السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(11) كيف نتعامل مع الخلاف ونبذ الفرقة وشروط مسوغات الخلاف
تاريخ النشر: ١٠ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 9490
مرات الإستماع: 2316

المقطع المرئي

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، تحدثنا عن الأسباب التي أودت بالأمة إلى الاختلاف، وذكرنا جملة من الآثار التي نتجت عن ذلك.

بقي الحديث عن أمرين مهمين لابد من الحديث عنهما:

الأول: كيف نتعامل مع الاختلاف؟ من أجل أن لا نقع فيما وقع فيه أولئك.

الثاني: وهو ما يتصل بالطريق إلى الاجتماع، كيف يتحقق الاجتماع، وننبذ الفرقة والاختلاف؟.

نحن بحاجة إلى مثل هذه القضايا والتبصر بها؛ لأننا نعيش في واقع نعرفه جميعًا، أصبحنا نهدم ما نبني ونشتت شملنا، ونفرق جمعنا، ولربما يكون ذلك بنية صالحة، بقصد الغيرة على الدين، أو إنكار الخطأ والانحراف، ولكن ذلك يكون بطريقة تهدم ولا تبني.

كيف نتعامل مع الاختلاف؟

فأول ذلك مما نحتاج أن نتبصره فيما يتصل بالتعامل مع الاختلاف: أن ندرك أولًا أن الاختلاف سنّة كونية، وقضية حتمية، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْه [هود:118-119].

بعض أهل العلم يقولون: "ولذلك" أي: للرحمة، للاجتماع، ولم يخلقهم للاختلاف، ولكن هذا أيضًا ليس محل اتفاق بين أهل العلم.  

فمنهم من يقول: "ولذلك خلقهم" يعني للاختلاف؛ لأن سنته الكونية قد اقتضت ذلك، فهما قولان معروفان.

وليس المقام هنا في بيان الراجح من القولين، وإنما الإشارة إلى هذا المعنى على أحد الاحتمالين.

فلا شك أن الاختلاف أمر متحقق الوقوع، لكن هذا يرجع إلى جملة من الأمور، نحن لابد أن ندرك التفاوت الذي قدره الله وقضاه في هذا الخلق، التفاوت في القُدر، والإمكانات، والعقول، والمدارك، التفاوت في العلم والمعرفة، فالناس يتفاوتون، يتفاوتون في النظر، والاجتهاد في طلب الحق، إلى غير ذلك من الجوانب.

فيبدو لهذا ما لا يبدو للآخر، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- بأنه ليس كل ما كان معلومًا متيقَّنًا لبعض الناس يجب أن يكون معلومًا متيقَّنًا لغيره، وليس كل ما قاله النبي ﷺ يعلمه كل الناس ويفهمونه، بل كثير منهم لم يسمع كثيرًا منه، وكثير منهم قد يشتبه عليه ما أراده، وإن كان كلامه في نفسه محكمًا مقرونًا بما يبين مراده[1].

إذًا الناس يختلفون ولابد؛ نظرًا لاختلاف العقول والمدارك في معرفة الأحكام، المقاصد، المآلات، تقدير المصالح.

كذلك يختلفون حتى في الأمور العادية في الأمزجة، والأذواق، والطبائع، والميول، فهذا يستحسن ما لا يستحسنه الآخر من المطعوم، والآخر لربما يستحسن من الألوان أو يستحسن من المراكب، أو الأثاث أو غير ذلك من أنواع الأموال ما لا يستحسنه غيره.

فتجد هذا لربما يستهجن شيئًا أو يستقبحه، والآخر يكون في حال من السكرة حينما ينظر إليه معجبًا.

وهكذا فاوت الله بين هؤلاء الخلائق، وهذه سنته الجارية، وهذا أمر مشاهد تجده في اللباس، وفي المساكن، والمراكب وغير ذلك مما يرتفق به الناس، فهذا لا ينكره أحد.

كذلك أيضًا يحصل التفاوت في التجرد في طلب الحق، والقدرة على التخلص من المؤثرات المتنوعة، مؤثرات نفسية، مؤثرات اجتماعية، إلى غير ذلك، والإنسان ابن بيئته كما يقال، يتأثر بها، والطبع لص، والناس كأسراب القَطا، جُبلوا على تشبه بعضهم ببعض.

فقد يصعب عليه الانفكاك من تأثير البيئة التي نشأ فيها، أو تأثير الطبيعة التي جُبل عليها، فهذا يميل إلى الشدة، وهذا يميل إلى اللين، فيؤثِّر في قوله، واختياره، وفتواه، وفي مواقفه ومصارمته، أو ملاينته، ونحو ذلك، إضافة إلى تفاوت المعلومات الشرعية أو الواقعية، يعني في الواقعة المعينة.

قد يخفى عليه بعض الجوانب والملابسات التي لو شرحت له لعذر غيره، أو لربما قال بقوله، لكن لديه بعض المعطيات، سمع من أحد الأطراف، قرأ كلامًا، فجعل ذلك هو الغاية والنهاية والفيصل الذي يتخذ من خلاله الحكم، أو الموقف الذي وقفه.

هذا كله يقع، فتختلف أحكامنا، وآراؤنا، ومواقفنا، والفتاوى التي تصدر عن المفتين، لكن قد يُعذرون في ذلك -كما سيأتي- حينما يستوفي المرء النظر ويكون مؤهلًا مع التجرد والإخلاص.

