الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(10) مواصلة الممارسات التي تصدُر من بعض المسلمين تؤدي إلى تمزيق الصف وتشتيت الشَّمل وتفريق الأمة وذكر الأسباب الخارجية التي أدت إلى الاختلاف المذموم وماذا نتج عن الاختلاف
تاريخ النشر: ٠٩ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 8892
مرات الإستماع: 2326

المقطع المرئي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فنواصل الحديث عن هذه الأسباب التي قد يجمع جملةً منها ما ذكره جمع من أهل العلم، كابن قتيبة حينما تدبر ذلك، وأمر بتدبره فيما يتصل بمقالات أهل الكلام.

يقول: "فوجدتهم يقولون ما لا يعلمون، ويفتنون الناس بما يأتون، ويبصرون القذى في عيون الناس، وعيونهم تطرف على الأجذاع، ويتهمون غيرهم في النقل، ولا يتهمون آراءهم في التأويل، ومعاني الكتاب والحديث".

إلى أن يقول: "ولو ردوا المشكل منهما إلى أهل العلم بهما لاتضح لهم المنهج، واتسع لهم المخرج، ولكن يمنع من ذلك طلب الرياسة، وحب الأتباع، واعتقاد الإخوان بالمقالات، والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضًا، ولو وُجد لهم من يدعي النبوة أو الربوبية لوَجد على ذلك أتباعًا وأشياعًا ..."[1]، إلى آخر ما قال.

من هؤلاء العلماء ابن عبد البر -رحمه الله- تكلم على هذا، وتكلم على من يقع في أهل العلم.

كناطحٍ صخرةً يومًا ليوهنها فلم يَضِرْها وأوهى قرنَه الوعِلُ
يا ناطحَ الجبلِ العالي ليكْلِمَه أشفِقْ على الرأسِ لا تُشفق على الجبلِ

وهكذا قول من قال :

ومن ذا الذي ينجو من الناس سالمًا وللناسِ قالٌ بالظنون وقيلُ

لا يسلم أحد، وكل ذلك بالظنون.

يقول ابن عبد البر: "فقد رأينا الباطلَ والبغي والحسدَ أسرَعَ الناسُ إليه -هذه شكوى ابن عبد البر في زمانه- ألا ترى إلى قول الكوفي في سعد بن أبي وقاص : إنه لا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية، ولا يقسم بالسوية، وسعد بدري، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين جعل عمر بن الخطاب الشورى فيهم، وقال: توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راضٍ.

يقول ابن عبد البر: "والله لقد تجاوز الناس الحد في الغيبة والذم، فلم يقنعوا بذم العامة دون الخاصة، ولا بذم الجهال دون العلماء، وهذا كله يحمل عليه الجهل والحسد"[2].

ما رأى ابن عبد البر -رحمه الله- هذا العصر ووسائل التواصل التي بأيدي الناس، وكيف تفرى الأعراض، أعراض أهل العلم والفضل.

يقول ابن عبد البر: "فمن أراد أن يقبل قول العلماء الثقات الأئمة الأثبات بعضهم في بعض -يعني ما كان خارجًا على وجه الذم بسبب الحسد- فليقبل قول من ذكرنا قوله من الصحابة - أجمعين- بعضهم في بعض، فإنْ فعل ذلك ضل ضلالًا بعيدًا، وخسر خسرانًا، وكذلك إن قبل في سعيد بن المسيب قول عكرمة، وفي الشعبي، وأهل الحجاز، وأهل مكة، وأهل الكوفة، وأهل الشام على الجملة، وفي مالك، والشافعي وسائر من ذكرناه في هذا الباب، فإن لم يفعل، ولن يفعل..".

يعني: إن كان سيُسقط هؤلاء جميعًا ويصدق ما قيل فيهم.

يقول: "ولن يفعل إن هداه الله وألهمه رشده فليقف عند ما شرطنا في أن لا يقبل فيمن صحت عدالته، وعُلم بالعلم عنايته، وسلم من الكبائر، ولزم المروءة والتصاون، وكان خيره غالبًا، وشره أقل عمله فهذا لا يُقبل فيه قول قائل لا برهان له به، وهذا هو الحق الذي لا يصح غيره -إن شاء الله"[3].

هذا كلام الحافظ ابن عبد البر، كلام الناس بالظنون، كل من أخطأ رميناه عن قوس واحدة، هذا غير صحيح، ولو أفتى بفتيا تخالف ما عهدنا، وتعودنا أو نحو ذلك من الأخطاء.

يقول ابن عبد البر: "ومن صحبه التوفيق أغناه من الحكمة يسيرها، ومن المواعظ قليلها، إذا فهم واستعمل ما علم"[4].

يعني: ينتفع بما يسمع ولو قلّ، ونحن نورد في هذه المجالس الطويلة كلام أهل العلم لعل ذلك يكون واعظًا لقلوبنا.

وهكذا نجد في مثل كتاب "غاية الأماني" ذكر جملة تشبه ما ذكره المعلمي اليماني -رحمه الله- في كتابه "التنكيل"، الذي أُفرد ذلك الجزء منه في كتاب "القائد إلى تصحيح العقائد".

فمما جاء في غاية الأماني نقلًا عن بعض أهل العلم كالحافظ ابن القيم -رحمه الله: من الأسباب التي تمنع من قبول الحق ذكر منها: الجهل به.

قال: "وهذا هو السبب الغالب على أكثر النفوس، فإن من جهل شيئًا عاداه وعادى أهله، فإن انضاف إلى هذا السبب بغض من أمره بالحق، والعداوة له والحسد كان المانع من قبول الحق أقوى، فإن انضاف إلى ذلك الإلف والعادة والمربأ ما نشأ عليه آباؤه، ومن كان يحبه ويعظمه قوي المانع، فإذا انضاف إلى ذلك ما يتوهمه من أن الحق الذي دُعي إليه يحول بينه وبين جاهه وشهواته وأغراضه قوي المانع عن القبول، فإن انضاف إلى ذلك الخوف من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه، كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد النبي ﷺ وكما نرى كثيرًا ممن ينتسب إلى العلم... ". إلى آخره.

يقول: "مثل هؤلاء قد يتجنبون الحق، واتباع السنة مع علمهم به، ولكن منعهم الخوف على جاههم، أو مالهم، أو أنفسهم، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16]، فإذا كان الأمر على ما ذكر ازداد المانع من قبول الحق قوة، فإن هرقل عرف الحق، وهم بالدخول في الإسلام، فلم يطاوعه قومه وخافهم على نفسه، واختار الكفر على الإسلام بعدما تبين له الهدى...". إلى آخره.

يقول: "ومن أعظم هذه الأسباب الحسد"[5]، وذكر جملة مما يورثه الحسد، وقد تكلمنا على ذلك.

وهكذا أيضًا ما ذكره ابن الجوزي -رحمه الله- في كتابه: "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" لما ذكر الباطنية وعقائد الباطنية، وأفعال الباطنية الشنيعة، وكيف كانوا يدخلون في البلدة ليلًا، ويقتلون ثلاثين ألفًا، في ليلة واحدة من الأطفال والرجال والنساء، وذكر خزعبلات الباطنية، وعقائد لا يمكن أن تقبلها الحيوانات.

يقول: "فإن قال قائل: مثل هذه الاعتقادات الركيكة، والحديث الفارغ، كيف يخفى على من يتبعهم، ونحن نرى أتباعهم خلقًا كثيرًا؟".

يقول: "فالجواب: أن أتباعهم أصناف: فمنهم قوم ضعفت عقولهم، وقلت بصائرهم -السبب الذي ذكرناه- وغلبت عليهم البلادة والبله، ولم يعرفوا شيئًا من العلوم، كأهل السواد، والأكراد، وجفاة الأعاجم، وسفهاء الأحداث".

