بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا[سورة مريم:73، 74].
يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان أنهم يصدون ويعرضون عن ذلك ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم خَيْرٌ مّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً أي: أحسن منازل وأرفع دوراً وأحسن ندياً، وهو مجتمع الرجال للحديث أي: ناديهم أعمر وأكثر وارداً وطارقاً، يعنون: فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل؟
وأولئك الذين هم مختفون مستترون في دار الأرقم ابن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق كما قال تعالى مخبراً عنهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [سورة الأحقاف:11].
وقال قوم نوح: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [سورة الشعراء:111]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [سورة الأنعام:53].
ولهذا قال تعالى راداً على شبهتهم: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي: وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا أي كانوا أحسن من هؤلاء أموالاً ومناظر وأشكالاً وأمتعة.
قال الأعمش وعن أبي ظبيان عن ابن عباس -ا- خَيْرٌ مّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً قال: المقام المنزل، والنَّدِيُّ: المجلس، والأثاث: المتاع، والرئي: المنظر، وقال العوفي عن ابن عباس -ا: المقام: المسكن، والنَّديُّ: المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها، وهو كما قال الله لقوم فرعون حين أهلكهم وقص شأنهم في القرآن: كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ [سورة الدخان:25، 26].
فالمقام: المسكن والنعيم، والنَّديُّ والمجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه، وقال تعالى فيما قص على رسوله من أمر قوم لوط: وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [سورة العنكبوت:29]. والعرب تسمي المجلس النادي.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَيّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً، خَيْرٌ مَّقَاماً هذه الكلمة فيها قراءتان متواترتان، قرأها ابن كثير بضم الميم، خَيْرٌ مُّقَاماً، وقراءة الجمهور: خَيْرٌ مَّقَاماً، وبعض أهل العلم يقول: إن القراءتين بمعنى واحد، وبعضهم يقول: إن قراءة الضم: خَيْرٌ مُّقَاماً أي مكان الإقامة.
وقراءة الفتح: خَيْرٌ مَّقَاماً يعني: منزلةً ومسكناً، وقوله: أَيّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً فسره فقال: المقام: هو المسكن والنعيم، والندي: المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه، وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [سورة العنكبوت:29]، يعني: النادي وهو المكان أو المنتدى، أو المجلس الذي يجتمعون ويجلسون فيه.
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا، والقرن مضى الكلام عليه، ويقول: أي وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم فالمتعاصرون أهل الزمان الواحد يقال لهم: قرن، وإن اختلف العلماء في تحديد القرن من حيث السنين، فتجدون الكلام في هذا في غير كتب اللغة، وتجدونه أيضاً في شرح قوله ﷺ: خير القرون قرني[1] ما المراد به هل يحد بأربعين سنة أو أكثر.
وقوله -تبارك وتعالى: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا، يقول: أي: كانوا أحسن من هؤلاء أموالاً ومناظر وأشكالاً وأمتعة، والأثاث: بعضهم يفسره بالمال بأنواعه من الدواب والأرقاء المماليك، والفرش، والمتاع، وبعضهم يفسره بمتاع البيت خاصة، وهذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، وهذا هو المستعمل في عرفنا، ولكنا عرفنا -كما هو معلوم- لا يفسر به القرآن؛ لأنه قد يكون من الأعراف الحادثة، والقاعدة: "أن القرآن لا يفسر بعرف حادث"، وبعضهم يفسر ذلك بالجديد من الفرش، وبعضهم يفسره باللباس خاصة، وهذا أبعد هذه الأقوال، والله تعالى أعلم.
يقول: وَرِئْيًا، رئياً في قراءة نافع وابن عامر: وريًّا، من غير همز، وقراءة الجمهور: ورئياً، بالهمزة، وبعض أهل العلم يقولون: إن قراءة ابن عامر ونافع من قبيل التسهيل للهمز، بمعنى أن القراءتين ترجعان إلى شيء واحد، أي: ريًّا سهلت فيها الهمزة فقط، وإلا فهي كلمة رئيا، وهذا رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، وبعضهم فرق بين القراءتين في المعنى، ففسر قراءة رئيا بالهمز بأنه المنظر والهيئة وما تراه العيون، فزادوا على غيرهم فيه وكانوا أحسن من هؤلاء كما زعموا، وقراءة: وريًّا أن ذلك يقال: للارتواء والحسن، تقول: فلان ريان، أو مرتوي من ماء الحياة، أو من الشباب أو من النظارة، أو نحو ذلك، يعني أن العافية والنعمة قد ظهر أثرها على أبدانهم، أما أولئك فيظهر عليهم من الضعف والشحوب كما قال الله عن فقراء المهاجرين: تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ [سورة البقرة:273].