لكن المذموم -كما قال ابن القيم- بغي بعضهم على بعض وعدوانه، حينما أشار إلى هذه الأسباب التي تؤدي إلى الاختلاف لِمَا ذكرنا، وذكر أن الاختلاف إن كان على وجه لا يؤدي إلى الالتباس، وكان كل واحد من هؤلاء يقصد طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لابد منه في النشأة الإنسانية[2].

وحينما نقول: إن هذا أمر حتمي لابد منه، وإن علينا أن ندركه فليس معنى ذلك أن نبقى أمام الاختلاف في حال من الاستسلام والتسليم، ثم بعد ذلك تُمزق الأواصر، وتشتت الأمة.

فإذا كان هذا بقدر الله فإنه أيضًا من قدر الله ما يمكن أو يُطلَب مدافعته أيضًا بأمور شرّعها الله -تبارك وتعالى.

فيقاوم ذلك بالقدر أيضًا، ويمكن أن نتوصل إلى رفع بعضه، أو نتوصل إلى التخفيف منه، أو التخفيف من آثاره ومضاره ومفاسده، من السعي بتقريب وجهات النظر، تأليف القلوب، جمع الكلمة، أن نضع الاختلافات في إطارها الصحيح دون غلو منا أو مبالغة، أو تضييع أو تفريط، فيكون الموقف يجمع ويسدد، ويبني في الإطار الشرعي من غير تضييع لحدود الله ، وإنما يكون على الوجه المشروع الذي يحبه الله -تبارك وتعالى- ويرضاه، فالجماعة رحمة، والفرقة عذاب كما ذكر أهل العلم كشيخ الاسلام[3] وغيره.

فنحن في البداية نحتاج أن ندرك هذا من أجل أن تتسع الصدور قليلًا، ولا يضيق العَطَن بكل من خالفنا، فتحمر الوجوه، ثم بعد ذلك نتخذ مواقف غير لائقة من المخالفين.

إذًا لابد أن نختلف، لكن كيف نتعامل مع هذا الاختلاف؟ فهذه هي المقدمة الأولى.

وأنت حينما تجمع من أهل الاختصاص من أهل العلم ممن يبحثون مسألة في اختصاصهم بحتة، وتجمع هؤلاء تحت سقف واحد، ويدرسونها دراسة مستفيضة وقد تهيئوا لها، وقرءوا ما أُعد وكتب فيها من قِبل الملقين.

ثم بعد ذلك يجتمعون ويناقشون، قد تجد أن بعض هؤلاء يذهب في الفهم شرقًا، والآخر يذهب في الفهم إلى الناحية المقابلة.

كل ذلك يرجع إلى ما ذكرنا أن الله فاوت بين العقول، فهذا ينظر إلى هذه المسألة من زاوية، وهذا ينظر إليها من زاوية، فهذا يصدر حكمًا، وهذا يصدر حكمًا، مسألة بحتة لا تعلق لها بالأهواء، مسألة علمية، ويتناقشون فيها، ويتحاورون، وقد شهدت هذا بنفسي في بعض الملتقيات العلمية البحتة، ولا يحضر إلا أهل الاختصاص فقط، وهؤلاء يخرجون بهذا الرأي، والآخرون يخرجون بالرأي الآخر، وكلهم قد قرأ الأبحاث نفسها والأوراق التي قدمت، قرءوها من قبل، واطلعوا عليها، وهم من المختصين، ومع ذلك هذا يذهب هنا، وهذا يذهب هناك، فكيف إذا كانت المعلومات أصًلا متفاوتة، وهؤلاء في ناحية وأولئك في ناحية أخرى، ولا يحصل بينهم لقاء، ولا يسمع هذا من هذا؟، فهذا أدعى للاختلاف، والله المستعان.

التمييز بين أنواع الاختلاف:

بعد ذلك إذا عرفنا هذه المقدمة -وهي الأمر الأول- نحتاج أن نعرف أيضًا مقدمة أخرى وهي الأمر الثاني: أن نميز بين أنواع الاختلاف.

الاختلاف ليس على سَنن واحد، ولا نوع متحد، بل يتفاوت، يختلف، يتنوع، لكن المشكلة حينما لا نحسن التعامل معه، إما للخلط بين أنواعه، وإما للبغي -كما سبق- الذي يجعلنا نختلف اختلافًا مذمومًا فيما لا يُذم شرعًا من الاختلاف في أصله.

اختلاف التنوع:

فالاختلاف مثلًا منه ما يكون من قبيل التنوع، سواء كان اختلاف عبارة، أو اختلافًا في الأمر المشروع، كاختلاف القراءات الصحيحة المتواترة، أو اختلاف في أنواع التعبدات، أو اختلاف في الأبواب التي يُفتح على الإنسان من خلالها العمل الصالح.

فهذا يُفتح له في الدعوة إلى الله، وهذا يُفتح له في الذكر والقراءة وسائر العبادات البدنية مثلًا، ونحو ذلك، فهذا من قبيل اختلاف التنوع، لا إشكال فيه، وهو مطلوب، ويحصل به التكامل، وتنهض الأمة بفروض الكفايات، ولكن حينما يتحول هذا إلى نوع من الاختلاف المذموم فهذا لا يمكن أن يُقبل.