سفهاء الأحداث يعني: الناشئ الصغير.

"فلا يستبعد ضلال هؤلاء، فقد كان خلق ينحتون الأصنام ويعبدونها، ومِن أتباعهم: طائفة انقطعت دولة أسلافهم بدولة الإسلام كأبناء الأكاسرة والدَّهّاقين وأولاد المجوس، فهؤلاء موتورون قد استكنّ الحقد في صدورهم، فهو كالداء الدفين، فإذا حركتْه تخائيل المبطلين اشتعلت نيرانهم".

يعني بمجرد ما يجد فرصة تحت أي لَبوس فإنه يَثِب يريد الانتقام.

يقول: "ومن أتباعهم: قوم لهم تطلع إلى التسلط والاستيلاء، ولكن الزمان لا يساعدهم، فإذا رأوا طريق الظفر بمقاصدهم سارعوا إليه".

يعني يركب مركبًا ولو كان في غاية البطلان، مادام أنه يوصله أنه يتسلط، ويكون عنده مجموعة يأمر وينهى، له أتباع، يحقق طموحًا عنده بعد أن كان خاملًا لا يصلح لا في عمل دنيا، ولا في عمل آخرة، فيجد بغيته في تحقيق طموحه، فعند ذلك يمكن أن يسارع في مثل هذه الضلالات.

يقول: "ومن أتباعهم: قوم جُبلوا على حب التميز عن العوام، فزعموا أنهم يطلبون الحقائق، وأن أكثر الخلق كالبهائم، وكل ذلك لحب النادر والغريب". الأشياء الشاذة.

يقول: "ومن أتباعهم: ملاحدة الفلاسفة، الذين اعتقدوا الشرائع نواميس مؤلفة، والمعجزات مخاريق مزخرفة، فإذا رأوا من يعطيهم شيئًا من أغراضهم مالوا إليه، ومن أتباعهم: قوم مالوا إلى عاجل اللذات، ولم يكن لهم علم، ولا دين، فإذا صادفوا من يرفع عنهم الحجْر مالوا إليه"[6].

لأن الباطنية يقولون: لا فرق بين الأخت والأجنبية، وإذا كبسوا بلدًا فالكل حلال، يفجرون بالغلمان، ويفجرون بالنساء، وينهبون الأموال، ويقتلون من شاءوا، فالإبادة عندهم عبادة، نسأل الله العافية.

شيخ الإسلام -رحمه الله- يتحدث في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" عن هذه الاختلافات والشرور التي تقع بين طوائف الأمة، ويتحدث عن قوله تعالى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ [التوبة:69]، يقول: هذا إشارة إلى اتباع الشهوات وهو داء العصاة.

وقال: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [التوبة:69] يقول: "هذا إشارة إلى اتباع الشبهات، وهو داء المبتدعة، وأهل الأهواء والخصومات، وكثيرًا ما يجتمعان، فقلّ من تجد في اعتقاده فسادًا إلا وهو يظهر في عمله" .

لاسيما في عصرنا هذا، أصبحت الشهوات تُلبَّس بلبوس الشبهات، فتجد صاحب الشهوة يفجُر ويستحل الحرام و يتبجّح ويجادل ويناضل، ويقول: أنتم ما تعرفون إلا قول مشايخكم، يوجد من يقول بغير هذا، ويوجد من يفتي بهذا، وهذا شيء مشاهد.

يقول شيخ الإسلام: "وقد دلت الآية على أن الذين كانوا من قبل استمتعوا، وخاضوا، وهؤلاء فعلوا مثل أولئك..."[7].  إلى آخر ما ذكر.

فهذه جمل لهؤلاء العلماء -رحمهم الله- يذكرون فيها جملًا من الأسباب التي أدت إلى الاختلاف.

فهذا هو القسم الثالث في المزاولات التي تصدر من بعض المسلمين وتؤدي إلى تمزيق الصف، وتشتيت الشمل وتفريق الأمة.

رابعًا: من الأسباب: أمور خارجية:

هذه الأمور الخارجية منها:

كيد الأعداء من أصحاب الديانات.

انظر كيف أثرت هذه كما ذكرنا في خبر عبدالله بن سبأ اليهودي، وكيف حصل الغلو بعليٍّ إلى التأليه، وكيف كان ذلك الرجل سببًا في قتل عثمان والكلام فيه كثير.

يقولون: هو أول من أظهر القول بالنص بإمامة عليٍّ ، وطائفة هذا الرجل هم أول من قالوا بالرجعة؛ أن عليًّا يرجع، أنه غاب ثم سيأتي في آخر الزمان، وأنه قد نص النبي ﷺ على إمامته، وأنكر هذا الرجل موت عليٍّ وقال: إنه صعد إلى السماء، كما صعد إليها عيسى، وإنه سينزل وينتقم من أعدائه، واستغل هذا المذهبَ الفرسُ، ورأوا أنه يصلح مطيّة يتوصلون بها إلى مرادهم من إفساد دين الإسلام.

كذلك القدرية، فقد عرفنا أن أول من قال بمقالتهم رجل نصراني، يقال له: سَوْسن، أو سَنسوَيْه، وأن مقالته قد أخذها الجعد بن درهم.

وهكذا القول بنفي الصفات، فهذا كما يقول شيخ الإسلام: "مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين، وضُلال الصابئين، فإن أول من حُفظ عنه ذلك -يعني: أنه قال: ليس على العرش إله يعبد، وإنما استوى بمعنى استولى- الجعد بن درهم، وأخذ عنه الجهم بن صفوان، فنسبت إليه مقالة الجهمية، وإلا فإن الجعد أخذ ذلك عن بيان بن سمعان، وأخذها هذا من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي ﷺ، وكان الجعد بن درهم هذا -فيما قيل- من أرض حران، وكان فيهم خلق كبير من الصابئة والفلاسفة[8].

وهكذا هؤلاء قد دخل بعضهم في الإسلام للدس فيه، فظهرت الزندقة والضلالات، وما إلى ذلك.

ومن ذلك: تلاعب شياطين الإنس والجن.

والله يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112].

فالله -تبارك وتعالى- ذكر أن هؤلاء يستعينون على مخالفة دين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بما يزخرفه بعضهم لبعض من القول، فيغتر به الأغمار وضعفاء العقول، فهنا تحصل الضلالة، بسبب هذا الإصغاء لهذا القول المزخرف المزوق المزين، فيَضل من شاء الله ضلالته، ثم بعد ذلك يقع الانحراف والافتراق.

وهكذا فإن ذلك يكون أيضًا بما يزينه شياطين الإنس والجن من أنواع الزيغ، فيسمون مثلًا المعاصي والفجور بأسماء يقبلها الناس، كما ذكر ابن القيم -رحمه الله: يسمون أم الخبائث -يعني الخمر- بأم الأفراح، ويسمون اللقمة الملعونة -يعني الحشيشة- لُقيمة الذِّكر والفكر التي تثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، ويسمون مجالس الفجور والفسوق مجالس الطِّيبة، حتى إن بعضهم لما عُزل عن شيء من ذلك قال لعازله: ترْك المعاصي والتخوف منها إساءة ظن برحمة الله وجرأة على سعة عفوه ومغفرته". انظر كيف يتلاعب بالألفاظ! يقول ابن القيم : "فانظر ماذا تفعل هذه الكلمة في قلب ممتلئ بالشهوات ضعيف العلم والبصيرة"[9].

وهكذا أسماء كثيرة اليوم تقال لكثير من المعاصي والجرائم والموبقات. 

