الجمعة 17 / شوّال / 1445 - 26 / أبريل 2024
[26] من قوله تعالى: {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزّهُم مّنَ الأرْضِ} الآية 105إلى قوله تعالى: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} الآية110
تاريخ النشر: ١٩ / صفر / ١٤٢٩
التحميل: 2410
مرات الإستماع: 2220

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزّهُم مّنَ الأرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مّعَهُ جَمِيعاً [سورة الإسراء: 103] الآيات.

وقوله: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي: يخليهم منها ويزيلهم عنها، فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مّعَهُ جَمِيعاً ۝ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ [سورة الإسراء:103، 104] وفي هذا بشارة لمحمد ﷺ بفتح مكة، مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة، وكذلك وقع، فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها، كما قال تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا [سورة الإسراء:76] الآيتين؛ ولهذا أورث الله رسوله ﷺ مكة فدخلها عنوة على أشهر القولين، وقهر أهلها ثم أطلقهم حلماً وكرماً، كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم، كما قال: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الشعراء:59]، وقال ههنا: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً أي: جميعكم أنتم وعدوكم، قال ابن عباس -ا- ومجاهد وقتادة والضحاك: لَفِيفاً أي: جميعاً.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ قال: ”أي يخليهم منها ويزيلهم عنها“، فهو بمعنى الإخراج، هذا هو المشهور من أقوال المفسرين، كقوله -تبارك وتعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ولكن يرِد على هذا التفسير أن فرعون كان يأبى خروج الإسرائيليين من مصر، ولهذا كان موسى -عليه الصلاة والسلام- يطالبه بأن يرسله معهم؛ لأنه كان يستعبدهم ويمتهنهم ويحملهم الأعمال الشاقة، كما قال الله -تبارك وتعالى- عنه: يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ [سورة الأعراف: 141]، يقتّلون أبناءهم لإضعافهم، ويستحيون نساءهم: يُبقون البنت حية من أجل أن تبقى للخدمة، يستذلونها ويستعبدونها، فموسى -عليه الصلاة والسلام- كان يقوله له: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ [سورة طه:47]، فكان فرعون يمتنع من هذا ويأبى، فما وجه قوله -تبارك وتعالى- هنا: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ؟ هل كان يريد أن يخرجهم منها؟

هم خرجوا كما هو معلوم خفية دون علم فرعون، فلما شعر بهم تبعهم، فمن أهل العلم من نظر إلى هذا المعنى فقال: إن قوله: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ: أي يخليهم منها -من الأرض- بالقتل؛ لأنه بدأ يحرض عليهم إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ۝ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ۝ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [سورة الشعراء:54-56]، فكأنه كان يمهد لها، وقال: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ [سورة غافر:26]، وكذا فعل مع السحرة لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ [سورة الأعراف: 124]، وتوعدهم بالصلب، فمن أهل العلم من فسره بالقتل من أجل هذا الملحظ، -والله تعالى أعلم.

ولو أنه فسر بالاستفزاز كما فسر بالإخراج، استفزاز موسى ﷺ بالتضييق عليه فيضطر إلى الخروج، أو بإخراجه فعلاً، فهم كانوا يضيقون عليهم غاية التضييق كما هو معلوم، أما أن يخرجوهم فعلاً من الأرض فكان هذا مطلوباً لموسى ﷺ، إلا أن يقول قائل: إن الذي طلبه موسى ﷺ هو أن يرسل معه بني إسرائيل، يعني بترك استعبادهم وتركهم يتبعون موسى -عليه الصلاة والسلام- ويعبدون الله ويتبعون شرائعه بدلاً من هذا الاستعباد والاستذلال، مع ادعائه للربوبية أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24]، فطلب منه أن يترك هؤلاء وشأنهم.

قد يقول قائل: إن هذا الذي قصده موسى ﷺ لا الإخراج من أرض مصر؛ لأنهم قد استوطنوها منذ أزمان طويلة من بعدما جاءوا إلى مصر حينما كان يوسف -عليه الصلاة والسلام، وجاء إخوته كما هو معلوم، والله تعالى أعلم.