يعني إذا كان كما تعلمون أن السبب الرئيس في جمع عثمان الناس على مصحف واحد هو الاختلاف في وجوه القراءة، لما اجتمع الأجناد من أهل الشام والحجاز، والعراق في فتوح أرمينيا، وأذربيجان، فصار يقول هذا: قراءتي خير من قراءتك، وهذا يقول: قراءتي خير من قراءتك، وصار الاختلاف في مثل هذه القضايا، مع أن القرآن أُنزل على سبعة أحرف، فهنا يفترض أن لا يكون هذا مجالا للأخذ والرد، ولا الإنكار ولا التفرق، ولكن الجهل أحيانًا، أو البغي يورث مثل هذه الأحوال والمواقف.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- يذكر أن الاصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء، ليس لأحد خروج عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الاسلام المحض، وهم أهل السنة والجماعة، وما تنوعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوعت فيه الأنبياء[4].

هذا عنده اهتمامات علمية، العلم وتعليم الناس، لا يعاب عليه، يقوم بفرض كفاية، وهذا يقوم بتلقين الصبيان، وذاك يقوم بدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، هذا كله حق وعمل صالح، فلا يصح لأحد أن يحتقر عمل أحد، أو أن يجفو أخاه بسبب هذه الأمور، فهذا يرجع إلى نقص العقل قبل كل شيء، ثم أيضًا نقص العلم، واتباع الهوى.

للأسف هذا قد يؤدي بالأمة إلى شيء من التنافر والقتال أحيانًا، كما حصل مما يذكره شيخ الإسلام، على سبيل المثال: مسائل فقهية: شفع الإقامة وإيتارها، قوم من الجهال، أو من أهل التعصب هؤلاء يرون أن الإقامة تشفع، وهذه قضية ثابتة لا إشكال فيها، وهذا من باب التنوع في العبادات، وهؤلاء يرون الإيتار، فإذا جاء من يشفع وهم لا يعهدون هذا ولا يعرفونه قاموا عليه قومة رجل واحد[5].  

وكما ذكرنا لكم في مسائل تتعلق بالتكبير، ونحو هذا، فهؤلاء لا يحتملون وجود المخالفة، ولو كان ذلك من قبيل العمل المشروع،  فهذا تارة يفعلونه من باب الجهل، وتارة يفعلون ذلك من باب البغي واتباع الهوى.

وانظروا إلى ما يجري في بلاد قد توجد فيها أقليات إسلامية، فإذا جاء دخول شهر رمضان، أو جاء العيد، أو نحو ذلك تجد مسألة المطالع، واعتبار المطالع، أو إذا رآه بعض الأمة، هل يلزم ذلك الجميع؟ هذه مسائل خلافية، ولا يُطلب أن تتوحد الأمة جميعًا فيما يتعلق بدخول شهر رمضان، أو العيد.

لكن ما الذي يحصل؟ الذي يحصل بسبب الجهل والبغي أن هذا العيد قد يتحول إلى خلاف مرير، ولربما يصل ذلك إلى الاقتتال.

هؤلاء يقولون: ما تصلون العيد اليوم، وهؤلاء يقولون: سنصلي اليوم، رُئي الهلال، ثم بعد ذلك يحصل ما لا يليق في بيوت الله وأمام هؤلاء من الكفار يشاهدون وينظرون حال هؤلاء المسلمين في مثل هذه المناسبة.

يصل أحيانًا إلى عراك بالأيدي بين أهل المسجد، هؤلاء يقولون: نصلي، وهؤلاء يقولون: غدًا العيد، وهكذا، فمثل هذا لا يجوز بحال من الأحوال.

وكذلك قد يكون القول هو في معنى القول الآخر، وهذا من قبيل اختلاف التنوع، لكن اختلفت العبارة، فعند ذلك من الظلم أن يحصل التفرق بناء على هذا.

هذا عبر بهذه العبارة، وهذا عبر بهذه العبارة، أو نحو ذلك، المؤدى واحد، فهذا ليس باختلاف، إنما يكون اختلافًا عند الجهال.

وكذلك قد يتغاير المعنيان، ولكنهما غير متنافيين، ليس بينهما تنافٍ، فهذا قول صحيح، وهذا قول صحيح لا باعتبار أن كل مجتهد مصيب، ليس كذلك، لكن أحيانًا كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله: قد يقع ذلك من جهة أن هذا الحكم صحيح باعتبار، وهذا الحكم صحيح باعتبار آخر[6]، فمن الخطأ أن يكون مثل هذا الاختلاف سببًا أيضًا للتفرق.

كذلك قد تكون كل طريقة من هذه الطرق، أو كل عمل من هذه الأعمال مشروعًا، ولكن البغي يجعل ذلك في لَبوس آخر، هذا كله من قبيل اختلاف التنوع الذي لا يوجب شرًّا، وليس باختلاف في حقيقته.

اختلاف التضاد:

أما اختلاف التضاد، أو حينما يكون القولان متنافيين، إما في الأصول وإما في الفروع، باعتبار أن المصيب واحد، وأن الحق عند الله واحد، ولا يقال: إن كل مجتهد مصيب.

فهذا يكون أحد القولين مرجوحًا، والآخر راجحًا، ومن ثَمّ ينبغي أن نعرف كيف نتعامل مع مثل هذا النوع الذي يحصل فيه مثل هذا التنافي.