ذكر شيخ الإسلام أشياء كثيرة من تلاعب الشياطين بالصوفية، وذكر من ذلك أشياء تظهر على أنها كرامات، وهي من فعل الشياطين تضللهم وتتلاعب بهم، يقول شيخ الإسلام لما ذكر الحلّاج،: "ومثل هذا يحدث كثيرًا لغير الحلّاج ممن له حال شيطاني"[10].

وذكر شيخ الإسلام أنه يعرف من هذا أشياء كثيرة، يقول: "مثل شخص هو الآن بدمشق، كان الشيطان يحمله من جبل الصالحية إلى قرية حول دمشق، فيجيء من الهواء إلى طاقة البيت الذي فيه الناس، فيدخل وهم يرونه، ويجيء بالليل إلى باب الصغير -أحد أبواب دمشق- فيعبر منه هو ورفيقه، وهو من أفجر الناس، وآخر كان بالشويك من قرية يقال لها: الشاهدة، يطير في الهواء إلى رأس الجبل والناس يرونه، وكان شيطانه يحمله، وكان يقطع الطريق، وأكثر هؤلاء من شيوخ الشر، وشيخ آخر أخبرني عن نفسه أنه كان يزني بالنساء، ويتلوط بالصبيان الذين يقال لهم الحُوارات، وكان يقول: يأتيني كلب أسود بين عينيه نكتتان بيضاوان فيقول لي: فلان بن فلان نذر لك نذرًا وغدًا نأتيك به، يقول: فلما تاب هذا الشيخ، وصار يصلي ويصوم، ويجتنب المحارم ذهب الكلب الأسود.

وشيخ آخر كان له شياطين يرسلهم يصرعون بعض الناس، فيأتي أهل ذلك المصروع إلى الشيخ يطلبون منه إبراءه، فيرسل إلى أتباعه -يعني من الشياطين- فيفارقون ذلك المصروع، ويعطون ذلك الشيخ الدارهم الكثيرة، وأحيانًا تأتيه الجن بدارهم وطعام تسرقه من الناس، وآخر كان مشتغلًا بالعلم والقراءة، فجاءته الشياطين أغوته، وقالوا له: نحن نسقط عنك الصلاة، ونحضر لك ما تريد، فكانوا يأتونه بالحلوى والفاكهة حتى حضر عند بعض الشيوخ العارفين بالسنة فاستتابه"[11].

ويقول عن نفسه -أعني شيخ الإسلام: إن الشياطين والجن قد تتمثل بشخصه هو، وأغاثوا أقوامًا، فجاء هؤلاء الأقوام يخبرون شيخ الإسلام بما وقع لهم، يقول: "وذكر غير واحد أنه استغاث بي"، وهذا لا يجوز، وشيخ الإسلام ينكر عليهم هذا.

يقول بعضهم: إنه رآني جئته، ومنهم من قال: رأيتك راكبًا بثيابك وصورتك، ومنهم من قال: رأيتك على جبل، ومنهم من قال غير ذلك، فأخبرتهم أني لم أغْشَهم، وإنما ذلك شيطان تصور بصورتي ليضلهم لمّا أشركوا بالله ودعوا غيره، وأعرف من ذلك وقائع كثيرة، قوم استغاثوا بي وبغيري في حال غيبتنا عنهم، فرأوني أو ذلك الآخر الذي استغاثوا به وقد جئنا في الهواء ورفعنا عنهم، فلما حدثوني بذلك بيّنت لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصوّر بصورتي، وصورة غيري من الشيوخ الذين استغاثوا بهم"[12].

خذ مثالًا ذكره ابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية" مثال عجيب لتلاعب الشياطين، هذا رجل يقال له: الحارث الكذاب من أهل دمشق، يقول فيما يرويه عن عبدالرحمن بن حسّان: "كان مولى لأبي الجُلاس، وكان له أب بالحُولة، فعرض له إبليس، وكان رجلًا متعبدًا، زاهدًا، لو لبس جبة من ذهب لرُئِيت عليه الزهادة والعبادة، وكان إذا أخذ في التحميد لم يسمع السامعون مثل تحميده، ولا أحسن من كلامه، فكتب إلى أبيه، وكان بالحُولة، يا أبتاه، أعجل عليّ، فإني قد رأيت أشياء أتخوف أن يكون الشيطان قد عرض لي، قال: فزاده أبوه غيًّا على غيه، فكتب إليه أبوه: يا بني، أقبل على ما أُمرت به فإن الله تعالى يقول: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ۝ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [لشعراء:221-222].

ولست بأفاك ولا أثيم، فامض لما أُمرت به، فكان يجيء إلى أهل المسجد رجلًا رجلًا فيذاكرهم أمره، ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو رأى ما يرضى قَبِل وإلا كتم عليه".

هذا يدعي أنه نبي الآن، صار يدعي أنه يوحى إليه، قال: "وكان يريهم الأعاجيب، كان يأتي رخامة في المسجد، فينقرها بيده فتسبح تسبيحًا بليغًا حتى يضج من ذلك الحاضرون".

يقول ابن كثير: "وقد سمعت شيخنا العلامة أبا العباس ابن تيمية -يعني شيخ الإسلام- يقول: كان ينقر هذه الرخامة الحمراء التي في المقصورة فتسبح، وكان زنديقًا"[13].

وجاء أيضًا في بعض الكلام عنه في بعض الروايات: كان الحارث يطعمهم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وكان يقول لهم: اخرجوا حتى أريكم الملائكة،  فيخرج بهم إلى دير المُرَّان، فيريهم رجالًا على خيل فتبعه على ذلك بشر كثير، وفشا أمره في المسجد، وكثر أصحابه وأتباعه، حتى وصل الأمر إلى القاسم بن مُخيمرة، فعرض على القاسم أمره، وأخذ عليه العهد والميثاق إن هو رضي أمرًا قبله، وإن كرهه كتمه، فقال له: إني نبي، فقال القاسم: كذبت يا عدو الله، ما أنت نبي، وفي بعض الروايات: ولكنك أحد الكذابين الدجالين الذين أخبر عنهم النبي ﷺ.

إلى أن قال: وأنت أحدهم، ولا عهد لك، يعني: ما تأتمني على كتمان أمرك.

قال: "ثم قام فخرج إلى أبي إدريس، وكان على القضاء بدمشق، فأعلمه بما سمع من الحارث، فقال أبو إدريس: نعرفه، ثم أعلم أبو إدريس عبد الملك بذلك".

وفي رواية: أن مكحولًا، وعبد الله بن أبي زكريا دخلا على الحارث، فدعاهما إلى نبوته فكذباه، وردا عليه ما قال، ودخل هذان على عبد الملك، فأعلماه بأمره -يعني عبد الملك بن مروان- فتطلبه عبد الملك طلبًا حثيثًا، واختفى الحارث وصار إلى بيت المقدس يدعو إلى نفسه سرًّا، واهتم عبد الملك بشأنه حتى ركب إلى الصِّنْبَرة، فنزلها فورد عليه هنالك رجل من المسلمين من أهل البصرة، ممن كان يدخل على الحارث وهو ببيت المقدس، فأعلمه بأمره وأين هو، وسأل عبد الملك أن يبعث معه بطائفة من الجند الأتراك ليحتاط عليه، فأرسل معه طائفة، وكتب إلى نائب القدس ليكون في طاعة هذا الرجل، ويفعل ما يأمره به، فلما وصل الرجل إلى بيت المقدس بمن معه انتدب نائب القدس لخدمته، فأمره أن يجمع  ما يقدر عليه من الشموع -هذا في الليل- ويجعل مع كل رجل شمعة، فإذا أمرهم بإشعالها في الليل أشعلوها كلهم في سائر الطرق والأزقة، حتى لا يخفى أمره، وذهب الرجل بنفسه، فدخل الدار التي فيها الحارث، فقال لبوابه: استأذن لي على نبي الله، فقال: في هذه الساعة لا يؤذن عليه حتى يصبح، فصاح البصري: أسرجوا -يقول لأصحابه- فأسرج الناس شموعهم حتى صار الليل كأنه النهار، وهجم البصري على الحارث، فاختفى منه في سرب هناك، فقال أصحابه: هيهات، تريدون أن تصلوا إلى نبي الله، إنه قد رفع إلى السماء.