وقول الله -تبارك وتعالى: وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ [سورة الإسراء:104] عندما خرج بنو إسرائيل من مصر إلى الشام وحصل لهم ما حصل من التيه، المؤرخون يقولون: إنهم ما رجعوا بعد الإغراق، وهذا الذي يدل عليه ظاهر القرآن، أنهم توجهوا إلى الشام وما رجعوا إلى مصر بعد الإغراق واستوطنوها، لكن الله قال في موضع آخر: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الشعراء:59]، وفي الموضع الآخر قَوْمًا آخَرِينَ [سورة الدخان:28]، وهم بنو إسرائيل، والمقصود بالأرض أرض مصر بعدما ذكر إهلاك فرعون، وفي الآية الأخرى قال: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [سورة الأعراف: 137].

فالأرض: من أهل العلم من يقول: مصر والشام، ومنهم من يقول: الشام، ولا يتعارض مع كونهم ذهبوا إلى الشام أن الله أورثهم أرض مصر بحيث صارت تابعة لهم، ومعلوم أن البلاد المصرية كان الناس قبل الإسلام فيها يدينون بالنصرانية، ويوجد طائفة من اليهود، فالقبط هم الذين كانوا يحكمون مصر، وبنو إسرائيل كما هو معلوم هم اليهود والنصارى، إلا أنهم انقسموا بعد بعث عيسى ﷺ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ [سورة الصف:14]، فالذين آمنوا هم الذين عرفوا بعد ذلك بالنصارى، الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى [سورة المائدة:14]، وإلا فكل هؤلاء من بني إسرائيل، الذين كانوا يحكمون مصر كانوا من الإسرائيليين، بمعنى أنهم كانوا نصارى، حتى جاء عمرو بن العاص وفتحها، والمقوقس كان نصرانياً.

فالشاهد أنها بقيت تابعة لهم لكن لا يعني هذا أن موسى ﷺ ومن معه رجعوا وبقوا في أرض مصر، وإنما توجهوا إلى الشام، ومعروف في التاريخ أن مفتاح البلاد المصرية هو الشام، ولذلك الذين يحكمون مصر عبر التاريخ أول ما يحرصون عليه هو وضع اليد على الشام، من أجل أن يؤمنوا البلاد المصرية من الغزو أو الغزاة، فإذا وقعت الشام في أيديهم فهذا هو المفتاح، وُجدت الوحدة بين الشام ومصر حتى في عصور متأخرة، وقبل ذلك وجد التوسع المصري، واحتلال بلاد الشام من قبل أمراء من المصريين تابعين للبلاد، أو للدولة العثمانية، ووقع ذلك لمحمد علي باشا، وكان يطالب الدولة العثمانية دائماً باحتلال مصر، وما نهضت همته لمحاربة الوهابيين كما يسمونهم وإرسال ابنه طوسون في بداية الأمر، ثم بعد ذلك فشل طوسون، وانهزموا، ثم أرسل إبراهيم بجيش من البحر وجيش من البر، ولم يذهب إلا بعدما أعطته الدولة العثمانية عهداً، وعقدت معه عقداً أن تعطيه الشام، فلما وافقوا له بهذا سيّر الجيش، وكانت الدولة العثمانية أضعف من أن تغزو هذه البلاد، كانت في حالٍ من الترهل والضعف.

فالشاهد أن قوله -تبارك وتعالى: اسْكُنُواْ الأَرْضَ يحتمل أن تكون أرض الشام، ويحتمل أن يكون جنس الأرض، يتبوءون منها حيث شاءوا ممكنين، لا يخافون من عدو يستذلهم، ويقتل أبناءهم، ويصرفهم عن طاعة الله .