وأحسن ما فُسِّر به والله أعلم ما ذكره ابن جرير -رحمه الله- تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ: أي: ما يظهر على وجوههم وعلى هيئتهم ولباسهم من الشحوب والضعف الذي يدل على حاجتهم وفقرهم، فالإنسان يعرف بهيئته إذا كان مريضاً، أو كان خائفاً، أو كان مكتئباً، أو كان مجهداً، فالوجه مرآة يظهر عليه ما بحال الإنسان، وإن كان هذا الظهور يتفاوت، فأهل الفراسة يعرفون ما لا يعرف غيرهم، سواء كان ذلك بطريق الصناعة والمعرفة والخبرة، أو كان ذلك مما يعطيه الله لهم هبةً، لذلك تجد الذين يُطَبِّبون بطب غير الطب الحديث، إنما الطب الذي كان من قرون متطاولة، ولا زال في بعض البلاد في المشرق يعرفون من الوجه ومن الكف علل الإنسان.
فمن العين يعرف هذا الإنسان ما به، ويحدده بدقة، -وليس مثل أصحاب الدورات الذين يقولون: من توقيعك أعرفك، ومن خطك، هذا الكلام لا قيمة له، هؤلاء خرَّاصون- بل هذا علمٌ يدرس، فمثلا: إذا كان البياض من الناحية اليمنى عند دائرة السواد فهذا يعني كذا، وإذا كان في الجهة اليسرى فهذا يعني كذا، وإذا كان أعلى فهذا يعني كذا، وإذا كان أسفل.. وإذا كان دائرة لونها كذا فهذا يعني كذا من العلل... إلخ، فيخبرك بدقة، وهكذا يُعرف ما عند الإنسان من فرح أو حزن من وجهه، وهذا يظهر لكل أحد، فالشاهد: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا بعضهم يقول: أبشارهم وأجسادهم مرتوية من الشباب والنظارة، كما قال الله عن المنافقين:إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [سورة المنافقون:4]، فأجسامهم في غاية النظارة والحسن.
فرئيا: ما تراه العيون من الحسن في اللباس والهيئة، والمنظر، وفي قراءة غير متواترة قرأ بها بعض الصحابة وبعض التابعين كابن عباس وأبي بن كعب وسعيد ابن جبير وزِيَّا بالزاي، هم أحسن أثاثاً وزيا، والمقصود بالزي يعني الهيئة الحسنة.
قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا [سورة مريم:75] يقول تعالى: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم المدعين أنهم على حق وأنكم على باطل: مَن كَانَ فِي الضّلاَلَةِ، أي: منا ومنكم فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرّحْمَنُ مَدّاً، أي: فأمهله الرحمن فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله.
حَتّىَ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمّا العَذَابَ، يصيبه وَإِمّا السّاعَةَ بغتة تأتيه فَسَيَعْلَمُونَ، حينئذ مَنْ هُوَ شَرّ مّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً، في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندى، وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه، كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في قوله: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة الجمعة:6]، أي: ادْعُوا بالموت على المبطل منا أو منكم إن كنتم تدَّعون أنكم على الحق؛ فإنه لا يضركم الدعاء، فنكلوا عن ذلك، وقد تقدم تقرير ذلك في سورة البقرة مبسوطاً، ولله الحمد، وكما ذكر تعالى المباهلة مع النصارى في سورة آل عمران حين صمموا على الكفر واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد الله، وقد ذكر الله حججه وبراهينه على عبودية عيسى، وأنه مخلوق كآدم عليهما السلام، قال تعالى بعد ذلك: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [سورة آل عمران:61]. فنكلوا أيضاً عن ذلك.
قوله -تبارك وتعالى: قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا هذه الآية تحتمل معنيين: أن يكون المراد بذلك الدعاء، وهذا ظاهر ما مشى عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى، فظاهر كلامه أنه يختار هذا، ولذلك ذكر المباهلة وإلا فإن كلامه في الأول يحتمل، إلا أن كان في الأصل فرق مؤثر.