فهو ليس على وزان واحد، إذ إن منه ما يكون سائغًا مبررًا مقبولًا، ومنه ما لا يكون كذلك، هذا النوع من الاختلاف -اختلاف التضاد- منه ما يُقبل، وله مسوغاته، والعلماء -رحمهم الله- ألفوا في هذا كثيرًا، وأشرت من قبل إلى كتاب: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لشيخ الإسلام ابن تيمية وفيه يذكر أسباب اختلاف العلماء، سواء كان ذلك مما يرجع إلى النقل أو مما يرجع إلى المستدِل المجتهد في معطيات وأمور وأسباب معلومة.

فهذا الاختلاف -اختلاف التضاد- السائغ يكون من قبيل تنوع الاجتهادات في المسألة الواحدة، مما يحتمله النص الشرعي، وقد لا يمكن معه القطع بتخطئة أحد هذه الاجتهادات، لكن المسألة من باب غلبة الظن بأن هذا هو الراجح والآخر مرجوح.

فهنا لا يصح بحال من الأحوال إطلاق الأحكام بناء على ذلك بالتضليل والتفسيق، أو الرمي بالكفر، أو اتخاد المواقف مما يتصل بالولاء والبراء بناء على الاختلاف في مسائل اجتهد فيها المجتهدون، فحصل الخطأ من بعضهم ووافق بعضهم الصواب؛ لأن ذلك مما يسوغ الخلاف فيه، ومن ثَمّ فإنه لا يمكن أن تقبل الشناعة في مثل هذه القضايا، سواء كان ذلك في مسائل الأحكام في العبادات، أو المعاملات، أو كان في غير ذلك من السياسات الشرعية، أو كان ذلك مما يتصل بالدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، أو غير هذا من الأمور، هذا يكون فيه التحاور والتناصح بين أهل العلم، بين النَّصَحة، بين الصادقين، بين المخلصين.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- يذكر أن الصحابة اختلفوا في مسائل علمية وعملية، ولكن بقيت المودة والألفة بينهم[7].

هل رأى النبي ﷺ ربه؟ هذه مسألة علمية، تتصل بالعقيدة، لكن لا يترتب عليها افتراق وتنازع مذموم يحصل معه التدابر والتقاطع واستحلال الأعراض، وما أشبه ذلك.

هل يعذب الميت ببكاء أهله عليه؟ هذه أيضًا من المسائل العلمية، فضلًا عن المسائل الفقهية في قضايا الأحكام.

فهنا حتى لو كنت تقطع بخطأ قول مخالفك، لكن يبقى أن هذا فيه مساغ، وأنه يمكن لهؤلاء من أهل العلم أن يجتهدوا، ومن ثَمّ فإنهم إذا اجتهدوا ستختلف اجتهاداتهم وآراؤهم، وهذا في المسائل التي لا يوجد فيها إجماع أو نص صحيح صريح، لا معارض له من جنسه، مع استفراغ الوسع -يعني: من غير تفريط، والتجرد من الهوى والتعصب، فبهذه الحال إذا اختلفت الأقوال فإن أصحابها معذورون، من أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد، وهكذا من يقلدهم؛ ولذلك نقول للعامة: لا تقلق إذا كنت قد سألت العالم، فقد فعلت ما أمرك الله به، فالله -تبارك وتعالى- يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

فحينما يسأل غير متخير لأقوالهم مما يوافق هواه -أعني العامي- وإنما يسأل من يثق بدينه وعلمه، فهذا هو الواجب عليه ولو كان ذاك الذي قد أفتاه وأجابه قد أخطأ في اجتهاده، فكما أن المجتهد معذور، فهكذا من قلده فهو معذور.

فإن أخطأ العالم الذي أفتاه فلا يلحق هذا العامي حرج، إلا إذا كان إنما قلده طلبًا لما يوافق هواه، يعني: هو يعرف أن هذا القول أسهل له، فيسأل هذا، أو يسأل هذا؛ لأنه يعرف أنه مرن -كما يقال- ويسهل، وفتاواه -كما يقال- سهله وسمحة، فهنا لا تبرأ ذمة العامي، أو أن يسأل اثنين أو أكثر، ثم بعد ذلك يتخير من أقوالهم ما يوافق الهوى، فإنه لا يكون معذورًا بهذه الحال.

لكن إذا سأل من يعتقد أنه تبرأ الذمة بفتياه لعلمه وورعه أو أنه الأعلم أو نحو ذلك والأورع فإنه يكون معذورًا بهذا الاعتبار.

وهؤلاء العلماء قد استفرغوا الوسع، وفعلوا ما أُمروا به ومن ثَمّ فإنهم معذورون، ويستوي في هذا المسائل العلمية والمسائل العملية لا فرق.

وحينما نقول: إن الشريعة تنقسم إلى أصول وفروع، أو إلى مسائل علمية وعملية، فإن هذا التقسيم لا أصل له شرعًا، ولم يُعهَد لدى أصحاب النبي ﷺ لكن غاية ما هنالك أننا نقول بأن هذا اصطلاح، ولا مشاحّة في الاصطلاح، مع أن العلماء -رحمهم الله- لم يتفقوا على ما يرجع إلى الأصول، وما يرجع إلى الفروع، لكن نقول: هذا لا بأس به في مقام التعليم، والتقريب والشرح والبيان.

فيقال: هذه مسائل كذا، وهذه مسائل كذا، لكن القاعدة أن الاصطلاح لا مشاحة فيه، بشرط ألا يُرتَّب عليه حكم، فإذا رُتب عليه حكم فإنه لا عبرة به.