فأدخل البصري يده في ذلك السرب فإذا بثوبه، فاجتره فأخرجه، ثم قال لمن معه من الأتراك: تسلموا، فأخذوه، فربطوه فقيدوه، فيقال: إن القيود والجامعة -يعني الكَلَبشات- سقطت من عنقه مرارًا، ويعيدونها، وجعل يقرأ: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ:50].

وقال لأولئك الأتراك: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28]، فقالوا له بلسانهم ولغتهم: هذا كُرآنُنا فأتِ بكُرآنك، يعني: هذا قرآننا فأتِ بقرآنك.

فلما انتهوا به إلى عبد الملك أمر بصلبه على خشبة، وأمر رجلًا فطعنه بحربة فانثنت في ضلع من أضلاعه، فقال له عبد الملك: ويحك، أذكرت اسم الله حين طعنته؟، فقال: نسيت، فقال: ويحك، سم الله، ثم اطعنه، فذكر اسم الله، ثم طعنه فأنفذه، وكان عبد الملك قد حبسه قبل ذلك، وأمر رجالًا من العلماء أن يعظوه ويعلموه أن هذا من الشيطان، فأبى أن يقبل، فصلب[14].

انظر كيف تتلاعب الشياطين، وكيف يتبع هذا الرجلَ جماعةٌ من هؤلاء المنحرفين، الشياطين تلعب بهؤلاء الذين يصغون لهم.

غَيلان الدمشقي قال له خالد بن اللَّجلاج: "ويحك يا غيلان، ألم يأخذك في شبيبتك -أيام الشباب يعني- تُرامي النساء في شهر رمضان بالتفاح -يعني أنه كان من المُجّان، ثم صرت حارثيًّا تحجب امرأة وتزعم أنها أم المؤمنين، ثم تحولت فصرت قدريًّا زنديقًا"[15].

كل يوم على رأي، وكل يوم على مذهب، و كل يوم على دين، وكل يوم على ضلالة.

وقد جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل، فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب، فيتفرقون فيقول الرجل منهم: سمعت رجلًا أعرف وجهه، ولا أدري ما اسمه يحدِّث[16].

وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص -ا: إن في البحر شياطين مسجونة، أَوثَقها سليمان، يُوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنًا[17]تلعب بالناس، تضللهم.

وجاء عن حارثة بن مُضرِّب قال: إن الناس نودي فيهم بعد نومة: إنه من صلى في المسجد الأعظم -يعني في الكوفة- دخل الجنة، فانطلق النساء والرجال حتى امتلأ المسجد قيامًا يصلون.

يقول أبو إسحاق: إن أمي وجدتي فيهم، فأُتي ابن مسعود فقيل له: أدرك الناس، فقال ما لهم؟ قيل: نودي فيهم بعد نومة -يعني ما يُدرى من المنادي- إنه من صلى في المسجد الأعظم دخل الجنة، فخرج ابن مسعود يُشير بثوبه: ويلكم، اخرجوا لا تُعذَّبوا، إنما هي نفخة من الشيطان، إنه لم يُنزَل كتاب بعد نبيكم، ولم يُنزَل بعد نبيكم، ولا يُنزَل بعد نبيكم -أي كتاب- فخرجوا، يقول: وجلسنا إلى عبد الله فقال: إن الشيطان إذا أراد أن يوقع الكذب انطلق، فتمثل رجلًا فيلقى آخر فيقول له: أما بلغك الخبر؟ فيقول الرجل: وما ذاك؟ فيقول: كان من الأمر كذا وكذا، فانطلق فحدث أصحابك، قال: فينطلق الآخر فيقول: لقد لقينا رجلًا، إني لأتوهمه أعرف وجهه زعم أنه كان من الأمر كذا وكذا، وما هو إلا شيطان"[18].

الآن الشيطان كُفي كثيرًا من هذا عبر هذه الوسائل، تأتيك رسائل ما تدري من الذي كتبها ثم بعد ذلك تُنشر، وفيها من الضلالة ما الله به عليم.

يقول الليث بن سعد: قدم علينا شيخ من الإسكندرية يروي عن نافع وهو حي، فأتيناه فكتبنا عنه عن نافع، فلما خرج أرسلنا بها إلى نافع فما عرف منها شيئًا، فقال أصحابنا: ينبغي أن يكون هذا من الشياطين الذين حُبسوا"[19].

يعني: مثل هذا يأتي بهذه الجرأة، ويحدث بهذه الأحاديث أو هذا ينادي بالناس فيذهبون إلى الجامع يصلون، الرجال والنساء، كيف يقبلون منه؟.

على كل حال، الكلام في هذا يطول، والخلاف قديم جديد، ولكنه قد يتفجر ويزداد في بعض الأوقات ويتفاقم، وقد يفتر في بعضها، وقد يكثر في ناحية، وقد يكثر في بعض المسائل، وكل زمن تتجدد فيه أشياء، وربما كانت قد اندثرت، فيأتي من ينفخ فيها، ويثيرها ويحييها، وهكذا يحصل التفرق، وتتقلب بالناس الفتن والشرور، والسالم من سلمه الله -تبارك وتعالى.

نحن حينما نذكر مثل هذه الأشياء، وما في التاريخ فهذا نستفيد منه فوائد: أن الإنسان يكون عنده مناعة، وحصانة بإذن الله.

الأمر الثاني: ألا تظلم الدنيا في عينه، ويعتقد أن هذا نهاية المطاف، وأن يبتئس وييأس، فالشر موجود منذ قرون طويلة جدًّا، فلا نيأس، وإنما يطلب الإنسان النجاة، ويبحث عن المخرج، وعما تكون فيه عافيته وسلامته، فبعض الناس إذا رأى الخلافات يئس وترك، وأظلمت الدنيا في عينه، نقول: لا، وليس المقصود هو التهوين لما يجري من خلافات في عصرنا هذا.

نتائج الخلافات المتنوعة:

بعد ذلك ننتقل إلى الأمر السابع:

هذه الأمور التي سمعتموها، وهذه الخلافات الكثيرة بأسبابها المتنوعة، ماذا نتج عنها؟ ماذا أورثت؟.

يعلق الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- على قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، ويذكر أن الله أمر بما يعينهم على التقوى، وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين، يقول: "فإن اجتماع المسلمين على دينهم وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم، وتصلح دنياهم، وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عده من التعاون على البر والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم، وتنقطع روابطهم، ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، ولو أدى إلى الضرر العام"[20].

وهكذا ابن القيم يعلق على قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۝ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45-46].

فيقول: "إن الله أمر المجاهدين بخمسة أشياء، ما اجتمعت في فئة قط إلا نُصرت، وإن قلّت وكثر عدوها، وذكر الأول: الثبات، الثاني: كثرة ذكر الله ، الثالث: طاعة المعبود ، وطاعة الرسول ﷺ، الرابع: اتفاق الكلمة، وعدم التنازع الذي يوجب الفشل والوهن، وهو جند يقوِّي به المتنازعون عدوهم عليهم، فإنهم في اجتماعهم كالحزمة من السهام لا يستطيع أحد كسرها، فإذا فرقها وصار كل واحد منهم على حدة فإنها تكسر ويسهل ذلك، الخامس: ملاك ذلك وأساسه هو الصبر.