يقول الله : فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ”أي أنتم وعدوكم جميعاً“، لَفِيفًا تقول: جاء القوم بلفهم ولفيفهم، يعني: أن الله يحشرهم في حال يجمعهم جميعاً، يختلط بعضهم ببعض، المؤمن بالكافر، يُحشر الإسرائيليون والفراعنة وغير هؤلاء من الأمم التي أهلكها الله ، وممن آمن بالرسل وأتباع الرسل، يحشر الجميع مختلطين مؤمنهم وكافرهم، فاللفيف ما اجتمع من أخلاط الناس، وقبائلهم المختلفة، فهم يحشرون مختلطين، لا يتميزون، ولا يكون الحشر لبعضهم دون بعض، لا ينتسب أحد منهم ويأوي إلى قبيلته، أو طائفته، أو أهله أو نحو ذلك أو إلى أهل بلده، فكل إنسان مرتهن بعمله، مطلبه فكاك رقبته، والله المستعان، وإلا فإن المرء يفر من أبيه وأقرب الناس إليه، فلا ينحاز أحد منهم إلى أحد.

وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ مُبَشّراً وَنَذِيراً ۝ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلَىَ مُكْثٍ وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلاً [سورة الإسراء:105، 106].

يقول تعالى مخبراً عن كتابه العزيز -وهو القرآن المجيد- أنه بالحق نزل، أي متضمناً للحق، كما قال تعالى: لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ [سورة النساء:166] أي: متضمناً علم الله الذي أراد أن يطلعكم عليه من أحكامه وأمره ونهيه.

وقوله: وَبِالْحَقّ نَزَلَ أي: ونزل إليك يا محمد محفوظاً محروساً لم يُشَب بغيره ولا زيد فيه ولا نقص منه، بل وصل إليك بالحق، فإنه نزل به شديد القوى الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى، وقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ أي: يا محمد إِلاّ مُبَشّراً وَنَذِيراً مبشراً لمن أطاعك من المؤمنين، ونذيراً لمن عصاك من الكافرين.

وقوله: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ أما قراءة من قرأ بالتخفيف فمعناه فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفرقاً منجماً على الوقائع إلى رسول الله ﷺ في ثلاث وعشرين سنة، قاله عكرمة عن ابن عباس -ا، وعن ابن عباس أيضاً أنه قرأ: فرّقناه بالتشديد أي أنزلناه آية آية مبيناً ومفسراً؛ ولهذا قال: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ أي: لتبلغه الناس وتتلوه عليهم، عَلَىَ مُكْثٍ أي: مهل وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلاً أي: شيئاً بعد شيء.

قوله -تبارك وتعالى: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ أي أنزلناه إنزالاً متلبساً بالحق، وَبِالْحَقّ نَزَلَ أي: نزل متضمناً للحق، وفيه من الحقائق والهدايات والأمور التي يحتاج إليها الناس مما يتوقف عليه مساعدتهم ونجاتهم وفلاحهم، فالله -تبارك وتعالى- جعله تبياناً لكل شيء.

وقوله -تبارك وتعالى: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ، قرآناً هنا منصوبة بفعل محذوف مقدر يفسره ما بعده، أي فرقناه، يقدرون هكذا: وفرقنا قرآناً، وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ، فرقنا قرآناً، قال: ”أما قراءة من قرأ بالتخفيف“، من قرأ بالتخفيف يعني: الراء غير مشددة، فَرَقْنَاهُ هذه قراءة التخفيف وهي القراءة المتواترة، فمعناها فصلناه من اللوح المحفوظ، فَرَقْنَاهُ فصلناه، فرَق بين كذا وكذا بمعنى فصل، فرَق بين الخصوم فصل بينهم، فرَق بين الحق والباطل يعني فصل، هذا وجه.