كأن نقول مثلًا بأنه يعذر إذا أخطأ في مسائل الفروع، ولا يعذر إذا أخطأ في مسائل الأصول، أو يعذر إذا أخطأ في المسائل العملية ولا يعذر في المسائل العلمية.

نقول: هناك مقدمة قبل ذلك، وهي أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع لا أصل له، والصحابة اجتهدوا في هذا وهذا، ووقع منهم الخلاف، ومع ذلك لم يحصل تأثيم، ولا افتراق، ولا مشاحنة، ولا تدابر، أو استحلال للأعراض، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، لا يكلف نفساً إلا ما آتاها.

بل إن شيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أن المذاهب والطرائق والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء ليكونوا مستمسكين بالملّة والدين الجامع الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له واتبعوا ما أُنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنة بحسب الإمكان بعد اجتهادهم التام، هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع، والمناهج للأنبياء وهم مثابون على ابتغائهم وجه الله وعبادته وحده لا شريك له[8].

هذا له طريقته في الدعوة، وهذا له طريقته في الدعوة، هذا له طريقته في التربية، وهذا له طريقته في التربية، إذا كان ذلك في الإطار الصحيح بما لا يخالف الشرع فهذا لا إشكال فيه، ولا يجوز غمز الناس، ولمز الناس، والتشاحن والتقاطع بسبب مثل هذه الأمور، فشيخ الإسلام يرى أن ذلك بمنزلة تنوع شرائع الأنبياء، فهل نحن تتسع صدورنا كما وقع لشيخ الإسلام من سعة الصدر، وحسن النظر والتعامل مع مثل هذه الأمور؟.

وله كلام في هذا يحسن مراجعته، والله -تبارك وتعالى- أيضًا لو شاء لجعل النصوص بحيث لا تحتمل غير وجه واحد، ولكن جعلها محتملة؛ لتتطرق إليها هذه الوجوه من الاحتمالات، سواء كان ذلك في نصوص القرآن أو السنة، ومن ثَمّ فإن العالم يفهم من هذه الآية معنى، والآخر يفهم منها معنى آخر.

وانظروا إلى كلام السلف في التفسير، وفي غيره في استنباط الأحكام، وما إلى ذلك، فإن بعض ذلك يرجع لكون النص يحتمل، والمثال المشهور الذي يذكره العلماء في الاختلاف من جهة رجوعه إلى النص لكونه يحتمل: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة[9]، فهذا يحتمل أن يكون المراد به الجد في السير لكن تصلى في الوقت، ويحتمل أن يكون على ظاهره بحيث إنه لا يصلي حتى يصل إلى بني قريظة، اختلفوا، ثم ماذا؟ لم يكن هذا الاختلاف سببًا للتباعد، والاشتغال ببعضهم، هذا يقول: أضعتم الصلاة حتى خرج الوقت، لو كان مثل أولئك الذين وصفنا حالهم من الخوارج لربما قالوا لهم: أخرتم الصلاة حتى خرج الوقت وإذا تركها حتى خرج الوقت من غير نسيان فإنه يكون كافرًا؛ لأنه قد تركها، والله جعل الصلاة على المؤمنين كتابًا موقوتًا، فلا يصح إيقاعها في غير وقتها، يمكن لجاهل من هؤلاء أن ينظر بمثل هذه الطريقة، لكن أصحاب النبي ﷺ لم يقع منهم شيء من ذلك.

ومن هنا فإن هذا المعنى ينبغي أن يعتبر، وعندها نقول: يجب أن يكون في مثل هذا النوع من الاختلاف إحسان الظن بالمخالف، ولا يجوز أن يتحول ذلك إلى نوع من المصارمة والمهاجرة والمقاطعة، وانتهاك الحقوق أو الرمي بالعظائم، بل تُحفظ له حقوقه ويُدعى له، ويحب لما فيه من الإيمان.

كذلك في مثل هذه القضايا فإن اللائق بأهل العلم هو المذاكرة والمدارسة مع بقاء الألفة والمودة، لا أن تكون القاعدة: من لم يكن معنا فهو علينا، هذا غير صحيح.

كذلك أيضًا ليس لأحد من الناظرين في الشريعة أن يطالب الآخرين ممن هم مؤهلون للاجتهاد أن يلغوا اجتهاداتهم، وأن يفكروا بعقله هو في مثل هذه الأمور التي يسوغ فيها الاجتهاد.

فلا يمكن أن يُطالَب الناس بمثل هذا ويقال لهم: ألغوا عقولكم، ولو فعلوا ذلك لكانوا آثمين، ولم تبرأ الذمة بفعلهم هذا وتقليدهم، وهم أهل للاجتهاد.

بل إن شيخ الاسلام -رحمه الله- تكلم على مثل هذا بكلام في غاية الشدة، يعني: فيمن ترك نظره واجتهاده فيما يسوغ فيه الاجتهاد وما توصل إليه؛ ليتبع غيره فيما يقوله أو يحكم به، يقول: حتى لو أوذي، حتى لو حبس، عليه أن يصبر، فهذه سنة الله في الأنبياء وأتباعهم[10].

ثم يذكر ما يجب على ولاة الأمور من منع التظالم، يقول: "فإذا تعدى بعضهم على بعض -يعني هؤلاء الذين يختلفون- فإنهم يمنعونهم من العدوان، فكيف يسوغ لولاة الأمور أن يمكِّنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض، وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه؟.

يقول: هذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها، فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا...[11] إلى آخر ما ذكر.