يقول: هذه خمسة أشياء تُبتنى عليها قبة النصر، ومتى زالت أو بعضها زال من النصر بحسب ما نقص منها، وإذا اجتمعت قوّى بعضها بعضًا، وصار لها أثر عظيم في النصر.

يقول: لما اجتمعت الصحابة على هذه الأمور لم تقم لهم أمة من الأمم، وفتحوا الدنيا، ودانت لهم العباد والبلاد، ولمّا تفرق مَن بعدهم آل الأمر إلى ما آل إليه"[21].  كما نشاهد.

فهذه عوامل النصر الحقيقية التي ذكرها الله في هذه الآية، والله يقول: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].

التنازع الذي يوجب تشتت القلوب، والتفرق، فيحصل الفشل، والضعف، والوهن، والهزيمة.

كونوا جميعًا يا بَنيّ إذا اعترى خطبٌ ولا تتفرقوا أفرادا
تأبى الرماحُ إذا اجتمعنَ تكسُّرًا  وإذا افترقنَ تكسرتْ آحادا

الطاهر بن عاشور -رحمه الله- يعلق على هذه الآية: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ يقول: "وأما النهي عن التنازع فهو يقتضي الأمر بتحصيل أسباب ذلك: بالتفاهم، والتشاور، ومراجعة بعضهم بعضًا، حتى يصدروا عن رأي واحد، فإن تنازعوا في شيء رجعوا إلى أمرائهم، لقوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ [النساء:83].

وهكذافَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، يقول: "والنهي عن التنازع أعم من الأمر بالطاعة لولاة الأمور؛ لأنهم إذا نُهوا عن التنازع بينهم فالتنازع مع ولي الأمر أولى بالنهي، ولما كان التنازع من شأنه أن ينشأ عن اختلاف الآراء -وهو أمر مرتكز في الفطرة- بسط القرآن القول فيه ببيان سيئ آثاره، فجاء بالتفريع بالفاء في قوله: فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، فحذرهم أمرين معلومًا سوء مغبتهما، وهما: الفشل، وذهاب الريح".

ثم بعد ذلك يقول: "وإنما كان التنازع مفضيًا إلى الفشل؛ لأنه يثير التغاضب، ويزيل التعاون بين القوم، ويُحدث فيهم أن يتربص بعضهم ببعضٍ الدوائر، ويُحدث في نفوسهم الاشتغال باتقاء بعضهم بعضًا، وتوقُّع عدم إلفاء النصير عند مآزق القتال"[22]،  كل هذا -للأسف- شيء مشاهد، واقع نراه اليوم.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- يعدد خمسة من أنواع الفساد الذي يترتب على التنازع، يذكر من هذا: جهل كثير من الناس بالأمر المشروع، والمسنون الذي يحبه الله، ويحبه الرسول، يعني: يبقى كثير من الناس في حيرة الحق مع من؟.

وهكذا التظالم، والبغي والتباغض والتقاطع، والبراءة من المخالف وإن كان أحب إلى الله من الموافق، وقد ينهى عن شيء ما نهاه الله عنه، وكذلك اتباع الظن والهوى، كما يقع بين أهل الأهواء الخارجين من السنة والجماعة، وكذلك التفرق والاختلاف، والطعن، والتشهير، والاعتداء، بدلًا من الاجتماع والائتلاف، والموالاة، وكذلك شك كثير من الناس، ولربما يطعنون بعقائد أهل السنة ومذهبهم، وما هم عليه، ولربما طعنوا بالنصوص بسبب ما يرون من الممارسات والاختلاف الكبير.

كما يحصل أيضًا تسلط الأعداء، وشيخ الاسلام -رحمه الله- يقول: "إن بلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها"[23].

ونحن ما تسلط الأعداء في هذا العصر علينا إلا بسبب تفرقنا وتشتتنا وانقسامنا على أنفسنا، فنحن لا نحقق نصرًا مؤزرًا، وإنما يبقى المسلمون في حال من الطحن، ولا يكاد هؤلاء يراوحون، أو يتجاوزون ذلك الموضع، بل قد يتحول هذا المخالف، أو هذه الطائفة إلى مِعول هدم.

وابن حزم -رحمه الله- يقول: إن جميع فرق الضلالة لم يُجرِ الله على أيديهم خيرًا، ولا فتح بهم من بلاد الكفر قرية، ولا رفع للإسلام راية، وما زالوا يسعون في قلب نظام المسلمين، ويفرقون كلمة المؤمنين، ويسلُّون السيف على أهل الدين، ويسعون في الأرض مفسدين".

إلى أن يقول: "فالله الله أيها المسلمون، تحفظوا بدينكم، الزموا القرآن، وسنن النبي ﷺ وما مضى عليه الصحابة والتابعون وأصحاب الحديث عصرًا بعد عصر، الذين طلبوا الأثر فلزموا الأثر، ودعوا كل محدثة وضلالة"[24].

وانظر إلى معاول الهدم، انظر إلى هؤلاء الخوارج ماذا فعلوا مع عبدالله بن خباب، وما فعلوا مع أصحاب النبي ﷺ، وما فعلوا مع عليٍّ ، ولما كلمهم عليٌّ وطلب منهم أن يخرجوا القتلة، قالوا: كلنا قتلة، ولئن ظفرنا بك قتلناك.

وهكذا لما برز حرقوص بن زهير إلى عليٍّ، وقال: يا ابن أبي طالب، والله لا نريد بقتالك إلا وجه الله والدار الآخرة.

انظر كيف تتحول الجهود والشجاعة والعزائم القوية، وبذل النفوس إلى تدمير وإفساد.

مقتل علي بن أبي طالب :

في صفة مقتل عليٍّ يذكر العلماء أن ثلاثة من الخوارج، وهم: عبدالرحمن بن عمرو المعروف بابن ملجم يصفونه ويقولون: هذا كان من كندة، أو حليف لبني حنيفة من كندة، يقولون: كان أسمر اللون، حسن الوجه، أبلج الشعر، لاحظ ما كان محلوقًا، سيماهم التحليق[25]يعني: هذه سمة غالبة فيهم، ولا يعني أن من لم يكن محلوقًا لا يكون من الخوارج، قد يكون شعره طويلا وهو من الخوارج.

فهذا عبدالرحمن بن ملجم كان شعره مع شحمة أذنيه، وفي وجهه أثر السجود، والآخر يقال له: البرك بن عبد الله التميمي، والثالث: عمرو بن بكر التميمي، اجتمعوا فتذاكروا قتل عليٍّ لإخوانهم في النهروان، فترحموا عليهم وقالوا: ماذا نصنع بالبقاء بعدهم؟.

كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا، فأتينا أئمة الضلال، من هم أئمة الضلال؟ علي ومعاوية وعمرو بن العاص هؤلاء أئمة الضلال عندهم.

يقولون: فقتلناهم، فأرحنا منهم البلاد، وأخذنا منهم ثأر إخواننا، قال ابن ملجم: أما أنا فأكفيكم علي بن أبي طالب.

وقال البرك: أنا أكفيكم معاوية، وقال عمرو بن بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص، فتعاهدوا وتواثقوا ألا ينكص رجل منهم عن صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه، فأخذوا أسيافهم فسمّوها، فسقوها السم بحيث لو كانت جراحة يسيرة يمكن أن تسري حتى يصير ذلك بليغًا فيقتل صاحبه.