والمعنى الثاني وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ أي: بيناه وأوضحناه، وفرَقنا فيه بين الحق والباطل، وهذا هو المشهور في معنى فَرَقْنَاهُ قراءة التخفيف، وهو الذي اختاره أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله- وهو إمام في التفسير واللغة والقراءة، ويمكن أن تفسر بهذا وهذا؛ لأن ذلك جميعاً من معنى هذه اللفظة، فما ذكره مستشهداً بقول ابن عباس -ا- قال: فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ثم نزل مفرقاً منجماً.

فالقرآن في اللوح المحفوظ، كما قال الله -تبارك وتعالى: فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [سورة البروج:22]، وكذلك أيضاً في صحفٍ بأيدي الملائكة كما في قوله: فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ۝ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [سورة عبس:13-16]، وكذلك أيضاً نزل إلى بيت العزة من سماء الدنيا، فهذا الأثر عن ابن عباس جاء من طرق متعددة، وهو ثابت صحيح، ومثله لا يقال من جهة الرأي، مثل هذا له حكم الرفع.

فالقرآن فُصل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، في ليلة القدر إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر:1] يعني: أنزلناه إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وكذلك أيضاً أن الله -تبارك وتعالى- أنزله على نبيه ﷺ، فهذه تنزلات أربعة للقرآن:

  • التنزل الأول: في اللوح المحفوظ.
  • التنزل الثاني: إلى بيت العزة.
  • التنزل الثالث: وهو أن الله جعله في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة، وهم الملائكة السفراء بين الله ورسله -عليهم الصلاة والسلام.
  • والتنزل الرابع: وهو نزوله على النبي ﷺ، وعقيدة أهل السنة والجماعة كما هو معلوم أن التنزل الرابع هذا إلى النبي ﷺ لم يكن من بيت العزة، ولا من اللوح المحفوظ، ولا من الصحف التي بأيدي الملائكة، بل من الله مباشرةً، ويدل على هذا حديث التكلم في الوحي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلةً كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، قال: فيقولون يا جبريل ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحق الحق[1].

وكذلك قول الزهري -رحمه الله: ”أحدث آية بالعرش آية الدين“، فلم يقل ببيت العزة في السماء الدنيا، ولا باللوح المحفوظ، وإنما قال بالعرش، فهذه التنزلات لا تنفي عنه أنه متلقًّى من الله مباشرةً، تلقاه جبريل فنزل به، لكن هذا مما يبين شدة عناية الله بهذا القرآن، وعظم هذا القرآن، ومنزلته.

قال: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلَىَ مُكْثٍ، والقراءة الأخرى قرأ بها جماعة من الصحابة فمن بعدهم، عليٌّ وابن مسعود وأبو قتادة، وقرأ بها جماعة من التابعين كالشعبي، لكنها ليست متواترة، قرآناً فرّقناه قال: ”أي أنزلناه آية آية مبيناً مفسراً“، يدل على هذا المعنى قوله: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلَىَ مُكْثٍ يعني: في مدة بقائه ﷺ.

قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوَاْ إِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ يَخِرّونَ لِلأذْقَانِ سُجّداً ۝ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً ۝ وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [سورة الإسراء:107-109].

يقول تعالى لنبيه محمد ﷺ: قُلْ يا محمد لهؤلاء الكافرين بما جئتهم به من هذا القرآن العظيم آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوَاْ أي: سواء آمنتم به أم لا، فهو حق في نفسه أنزله الله ونوّه بذكره في سالف الأزمان في كتبه المنزلة على رسله، ولهذا قال: إِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ أي: من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم ويقيمونه ولم يبدلوه ولا حرفوه إِذَا يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ هذا القرآن يَخِرّونَ لِلأذْقَانِ جمع ذقن وهو أسفل الوجه سُجّداً أي: لله شكراً على ما أنعم به عليهم من جعله إياهم أهلاً أن أدركوا هذا الرسول الذي أنزل عليه هذا الكتاب؛ ولهذا يقولون: سُبْحَانَ رَبّنَا أي: تعظيماً وتوقيراً على قدرته التامة وأنه لا يخلف الميعاد الذي وعدهم على ألسنة الأنبياء المتقدمين عن بعثة محمد ﷺ؛ ولهذا قالوا: سُبْحَانَ رَبّنا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً.