ويقول: وأما من تجرّد من الهوى وطلب الحق واستفرغ وسعه في ذلك لعدم بلوغ الدليل أو غير ذلك مما يعذر به مثله فإنه لا يلحقه إثم ولا مؤاخذة؛ لكونه فعل ما يقدر عليه والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.

وذكر من اختلاف أصحاب النبي ﷺ، والله علمنا أن نقول: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286]، قال الله: قد فعلت[12]، كما في الصحيح.  

يقول: "والمقصود أن أهل الصلاح والتقوى إذا وقعوا في بدعة متأولة، وليست غليظة، فهؤلاء تجب موالاتهم ومحبتهم؛ لأن ما وقع منهم من قبيل الهفوة والزلة التي لا تنسخ ما لهم من صلاح وتقوى، فهؤلاء وأمثالهم معذورون؛ لأنهم مجتهدون لم يقصدوا فعل الحرام، ولا مخالفة السنة، ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذمومًا معيبًا ممقوتًا فهو مخطئ، ضال، مبتدع"[13].

هذا الذي يريد من الآخرين أنهم يفكرون كما يفكر ويمشون خلفه، وإلا بدّعهم وضللهم واستحل أعراضهم وأقام الشناعة عليهم ورماهم بالألقاب القبيحة.

شيخ الإسلام يقول: من جعل هؤلاء في هذه المثابة -جعل المخالف مذمومًا ممقوتًا معيبًا- فهو مخطئ، ضال، مبتدع.

يعني هو أولى بالبدعة من ذاك الذي رماه بها، فهذا في الاختلاف السائغ.

الاختلاف غير السائغ:

لكن الاختلاف الآخر غير السائغ هذا حينما يكون وجه الحق مما يُقطع به، والآخر مما يقطع بخطئه، ومن الذي يزن مثل هذه الأمور؟ إنما هم العلماء من الراسخين، وليس أولئك الذين بين العامة وبين أهل العلم، فإن هؤلاء -كما سبق- هم منشأ هذه الفتن والمشكلات.

فشيخ الإسلام -رحمه الله- يذكر مثل هذا المعنى أن مثل هذه القضايا التي تخالف أصول الايمان، أو من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، أو ما خالف الإجماع، أو ما خالف النص الذي هو ظاهر الدلالة والحُجية، ولا يعارضه إلا أقوال الرجال، يقول: مثل هذا النوع يُبيَّن خطؤه، ويُعلَّم الجاهل، وتزال الشبهة، ويُنكَر على من وقع في شيء من ذلك.  

ونحن نجد إذا نظرنا في نصوص القرآن من جهة الحكم على المختلفين أن الله -تبارك وتعالى- تارة يذم الطائفتين جميعًا، كما قال الله وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود:118]، فهذا الاختلاف المذموم، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:119].

فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف، وقال: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:176]، فهؤلاء كل طائفة منهم يلحقها الذم.

وكما في قوله: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران:19].

فهذه الطوائف مذمومة.

وكذلك لما وصف اختلاف النصارى، قال: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:14].

واختلاف اليهود: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [المائدة:64].

فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:53].

فهذا الاختلاف يُذم به المختلفون من الطائفتين، أو الطوائف المختلفة، هذا يرجع تارة إلى فساد القصد، يقول شيخ الإسلام: "لِمَا في النفوس من البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض، ونحو ذلك، فيحب لذلك ذم قول غيره أو فعله أو غلبته؛ ليتميز عليه، أو يحب قول من يوافقه في نسب، أو مذهب، أو بلد، أو صداقة، ونحو ذلك؛ لما في قيام قوله من حصول الشرف والرئاسة، وما أكثر هذا"[14]. هذه أشياء دقيقة.

الشيخ المعلمي -الذي أشرت إلى شيء من كلامه من قبل- كان يذكر أشياء دقيقة جدًّا، يقول: تجد المرأة أحيانًا تميل إلى قول عائشة -ا- إذا اختلفت مع أبي هريرة، أو مع عمر أو مع ابن عباس يقول: تميل إلى قولها، لماذا؟ لأنها تشعر أن رجحان قول عائشة هو انتصار للنساء، هكذا تفكر، فيكون ذلك من مداخل الهوى الدقيقة في النفوس، ويذكر أمثلة على هذا.

يقول: اختبر نفسك، حينما يُعرض عليك قولان، ويقال: اختلف فيهما عالمان، ثم بعد ذلك حينما تنظر في القولين، قد يترجح عندك أحدهما، لكن لو قيل لك: إن المختلفيْن أحدهما تجله، وهو شيخك، والآخر لربما تنقبض منه.

يقول: فإلى أيهما تحب أن يكون قول الشيخ الذي تحبه؟، يقول: هذه من مداخل الهوى[15].  

وهذا شيء مشاهد وجربناه في التدريس والتعليم، إذا كنت تدرِّس في مكان يجمع مذاهب شتى، وتجد هؤلاء من طلاب العلم من المتخصصين في العلوم الشرعية، فتذكر لهم القاعدة أحيانًا، قاعدة واضحة، فيطرب لها الطلاب ويعجبون بها، ثم يطالبونك بالأمثلة والتطبيقات، فإذا ذكرت قولاً مما استهجنه هؤلاء الطلاب مما يخالف هذه القاعدة مثلًا، إذا نسبته إلى الإمام الذي يقلدونه غيروا الجلوس، تغيرت الوجوه، وتغيرت هيئة الجلوس، أعادوا، تحركوا من أماكنهم، ثم قالوا: أعد القاعدة من جديد، هذا وقع معي مرارًا.