يقول ابن كثير: واتعدوا لسبع عشرة من رمضان، أن يبيت كل واحد منهم صاحبه في بلده الذي هو فيه، فأما ابن ملجم فسار إلى الكوفة، فدخلها، وكتم أمره حتى عن أصحابه من الخوارج الذين هم بها، فبينما هو جالس في قوم من بني الرباب يتذاكرون قتلاهم يوم النهروان، إذ أقبلت امرأة منهم يقال لها قطام، قد قتل عليٌّ يوم النهران أباها وأخاها، وكانت فائقة الجمال مشهورة به، وكانت قد انقطعت في المسجد الجامع تتعبد فيه، فلما رآها ابن ملجم سلبت عقله، ونسي حاجته التي جاء لها، وخطبها إلى نفسها، فاشترطت عليه ثلاثة آلاف درهم، وخادمًا، وقينة، وأن يقتل لها علي بن أبي طالب قال: فهو لك، ووالله ما جاء بي إلى هذه البلدة إلا قتل عليٍّ.

فتزوجها، ودخل بها، ثم شرعت تحرضه على قتله، وندبت له رجلًا من قومها من تيم الرباب، يقال له: وردان، ليكون معه، واستمال عبدالرحمن بن ملجم رجلًا آخر يقال له: شبيب بن نجدة بن أشجع الحروري، قال له ابن ملجم: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟.

قال: وما ذاك؟ قال: قتل عليٍّ، فقال: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئًا إدًّا، كيف تقدر عليه؟ قال: أكمن له في المسجد، فإذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه، فقتلناه، فإن نجونا شفينا أنفسنا، وأدركنا ثأرنا، وإن قُتلنا فما عند الله خير من الدنيا.

فقال: ويحك، لو غير عليٍّ كان أهون عليّ، قد عرفت سابقته في الإسلام، وقرابته من رسول الله ﷺ فما أجدني أنشرح صدرًا لقتله.

قال: أما تعلم أنه قتل أهل النهروان؟ قال: بلى، قال: فنقتله بمن قتل من إخواننا، فأجابه هذا الرجل بعد لَأيٍ، ودخل شهر رمضان، فواعدهم ابن ملجم ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت، وقال: هذه الليلة التي واعدت أصحابي فيها أن يثأروا بمعاوية وعمرو بن العاص، فجاء هؤلاء الثلاثة: ابن ملجم ووردان وشبيب وهم مشتملون على أسيافهم، فجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي ، فلما خرج جعل يُنهض الناس من النوم إلى الصلاة في المسجد؛ لأن الناس هم نيام في المسجد، ويقول: الصلاة، الصلاة، فثار إليه شبيب بالسيف فضربه فوقع في الطاق، فضربه ابن ملجم بالسيف على قرنه فسال دمه على لحيته ، ولما ضربه ابن ملجم قال -يعني ابن ملجم: لا حكم إلا لله، ليس لك يا عليُّ، ولا لأصحابك.  

وجعل يتلو قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207].

فنادى عليٌّ: عليكم به، وهرب وردان، فأدركه رجل فقتله، وذهب شبيب، ونجا بنفسه وفات الناس، فأمسك ابن ملجم، وحُمل عليٌّ إلى منزله، وحُمل إليه ابن ملجم، فوُضع بين يديه وهو مكتوف -قبحه الله- فقال له: أيْ عدو الله، ألم أحسن إليك؟ قال: بلى، قال: فما حملك على هذا؟ قال: شحذتُه أربعين صباحًا، وسألت الله أن يقتل به شر خلقه، فقال له عليٌّ: لا أراك إلا مقتولًا به، ولا أراك إلا من شر خلق الله، ثم قال: إن مت، فاقتلوه به.

ابن ملجم هذا امتدحه عمران بن حطان، وعمران بن حطان عرفنا أنه أيضًا كان من العُباد، ونسأل الله العافية.

أما صاحب معاوية -وهو البرك- فإنه حمل عليه وهو خارج إلى صلاة الفجر، فضربه بالسيف، وقيل: بخنجر مسموم، فجاءت الضربة في الورك، فجرحت أليته، وأمسك هذا الخارجي فقتل.

وأما عمرو بن العاص فجاءه عمرو بن بكر، وكمن له إذا أراد الخروج من الصلاة، فعمرو بن العاص وافق أنه أصابه مغص، فما خرج إلى الصلاة في ذلك اليوم، وإنما خرج نائبه، وهو خارجة بن أبي حبيبة من بني عامر بن لؤي، وكان على الشرطة، فحمل عليه الخارجي، فقتله يعتقد أنه عمرو بن العاص، وضُربت عنقه[26].

عليٌّ لما قتل ما الذي  حصل؟ دفن سرًّا بالليل، خير أهل زمانه يدفن سرًّا ليلًا! واختلفوا في الموضع، وأُخفي موضع القبر لئلا ينبش، وهو الخليفة.

فقيل: دفن بدار الإمارة بالكوفة؛ خوفًا عليه من هؤلاء الخوارج، وقيل: إنه دفن في ناحية المسجد من جهة جامع الكوفة، وقيل غير ذلك.

الشاهد أنه صُلي عليه بالليل، وعُمّي موضع القبر، لكنهم يقولون: قريب من قصر الإمارة دفنه الحسن والحسين وابن الحنفية، وعبدالله بن جعفر، وغيرهم من أهل بيته، عمُّوا قبره، أخفوا القبر لهؤلاء الأشرار.

خذ من الآثار في حوداث سنة تسع وسبعين للهجرة، يذكر الحافظ ابن كثير  -رحمه الله- أنه قُتل فيها   قَطري بنالفجاءة.

قَطري هذا ذكرنا لكم أخباره، وذكر ابن كثير طرفًا كبيرًا منها؛ شجاع، شاعر، خطيب، فصيح، بليغ، من كلامه وقصائده:

أقول لها وقد طارتْ شعاعًا من الأبــطالِ ويحــكِ لن تراعي
فـــإنكِ لو ســألتِ بقاء يــوم على الأجــل الذي لك لن تـطاعي
فصبرًا في مجال الموت صبرًا فــما نيلُ الخــلود بمســتطاعِ

هذا الرجل كم قتل من الناس! وكم هزم من الجيوش! كل ذلك في سبيل الشيطان.

والناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، حينما يتفرق الناس يتبنى الإنسان فكرة، يموت دونها، ولو كانت ضلالة واضحة لا خفاء فيها.

انظر: أبو أيوب الأنصاري في وقعة النهروان جاء إلى عليٍّ فقال: يا أمير المؤمنين، قتلت زيد بن حسين الطائي -من قادة الخوارج- يقول: طعنته في صدره حتى خرج السنان من ظهره، وقلت له: أبشر يا عدو الله بالنار، فقال: ستعلم غدًا أينا أولى بها صليًّا[27].

الرمح داخل في صدره وخارج من ظهره، والذي طعنه أبو أيوب الأنصاري ويقول في هذه اللحظات: ستعلم غدًا أينا أولى بها صليًّا، فقال له علي: هو أولى بها صليًّا.

عبدالرحمن بن ملجم هذا الذي قتل عليًّا ذكر بعض المؤرخين أنه شهد فتح مصر، وكان ممن أخذ القرآن، والفقه، وتلقى القرآن عن معاذ كان في الشام، وكان من الفرسان بمصر، وكان من العُباد، هذا الرجل كان من شيعة علي  يقول بعض المؤرخين: "ثم أدركه الكتاب -يعني القدر- وفعل ما فعل، وهو عند الخوارج من أفضل الأمة، وكذلك تعظمه النصيرية" انظر التناقض! "يقولون -يعني النصيرية: إن ابن ملجم أفضل أهل الأرض خلص روح اللاهوت من ظلمة الجسد وكدَرِه"[28]هم يعتقدون بتأليه علي يقولون: خلصه من الناسوت يعني من الجسد وظلمته، يقول: فاعجبوا يا مسلمين لهذا الجنون.

