسها سيئة، وهذا لا يخلو من تكلف، وأما القراءة الأخرى بالإضافة كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا فهذه الوصايا التي تضمنت مأمورات ومنهيات كَانَ سَيِّئُهُ يعني: كالزنا والعقوق والإسراف والتكبر والتبختر وما أشبه ذلك كل هذا مكروه عند الله .
يقول: وَلاَ تَقْتُلُواْ إلى آخره، يقول: ”إلى هنا فهو سيئة، مؤاخذ عليها، مكروهاً عند الله “، مَكْرُوهًا يمكن أن يكون بدلاً من سيئة، كل ذلك كان سيئةً مكروهاً، فيكون بدلاً منه، ويمكن أن يكون خبراً ثانياً لكان، كان سيئةً مكروهاً، وأما على قراءة الإضافة فواضح، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا، ”مكروهاً“ مذكر و”السيئة“ مؤنث على هذه القراءة سَيِّئَةً، مَكْرُوهًا، والسيئة بمعنى الذنب فيمكن أن يكون التذكير باعتبار المعنى، ولا إشكال في هذا، ويمكن باعتبار اسم الإشارة.
الخطاب الموجه للنبي ﷺ في القرآن فيه تفصيل وهو على ثلاثة أنواع، منه ما وجد معه قرينة أن المراد الأمة، والأصوليون كثيراً ما يمثلون بقوله: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ [سورة الطلاق:1]، جاء بصيغة الجمع، لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ إلى آخره، ومنه أيضاً قول الله : وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ [سورة الإسراء:23] والنبي ﷺ لم يكن له من أبويه أحد على قيد الحياة حينما نزلت عليه الآيات، وأحياناً يوجد معه قرينة على إرادة الاختصاص كقوله: خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأحزاب:50]، وأحياناً لا توجد قرينة، فمثل هذا هو موضع الاختلاف، وهذا يقال فيه: إن الأمة مخاطبة به؛ لأن الأمة تخاطَب في شخص قدوتها -عليه الصلاة والسلام.
وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ: ”هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة، ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة، مما أوحينا إليك يا محمد لتأمر به الناس“، والحكمة تقال للإصابة في القول والعمل، وقريب من هذا قول من قال: إنها وضع الشيء في موضعه، وأصل الحكمة المنع في كل الاستعمالات، حِكَم تدور على المنع، فالحكمة صفة وخلّة جميلة تمنع صاحبها من الخطل في الرأي، والخلل، والغلط في القول والعمل؛ ولذلك يقال: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ يعني: من الصفات الكاملة، والأعمال الجميلة، والأخلاق الفاضلة التي لا يتطرق إليها في هذه الوصايا خلل ولا خطل، وإنما هي كمالات أمر الله بها، أو دنايا ورذائل نهى الله -تبارك وتعالى- عنها، فما يقوله الله ويأمر به كله صواب وحق وصدق.
- رواه البخاري، كتاب اللباس، باب من جر ثوبه من الخيلاء (5 / 2182)، برقم (5452)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم التبختر في المشي مع إعجابه بثيابه (3 / 1653)، برقم (2088)، بنحوه.