ولذلك لا أحب أن أذكر أمثلة، والآن لو ذكرت لكم أمثلة واقعية فيما نحن فيه من الاختلافات هنا أو هناك مما يقع بين الدعاة إلى الله، أو غير الدعاة إلى الله على أمور: هؤلاء أخطئوا، لا، هؤلاء الذين أخطئوا، هؤلاء هم الذين كانت المشكلة منهم، وهؤلاء يقولون: لا، هؤلاء المشكلة منهم، ثم بعد ذلك تذهب ريح الجميع، بعد هذا العراك.

لو تكلمنا على هذا والموقف والطريقة الصحيحة، وما ينبغي، وهل هذا خلاف مذموم أو لا لغير بعضكم جلسته وبدأتم تنظرون إلى الأمثلة بمنظار آخر، وإلى القواعد والأصول، وكلام شيخ الإسلام، وغير شيخ الإسلام بطريقة أخرى.

القضايا الساخنة التي لربما يحتدم النقاش فيها في المنتديات، والمواقع على الشبكة، فهذا له رأي، وهذا له رأي، ومن المخطئ؟ ومن المصيب؟ وهؤلاء يتهمون هؤلاء، وهؤلاء يتهمون هؤلاء، وهؤلاء يقولون: أنتم السبب، وهؤلاء يقولون: أنتم السبب.

فلو أردنا أن ننزل هذه الأمثلة، أو آتيكم بمثال مما يُحتمل فيه الخلاف مثلاً من أقوال أهل العلم في المسائل الفقهية مما لم تعهدوا سماعه، مما يُفتَح لصاحبه أحيانًا -كما يقال- هاشتاج، مسألة فقهية، أفتى فيها باجتهاد، لكن ما عهدنا هذا الاجتهاد، ونقيم عليه شناعة، ونبدأ نتهم هذا الإنسان، أو في مشكلة تقع أو نحو ذلك، فيبدي بها رأيه.

قد يكون هذا الرأي غير حكيم، قد يكون ليس هذا وقت إبداء هذا الرأي، لكن أبدى رأيه، ولا يُعرف عنه سوء، هذا اجتهاده، رجل له حسنات، رجل لا يعرف عنه إلا الخير، واتباع الكتاب والسنة، أخطأ.

لو مثلنا لكم الآن ببعض الأمثلة في مسائل فقهية بحتة، أو في مسائل مما يتجاذبه الناس الآن مما يجري في بلاد المسلمين في شرقها وغربها، لربما يبدأ الإنسان يعيد البرمجة من جديد في سماع كلام هؤلاء العلماء، وفهم النصوص، وما إلى ذلك.   

ويبدأ يحسب حسابات كل كلمة، هذا لا يكون المقصود به أيضًا كذا، وهذا لا يكون المقصود به كذا، فتبدأ النفس الأمارة بالسوء والهوى يعملان عملهما، وهكذا.

فهذا يقع بين المختلفين كثيرًا، الجهل والظلم هما أصل كل شر -كما يقول شيخ الإسلام، قال الله تعالى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: 72] هو ما يعرف المدى الذي ينبغي أن يقف عنده، ولا يعرف مدى الخلاف الذي يمكن أن يحتمل أو لا يحتمل.  

وكذلك البغي والظلم لهؤلاء في أمور لا تحتمل ذلك.

هذا الاختلاف في هذه المسائل الفقهية، وغير الفقهية منه ما هو خلاف شاذ، يعني: لو جاء إنسان وقال: إنه يستحل نكاح المتعة، وأخذ بقول قاله أحد السلف، نقول: ليس لك ذلك، فهذا خلاف شاذ لا عبرة به.

هناك أيضًا عندنا اختلاف ضعيف، نعم، اختلاف ضعيف، فهنا لو جاء من يقول به، قول ضعيف ظاهر الضعف، فهنا لا ينبغي أن يتبنى الإنسان مثل هذه الأقوال الضعيفة.

هناك اختلاف قوي، فهذا لا إشكال فيه، يعني: هل الطلاق ثلاثًا مثلاً يقع واحدة، أو يكون ثلاثًا؟ هل يقع الطلاق في حال الحيض، أو لا يقع؟

هذا يتبنى هذا القول، وهذا يتبنى هذا القول، هذا يقول: يجب قراءة الفاتحة خلف الإمام، وهذا يقول: لا يجوز قراءة الفاتحة خلف الإمام -يعني: في الجهرية، فمثل هذا لا ينبغي أن يكون محلا للتفرق، ونحو ذلك.

وأيضًا مما يذكر في هذا المقام: ما قاله شيخ الإسلام -رحمه الله: إن من عمل في مسائل الاجتهاد بقول بعض العلماء، لم يُنكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء[16].

وكما ترون أيضًا هؤلاء العلماء من باب أولى سيتحفظون ويتحرزون من إطلاق لفظ التبديع أو التكفير على هذا المخالف إذا كان خلافه محتملًا، إذا كان اختلافه سائغًا، وإن كان غير سائغ فإنهم أيضًا يحترزون في تنزيل ذلك على المعين، وقد يحكمون بأن القول هذا، أو بأن المذهب الفلاني كفر، ولكنهم يتحرزون عند تنزيل ذلك على الأعيان.