ابن ملجم هذا يقال: إن عبدالله بن جعفر قطع يديه ورجليه وكحلت عيناه -يعني جيء بمسمار محمى ففقئت عيناه- وهو مع ذلك يقرأ سورة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] إلى آخرها، يقولون: ثم جاءوا ليقطعوا لسانه، فجزع، وقال: إني أخشى أن تمر عليّ ساعة لا أذكر الله فيها، ثم قطعوا لسانه ثم قتلوه، يقول بعض المؤرخين: قيل إنه قطعت يداه ورجلاه، ولم يتأوه بل يتلو القرآن، فلما أرادوا قطع لسانه امتنع عن إخراجه فتعبوا في ذلك، فقيل له: قطعت يداك ورجلاك وما تألمت، وما امتنعت، فما هذا الامتناع من قطع لسانك؟ فقال: لئلا تفوتني تلاوة القرآن، لا يفوتني شيء من ذلك وأنا حي، فشقوا شدقه وأخرجوا لسانه بكُلاب وقطعوه[29].

كيف يقف الإنسان مع الباطل، ويموت إلى آخر لحظة، وقد يعتقد أصحابه الضُلال أن هذا من الكرامات، والمبشرات؟

يقال: أول سيف سُل من سيوف الخوارج هو سيف عروة بن حدير، هذا ممن نجا في النهروان، وبقي إلى أيام معاوية، هذا الرجل وقف أمام زياد بن أبيه -وزياد بن أبيه من الأمراء والقادة الذين كانوا من أصحاب البطش والعسف- ومعه مولى له، فسأله زياد عن أبي بكر وعمر -ا- فقال فيهما خيرًا، سأله عن عثمان فقال: كنت أوالي عثمان على أحواله في خلافته ست سنين، ثم تبرأت منه بعد ذلك للأحداث التي أحدثها، وشهد عليه بالكفر.

وسأله عن أمير المؤمنين عليٍّ فقال: كنت أتولاه إلى أن حكّم الحكمين، ثم تبرأت منه بعد ذلك، وشهد عليه بالكفر، فسأله عن معاوية -وزياد بن أبيه هذا قريب معاوية- فسبه سبًّا قبيحًا، ثم سأله عن نفسه، قال: ما تقول فيّ؟ فقال: أوَّلُك لَزَنْية وآخرك لدعوة -يعني: أنت دعيّ، حتى النسب غير صحيح، زياد بن أبيه ويقال: زياد بن أبي سفيان، وأنت فيما بينهما بعدُ عاصٍ ربك.  

فأمر زياد بضرب عنقه، ثم دعا مولاه، فقال له: صف لي أمره واصدق، فقال: أَأُطنب أم أختصر؟ قال: بل اختصر، قال: ما أتيته بطعام في نهار قط -ما معنى هذا؟ صيام دائم، ولا فرشت له فراشًا بليلٍ قط[30].

يعني: قيام طول الليل، هذا الضال الذي يموت على الباطل، انظر كيف يموت الناس على أفكارهم ومعتقداتهم، نسأل الله العافية.  

الواحد يسأل ربه أن يعافيه، أن يخلصه، أن ينجيه، اللهم سلم سلم، كأن الإنسان راكب في بحر، اللهم سلم، اللهم سلم، ما يذهب ويقرأ في مواقع يذهب هنا وهناك، ويجلس مع زيد وعمرو ممن يخلطون، ثم بعد ذلك يطلب النجاة، لا تجلس مع صاحب لوثة، ولا تقرأ لصاحب لوثة، وإذا أرسل لك مقطعًا امسح لا تقل: أسمع وأقرأ، ثم بعد ذلك يعلق في قلبك الشر، ولا تستطيع الخروج منه، قد لا يكون عندك من المدارك والعلم، ينقل لك شبهًا، ينقل لك كلامًا لأهل العلم، أو غير ذلك، ولا تعرف الجواب عنه، وهو في غاية الضلال.

انظر كيف هؤلاء يصبرون على باطلهم، أعطيكم مثالًا آخر: هذا بابك الخُرَّمي لما أُدخل مع أخيه على المعتصم قال له أخوه: يا بابك، إنك قد عملت عملًا لم يعمله أحد، فاصبر الآن صبرًا لم يصبره أحد، فقال له: سترى صبري، فلما صار بحضرة المعتصم أمر بقطع أيديهما بحضرته، فبدأ ببابك، فقطعت يمناه، فلما جرى الدم مسح به وجهه كله، انظر هذا الضلال، والجلد.

فقال المعتصم: سلوه لم فعل هذا؟ فسُئل، فقال: قولوا للخليفة: إنك أمرت بقطع أربعتي، وفي نفسك أنك لا تكويها وتمنع دمي حتى ينزف إلى أن تضرب رقبتي، فخفت أن يخرج الدم مني فيبقى في وجهي صفرة يقدَّر لأجلها -يُقدِّر من حضر- أني قد فزعت من الموت، وأنها لذلك لا من خروج الدم، فغطيت وجهي لذلك حتى لا تبين الصفرة[31].

يقول: أنا أنزف إذا قطعت أطرافي الأربعة، فتظهر الصفرة في وجهي، فيُظن أني خائف، وأنا لست بخائف، فغطى وجهه بالدم بعد قطع يمينه، نسأل الله العافية، هذا الجَلَد والاستماتة والصبر إلى آخر لحظة، جلد منقطع النظير، وهل هناك أحد يشك بضلال بابك الخُرَّمي؟!.

هذا رجل يقال له: علي بن أبي الفضل الحلبي رافضي قدم دمشق فأظهر الرفض، وجاهر به حتى دخل الجامع الأموي رافعًا صوته بسبّ أول من ظلم آل محمد.

الجامع الأموي، وهؤلاء أهل سنة، فرفع صوته بسب أول من ظلم آل محمد، وكان الناس حينئذ في صلاة الظهر فأخذوه بين يدي السبكي القاضي، فسأله: من تعني؟ قال: أبا بكر الصديق، ثم رفع صوته فقال: لعن الله فلانًا، وفلانًا، وذكر الخلفاء الثلاثة الراشدين بأسمائهم، انظر الجلد.

وعطف عليهم معاوية، ويزيد، وكرر ذلك، فأمر به إلى السجن، ثم أحضره بعدُ فعرض عليه التوبة، فامتنع فعُقد له مجلس، وأمر قاضي المالكية بضربه بالسياط، فلم يرجع، وأعيد عليه ذلك مرارًا، وهو يبالغ فيما هو فيه من السب واللعن الصريح، فحكم القاضي المالكي بسفك دمه، هذا في سنة سبعمائة وخمس وخمسين، فقتل، وأخذ العامة رأسه طافوا به في البلد[32].

انظر إلى هذا الجلد!، ما حاجته لذلك؟، نكايةً بأهل السنة وتشفيًّا يقوم في جامع دمشق، ويسب ويصر إلى آخر لحظة، ويعرف أنه سيقتل، وما استعمل التقية، جَلَد أهل الباطل يموت هؤلاء دونه، فالناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم.

إذا دخل هذا الداء -داء الكلب- فإنه لا يبقى منه عرق، ولا مفصل حتى يصل إليه، بل قد يصير ذلك إلى سوء الخاتمة.