هو يقول هنا: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم... إلى أن قال: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا أي: فأمهله الرحمن فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله، هذا الكلام يحتمل أن يكون يقصد به الدعاء أو يقصد به الإخبار، فالآية تحتمل أن تكون من قبيل الدعاء: فليمدد، واللام لام الأمر، لام الطلب، فيحتمل أن يكون ذلك من قبيل الدعاء، يدعى عليه من كان في الضلالة أن يمدد له الرحمن مدا، ويحتمل أن يكون ذلك من قبيل الإخبار.
وهذه إن كان المراد به الخبر: قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا، والصيغة ليست صيغة خبرية، وإنما هي صيغة إنشائية بلام الأمر، فيكون من قبيل الإنشاء الذي أريد به الخبر، وإن جاء بصيغة الطلب أو الأمر تحقيقاً وتأكيداً لمقتضى الخبر، ولبيان الإمهال، وهذا الإمهال في قوله: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا من باب الاستدراج له أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ [سورة المؤمنون:55، 56]، وعلى كل فهذا الخبر الذي بصيغة الأمر مؤكد لمضمون الخبر، هذا عند من فسره بأن المراد به خبر وليس بدعا، فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا أكد هذا الإمهال بأن أخرجه مخرج الأمر، استدراجاً له؛ ليزداد في غيه، وبعضهم يقول: تأكيداً لمقتضى هذا الإمهال للعصاة من ما يدل على حلمه -تبارك وتعالى- وأنهم قد يتوبون، لكن الاستدراج أقرب إذا فسر ذلك بأنه خبر.
والمعنى الثاني: أن ذلك من قبيل الدعاء يدعى على من كان في الضلالة بهذا، فليمدد له الرحمن مدا، ولهذا ذكر الحافظ بن كثير -رحمه الله- هنا المباهلة، يعني أن الله يمهله ويملي له؛ ليزداد في غيه وكفره وباطله حتى إذا لقي الله -تبارك وتعالى- عندئذٍ يعلم من المحق، يعلم المحق من المبطل، ومن هو أضعف ناصراً وأقل عدداً.
ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا.
وفي قراءة لأبي: "قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة"، وهذه القراءة تشهد بتفسيره بالخبر، ونحن عرفنا قبلُ أن القراءة الآحادية تفسر القراءة المتواترة.
قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا، يزيده ضلالة، وإن فسره بالاستدراج وطول العمر فيرجع إلى هذا لأنه يملي له ليزداد، إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا [سورة آل عمران:178]، وكما قال الله : وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة القلم:45].
قوله: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى هذا دليل لأهل السنة والجماعة على أن الإيمان يزيد وينقص، وللأسف توجد في بعض كتب التفسير المنتسبة إلى السنة، التي يعد أصحابها من أهل السنة بعض العبارات التي راجت عليهم من أهل البدع، يقول: ويزيد الله الذين اهتدوا هدى يقول: أي بالأعمال، يفسره بذلك فقط.
وهذا قول المرجئة، والطوائف الذين يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ويقولون: إنما زيادته بزيادة متعلقاته، فالإيمان يزيد وينقص، والآيات مصرحة بهذا وهي كثيرة، وهذه واحدة منها والله يقول: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [سورة التوبة:124]، وقال: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا [سورة الفتح:4]، فالإيمان يزيد وينقص، بل قد يتلاشى من قلب الإنسان، وأبو بكر إنما فاق غيره، وتقدم على بقية أصحاب النبي ﷺ بشيء وقر في قلبه، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا الباقيات الصالحات: المقصود بها ما يبقى مما يلقى الإنسان ثوابه عند الله -تبارك وتعالى- من الذكر والتسبيح والتحميد والتهليل، وما أشبه ذلك، وهكذا الأعمال الصالحة التي يعملها الإنسان بجوارحه، كل هذا من الباقيات الصالحات فيفسر بهذا وهذا.
وما ذكره السلف كما ذكرنا هنا إنما هو من قبيل التفسير بالمثال، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا، يعني خير مما يتنافس هؤلاء المتنافسون، ويفتخرون به أنهم أحسن أثاثاً ورئيا، أحسن مقاماً وناديا.
العاص بن وائل هذا والد عمر بن العاص .
فقال: لا والله، لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد ﷺ حتى تموت ثم تبعث. قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثمَّ مال وولد فأعطيتك، فأنزل الله: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا إلى قوله: وَيَأْتِينَا فَرْدًا أخرجه صاحبا الصحيح[3] وغيرهما.