وقوله: وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ أي: خضوعاً لله وإيماناً وتصديقاً بكتابه ورسوله وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أي: إيماناً وتسليماً، كما قال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [سورة محمد:17]، وقوله: وَيَخِرّونَ عطْف صفة على صفة، لا عطف السجود على السجود.

قوله -تبارك وتعالى: إِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ الضمير الهاء يرجع إلى القرآن، أي: من قبل أن ينزل القرآن، وبعضهم يقول: مِن قَبْلِهِ أي: من قبل النبي ﷺ، والمقصود أهل الكتاب، وعلى الخصوص أهل الإيمان منهم، إِذَا يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ يَخِرّونَ لِلأذْقَانِ سُجّداً، والذقن هو مجمع اللحيين كما هو معلوم، وخصه بالذكر هنا بالسجود؛ لأنه أول ما يقرب من الأرض إذا سجد الإنسان، فحينما يسجد الإنسان لا يبدأ أول ما يبدأ بالجبهة ثم ينزل، وإنما ينزل ثم يضع جبهته، وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ هذه صورة الساجد.

ومن أهل العلم من يقول: إنه ذكر الأذقان على الخصوص والمقصود بذلك شدة الخضوع بتعفير اللحية حيث يقع ذلك من الساجد على الأرض، لأن لحيته تكون ملامسة الأرض، ولكن المعنى الذي ذُكر هو الذي ذكره الله تعالى: وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ أي أن هذه هيئة من سجد، وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ.

في البداية قال: يَخِرّونَ لِلأذْقَانِ سُجّداً، وفي الثانية قال: وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ، يعني الخرور الأول ذكر فيه سجودهم، ثم ذكر بعد ذلك خشوعهم، فالأول ذكر فيه الخضوع وهو السجود والتذلل لله رب العالمين، وذلك بتعفير الوجه في الأرض، وهو أشرف شيء في الإنسان يكون أدنى شيء منه، حيث يستوي مع قدميه، ولهذا كان الكفار يأنفون ويستنكفون من السجود، أشرف شيء يوضع على الأرض –الوجه، فهيئة السجود أكبر هيئة تذلل، لكن الناس ألفوها؛ لذا فهم لا يستشعرونها، ولا توجد هيئة أعظم من هذه الهيئة، لكنها صارت مألوفة، وكذلك الركوع، فلو رأيت أناساً يقفون أمام مخلوق بهذه الطريقة فإن هذا مشهد ينخلع له القلب، ويقف له شعر الرأس، فكيف إذا سجدوا لمخلوق؟ كل يوم نحن نفعل هذا لله ، ولكن لا نستشعر، وإلا فهو مشهد هائل عظيم، لو استشعرناه وحده دون قول نقوله أو قراءة نسمعها لكان كافياً لخشوع القلب وخضوعه، وصلاح حال العبد، وحيائه من الله ، ومراقبته له، يكفي أن يضع وجهه على الأرض، فتستقيم جميع أحواله، لكن ما نستشعر هذا، وإلا فهذا الذي قد أذل وجهه على الأرض كيف يستطيع أن يعصيه، وأن يكابره، وأن يستهزئ بشعائره وبأوليائه، ويستنكف مما لا تهواه نفسه؟!

قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرّحْمَنَ أَيّاً مّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَىَ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ۝ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي لَمْ يَتّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لّهُ وَلِيّ مّنَ الذّلّ وَكَبّرْهُ تَكْبِيراً [سورة الإسراء:110، 111].

يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله ، المانعين من تسميته بالرحمن ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرّحْمَنَ أَيّاً مّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَىَ أي: لا فرق بين دعائكم له باسم الله أو باسم الرحمن، فإنه ذو الأسماء الحسنى، كما قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [سورة الحشر:24]، إلى أن قال: لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة الحشر:24] الآية.