وقد نقل الشاطبي في "الاعتصام" عن عبد الحق الإشبيلي: أن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره، وصلح باطنه يقول: ما سمع بهذا قط، ولا علم به، والحمد لله، وإنما يكون لمن كان له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، أو لمن كان مستقيمًا ثم تغيرت حاله -انتكس- وخرج عن سننه، وأخذ في غير طريقه، فيكون عمله ذلك سببًا لسوء خاتمته، وسوء عاقبته والعياذ بالله، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11][33].

من هذه الآثار ظهور أهل الباطل بباطلهم على أهل الحق: كما جاء عن الشعبي: "ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها"[34].

هذا بالإضافة إلى فساد القلوب، وهذا الفساد يظهر على الجوارح -كما ذكرنا فيما سبق، وقد ذكر شيخ الإسلام في كتابه "الاستقامة" الحُسن والجمال الذي قد يكون في وجه الإنسان في أيام الصِّبا، ونحو ذلك ويكون صاحبه على فساد وباطل كيف يتحول ذلك، وذكر أشياء من أحوال بعض أهل البدع، وكيف أنه يموت أو يصير في آخر عمره وجهه يشبه الخنزير.  

الشاهد أن شيخ الإسلام يقول: "وهذا الحسن والجمال الذي يكون عن الأعمال الصالحة في القلب يسري إلى الوجه، والقبح والشيْن الذي يكون عن الأعمال الفاسدة في القلب يسري إلى الوجه"[35].

يظهر في وجهه، هذا الذي يحمل الغل على إخوانه المسلمين وجهه أسود مظلم، لا تستطيع أن تمعن النظر إليه، بينما هذا الإنسان الذي على سنة، وعلى عمل طيب، ويحب لإخوانه ما يحب لنفسه، وناصح، تجد أنك إذا نظرت إليه ذكرت الله، تحب النظر إليه، لماذا؟.

هذه القلوب الذي فيها يسري إلى الوجه، هذا بالإضافة إلى ما يؤثره هذا الاختلاف من التراشق والسلق بألسن حداد والوقيعة في الأعراض، بخلاف الرحمة التي كان ينبغي أن تكون بين المؤمنين رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، هم أشداء على الكفار، لكن تتحول القضية إلى شيء آخر -نسأل الله العافية، ويشتغل الناس بعضهم ببعض، ولذلك كانت الحالقة تحلق الدين، فيشتغل الناس ببعضهم، ويحصل الفشل، وذهاب الريح، وتتبدد المصالح، وتحصل الهزائم إلى غير ذلك.

هذا رجل جاهلي كان مقربًا لدى ملك الفرس، وهو من العرب، وكان شاعرًا فحلًا، وأرسل بقصيدة طويلة جميلة يُذكّر بها قومه أمرًا، ويخوفهم من مغبة ما هم فيه من الغفلة والإمعان في الشهوات واللذات، وما إلى ذلك، وعدوهم -وهم الفرس- قد تهيئوا لحربهم وقتلهم واستئصالهم، قصيدة طويلة، لكن أختار منها بعض الأبيات يقول:

بل أيها الراكبُ المُزجِي على عجل نحو الجزيرة مرتادًا ومُنتجِعا
أبلِغ إيادًا وخلِّلْ في سراتِهمُ إني أرى الرأي إن لم أُعصِ قد نصعا

إياد: قومه، هو إياديّ

يا لهف نفسي إن كانت أموركُمُ شتّى وأُحكِمَ أمرُ الناس فاجتمعا
ألا تخافون قومًا لا أبا لكُمُ أمسَوا إليكم كأمثال الدَّبا سُرُعًا

الدَّبا: صغار الجراد.

أبناء قومٍ تآووكم على حنقٍ لا يشعرون أضرَّ اللهُ أم نفعا
أحرار فارس أبناءُ الملوك لهم من الجموعِ جموعٌ تزدهي القلعا
فهم سِراعٌ إليكم بين ملتقطٍ شوكًا وآخرَ يجني الصَّاب والسَّلعا
لو أن جمعهمُ راموا بهدّته شُمَّ الشماريخ من ثهلان لانصدعا
في كل يوم يسنّون الحراب لكم لا يهجعون إذا ما غافلٌ هجعا
خزرٌ عيونهم كأن لحظهم حريقُ نار ترى منه السَّنا قِطعا
لا الحرث يشغلهم بل لا يرون لهم من دون بيضتكم رِيًّا ولا شِبعا
وأنتم تحرثون الأرض عن عرضٍ في كل معتملٍ تبغون مزدرعا

مشغولون أنتم بالزرع، والضرع والبقر وما إلى ذلك.

ويقول:

وتلبسون ثياب الأمن ضاحيةً لا تفزعون وهذا الليثُ قد جمعا
أنتم فريقان هذا لا يقوم له هصرُ الليوثِ وهذا هالكٌ صقعا
وقد أظلكمُ من شطرِ ثغركمُ هولٌ له ظُلَمٌ تغشاكمُ قِطعا
ما لي أراكم نيامًا في بُلَهْنِيَةٍ وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا
فاشفوا غليلي برأيٍ منكمُ حسنٍ يُضحي فؤادي له ريّان قد نقعا

قصيدة جميلة طويلة يحذرهم من قوم يسنون الرماح لهم وهم في لهو وغفلة، وترف، وشهوات، هذه تشبه الحالة التي نعيشها، اختلاف وتفرق، والأعداء أحاطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم.

انظر فيما حولك من البلاد، انظر إلى أحوال أهل السنة وما هم فيه من التفرق، وانظر كيف يصنع العدو، ويعدّ العدة ويشتغل الليل والنهار، ونحن في غفلة، نحن في غفلة.

أسأل الله أن يلطف بنا، وأن يبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا، يعز فيه أهل طاعته، ويكبت فيه أهل الفتنة والشر والفساد والضلال، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. تأويل مختلف الحديث (ص:61-62).
  2. جامع بيان العلم وفضله (2/ 1116)، رقم: (2190).
  3. جامع بيان العلم وفضله (2/ 1117).
  4. المصدر السابق (2/ 1118).
  5. غاية الأماني في الرد على النبهاني (1/ 29)، وهداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (1/ 244).
  6. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (12/ 297-298).
  7. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 121).
  8. الفتوى الحموية الكبرى (ص: 232- 235).
  9. الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/ 438).
  10. مجموع الفتاوى (35/ 112).
  11. مجموع الفتاوى (35/ 112-114).
  12. المصدر السابق (35/ 115).
  13. البداية والنهاية (9/ 35).
  14. البداية والنهاية (9/ 35-36).
  15. البداية والنهاية (9/ 35- 36).
  16. أخرجه مسلم في المقدمة، باب في الضعفاء والكذابين ومن يرغب عن حديثهم (1/ 12)، رقم: (7).
  17. المصدر نفسه.
  18. البدع لابن وضاح (1/ 33)، رقم: (8).
  19. البدع لابن وضاح (1/ 33)، رقم: (8).
  20. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:142).
  21. الفروسية (ص:505- 506).
  22. التحرير والتنوير (10/ 31).
  23. مجموع الفتاوى (22/ 254).
  24. الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 171).
  25. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قراءة الفاجر والمنافق، وأصواتُهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم (9/ 162)، رقم: (7562).
  26. البداية والنهاية (7/ 361-365).
  27. الكامل في التاريخ (2/ 695).
  28. الوافي بالوفيات (18/ 172)، والفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 143).
  29. لوامع الأنوار البهية (2/ 349).
  30. الملل والنحل (1/ 118).
  31. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (11/ 77- 78).
  32. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (4/ 113).
  33. الاعتصام للشاطبي (1/ 170).
  34. أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 313)، وأخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (7/ 370)، رقم: (7754)، عن ابن عمر.
  35. الاستقامة (1/ 364).

مواد ذات صلة