وفي لفظ البخاري: كنت قيناً بمكة فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه فذكر الحديث، وقال: أَمِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمَنِ عَهْداً قال: موثقاً.
أَطّلَعَ الْغَيْبَ إنكار على هذا القائل: لاُوتَيَنّ مَالاً وَوَلَداً يعني يوم القيامة، أي: أعلم ما له في الآخرة حتى تألَّى وحلف على ذلك أَمِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمَنِ عَهْداً أم له عند الله عهد سيؤتيه ذلك، وقد تقدم عند البخاري أنه الموثق.
وقوله: كَلاّ هي حرف ردع لما قبلها، وتأكيد لما بعدها سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ أي: من طلبه ذلك وحكمه لنفسه بما يتمناه وكفره بالله العظيم، وَنَمُدّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً، أي: في الدار الآخرة على قوله ذلك وكفره بالله في الدنيا، وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ، أي: من مال وولد نسلبه منه عكس ما قال: إنه يؤتى في الدار الآخرة مالاً وولداً زيادة على الذي له في الدنيا، بل في الآخرة يسلب منه الذي كان له في الدنيا، ولهذا قال تعالى: وَيَأْتِينَا فَرْداً، أي: من المال والولد.
قوله: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا بعض المفسرين يقولون: إنه أراد بذلك أنه يؤتى في الدنيا، وهذا بعيد، وسبب النزول يدل على أن المراد الآخرة، فهو يقول له: "لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد" ثم بعد ذلك، قال له كما في بعض الروايات: "فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيتك" فهو يقصد في الآخرة، قاس الآخرة على الدنيا، فبما أنه أعطي في الدنيا فهو يقول: لئن رددت إلى ربي سأجد مثل ذلك وأفضل منه في الدار الآخرة.
قوله -تبارك وتعالى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا؟ الجواب في كل واحدة منهما: أنه لم يطلع على الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهداً، وهو إنما يسوغ أن يقول ما قال بإحدى هاتين: إما أن يكون قد علم ما في الغيب، بعضهم يقول: أي اطلع على اللوح المحفوظ، وعلى كلٍّ: اطلع الغيب: يعني: على ما يكون له في المستقبل في الآخرة، فهو لم يطلع على الغيب، ولم يتخذ عند الله عهداً، والعهد هو الوعد المؤكد، وهذا هو الفرق بين العهد والوعد، أن الوعد المؤكد يقال له: عهد، واليهود حينما قالوا: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80]، رد الله عليهم بقوله: أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:80].
كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا، بعضهم يقول: نَرِثُهُ مَا يَقُولُ يعني: نسجل عليه مقالته، ثم نوافيه بها بعد ذلك، وهذا بعيد، وإنما حملهم على ذلك هو قوله -تبارك وتعالى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ، فظاهر ذلك قد يفهم منه أنه يورث القول، لكن الأقرب الذي عليه عامة المفسرين: نَرِثُهُ مَا يَقُولُ يعني: ما يقول بأنه أوتيه ويترفع به من المال والولد، حيث يظن أنه سيعطى ذلك في الآخرة فالذي حصل له من ذلك في الدنيا فإن الله يسلبه إياه، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا [سورة مريم:40]، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً، كما قال الله : كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104]، يحشر الناس حفاة عراة غرلا[4]، فلا يأتي بماله ولا بولده، ولا بعشيرته وحشمه وخدمه وما إلى ذلك، وَيَأْتِينَا فَرْدًا أي: ليس معه شيء من ذلك.
- مسند البزار: (2/149) برقم: (4508)، بهذا اللفظ، وأصله في البخاري بلفظ: خيركم قرني... (2/938) برقم: (2508)، وخير أمتي قرني...، و(3/1335) برقم: (3450) وخير الناس قرني... (3/1335) برقم: (3451)، وفي مسلم: بلفظ: خير أمتي القرن الذين يلوني... (4/1962) برقم: (2533) ونحو ما في البخاري.
- مسند أحمد بن حنبل: (34/553) برقم: (21075)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا: برقم: (4456)، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب سؤال اليهود النبي ﷺ عن الروح وقوله تعالى: يسألونك عن الروح الآية برقم: (2795).
- رواه أحمد: (3/418) برقم: (1949)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، ومسلم بلفظ: " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا" كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، برقم (2859).