وقد روى مكحول أن رجلاً من المشركين سمع النبي ﷺ وهو يقول في سجوده: يا رحمن يا رحيم[2] فقال: إنه يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو اثنين!، فأنزل الله هذه الآية، وكذا روي عن ابن عباس -ا، رواهما ابن جرير.

قوله: ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرّحْمَنَ أَيّاً مّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَاءَ الْحُسْنَىَ، اختلف أهل العلم: هل المقصود بادعوا: التسمية، أو المقصود به الطلب والدعاء، والمعروف المتبادر أن الدعاء يطلق على هذا وهذا، فيقال: فلان هذا يُدعَى بكذا، الرجل الذي يدعى بكذا، يعني يُسمَّى بكذا، تقول: المدعو فلان، يعني الذي يسمى بفلان، وتأتي بمعنى الطلب، يدعو ربه، يعني يسأل ربه، اسألوا الله -تبارك وتعالى- باسمه الله أو باسمه الرحمن، يا الله يا رحمن، فأكثر أهل العلم يقولون: الدعاء هنا بمعنى السؤال والطلب، وبعضهم قال: التسمية، وهذا قاله بعض الناس، ولا أعلم أحداً من السلف سبقه إليه، ولا عبرة بكلامه، وهذا المعنى تحتمله الآية.

لكن من أهل البدع من يفسرون القرآن بمقتضى اللغة، دون أي اعتبار آخر، فقوله: ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرّحْمَنَ أي: اسألوا الله، يعني اسألوه باسمه الله أو باسمه الرحمن، أَيّاً مّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَاءَ الْحُسْنَىَ، وحينما يُدعَى بهذه الأسماء فإن هذا الدعاء بمعنى الطلب مقتضٍ للتسمية؛ لأن الله ذكر الاسمين، فلا تفسر الآية بمجرد التسمية ادْعُواْ بمعنى سموه بالرحمن أو سموه الله، فإنه واحد لا شريك له، تبارك وتعالى، وهذه من أسمائه، له أسماء حسنى، ونحن إذا فسرناه بالدعاء بمعنى السؤال ادْعُواْ أي: اسألوه، سواءً سألتموه باسمه الله أو باسمه الرحمن فإنكم تسألون إلهاً واحداً، هذه من أسمائه، لا تسألون آلهة متعددة كما كان يظنه أو يزعمه أهل الإشراك، لمّا سمعوا النبي ﷺ يدعو، وهذا الحديث الذي ذكره هنا رواه مكحول وهو مرسل، والمرسل من أقسام الضعيف.

وقوله -تبارك وتعالى: قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى، كأن تقدير الكلام هكذا: أياً ما تدعوا فهو حسن، لكنه وضع مكان فهو حسن فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى، كأن ذلك للدلالة أو المبالغة، وإذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان، قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ، فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ومن ضمن هذه الأسماء الحسنى: الله والرحمن، فلو قال: قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ فكل ذلك حسن، فالمعنى واضح، لكن لو قال: فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى، فهذا الاسمان ”الله والرحمن“ اسمان حسنان، ولكنه جاء بما هو أبلغ من هذا فقال: فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى كل أسمائه حسنى، وليس فقط الله والرحمن، لكن دل على حسنهما هذا العموم فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى.

والمقصود بكونها حُسنى أي: البالغة في الحسن غايته، هذا الحسن يشمل حسن الألفاظ، فليس في شيء من هذه الأسماء ما لفظه مستبشع أو ثقيل على الأسماع أو نحو ذلك، ويدخل فيه حُسن المعاني التي تضمنتها، الصفات.

  1. رواه البخاري معلقاً في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سورة سبأ:23] ولم يقل ماذا خلق ربكم؟، ووصله أبو داود، كتاب السنة، باب في القرآن، برقم (4738)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (437).
  2. رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (17/580).

مواد ذات صلة