يعني: مثلًا مسألة خلق القرآن، أفتى بكفر من قال بخلق القرآن خمسمائة من العلماء، لكن حينما يأتي التنزيل على الأعيان الأمر هنا يختلف، كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله: إن الإمام أحمد -رحمه الله- ترحم على هؤلاء، واستغفر لهم[17].

لعلمه بأنهم لم يُبيَّن لهم، ولم يكشف أن قولهم هذا هو تكذيب لما جاء به الرسول ﷺ أو جحد له، ولكن تأولوا وأخطئوا، فقلدوا غيرهم.

يعني مثل المعتصم، فما كفّر المأمون، ولا كفر المعتصم وقد حُبس في زمان المعتصم، وجلد وضرب، وهو صائم في رمضان، ثم لاحظوا أنه ما حمله هنا ردود أفعال هذا الظلم الذي وقع عليه إلى القول بأنهم كفار.

بل لما اجتمع بعض أهل العلم وأرادوا أن يخرجوا على هؤلاء؛ لأنهم أرادوا أن يحملوا الناس على القول بخلق القرآن حتى الكتاتيب، يعني: الأطفال الذين يتعلمون مبادئ التلاوة والقراءة، والقاعدة البغدادية، كما يقال أو نحو ذلك، يتعلمون القرآن والمبادئ، أرادوا -يعني هؤلاء المعتزلة- بقوة السلطان أن يحملوا هؤلاء الأطفال على القول بخلق القرآن.   

وإذا جاءوا عند فكاك الأسير الذي عند الكفار امتحنوه، قالوا: ما تقول في القرآن؟ فإن قال: كلام الله غير مخلوق تركوه عندهم، فإذا أقر بأنه مخلوق دفعوا الفداء وأطلقوه، إلى هذا الحد!.

فلما اجتمع بعض من يريد أن يخلع هؤلاء ويخرج عليهم نهاهم الإمام أحمد عن ذلك، مع أنه يقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، لكنه ما كفر هؤلاء، وجعل المعتصم في حلٍّ لما فتح عمورية.

شروط تسويغ الخلاف:

حينما نقول: الخلاف منه ما هو سائغ فهناك شروط لابد من مراعاتها لتسويغه:

الشرط الأول: أن يكون صادرًا عن مؤهل للاجتهاد في الموضوع الذي تكلم فيه.

لحديث القضاة الثلاثة[18]، الذي عرف الحق قضى به، عرف الحق لم يقضِ به، والثالث: لم يعرف الحق فقضى للناس بجهل.

ابن القيم لما ذكر هذا في إعلام الموقعين قال كذلك -ما هو فقط القضاة- بأن المفتين أيضًا ثلاثة، إذ لا فرق بينهما، إلا أن القاضي يُلزِم بخلاف المفتي[19].

فهذا الاختلاف الآن لابد أن يكون صادرًا عن مؤهل، والمشكلة أننا الآن في تفاقم هذا الاختلاف بيننا يتكلم كل أحد، كل أحد، حتى من لا يحسن الكتابة، من لا يحسن الإملاء، من لا يحسن الفهم، ليس عنده مقومات للفهم.

يعني: التعليق يدل على أنه ما هو بفاهم أصلًا الموضوع الذي يُناقَش، التعليق مضحك، التعليق يتكلم عن شأن آخر، يتكلم عن شيء آخر غير ما هم بصدده، هو سمع كلمة، قرأ كلمة في التعليق، تهجاها وظن أنهم يتحدثون عن القضية الفلانية التي سبقت إلى ذهنه، وهم يتكلمون عن شيء آخر، فعلق هذا التعليق الذي ينادي به على نفسه بالجهالة، وأنه موغل فيها، ولو كان يدري لما علق وما كتب، ولكن الإنسان لا يرى عيبه، وخطأه وجهله، والموفق من وفقه الله -تبارك وتعالى.

إذًا لابد أن يصدر عن مؤهل، ومن ثَمّ فإن أرباع، أنصاف، أثمان، أعشار المتعلمين، هؤلاء ينبغي أن يكفوا، وأن يشتغلوا بذكر الله وقراءة القرآن والتسبيح، ويتركوا القضايا الكبار لأهل العلم الراسخين.

لابد أن يوجد في كل عصر من العلماء الراسخين، لا يمكن إلا أن يقوم قائم لله بحجة في كل زمان، ولا يمكن أن يخلو العصر من هؤلاء، وكما قال الإمام أحمد -رحمه الله: "إنما الناس بشيوخهم، فإذا ذهب الشيوخ فمع من العيش؟[20].

ولو أنه كف كل واحد ممن لا يحسن لانتفى كثير من الشر، لكن الآن أكثر من يتكلم هم الذين لا يحسنون، وللأسف قد يتصدر، وتجد هذا الحساب أو الموقع الذي قد أعده لهذا الغرض لربما يتابعه عليه أعداد هائلة من الناس؛ لأنه الأطول لسانًا والأعلى صوتًا، والحق ما يُعرف بهذا، ليست القضية مبادرة، ولا جرأة، فإن العالم قد يتأنى، ويتوقف، ويخاف، ويحسب حسابات في موقفه بين يدي الله -تبارك وتعالى- حينما يسأله عن كل كلمة قالها في أمور قد تتعارض عند العالم فيها أشياء.

ولذلك تجد أن الجاهل أحيانًا يسبق إلى ذهنه معنى، فيبادر بالجواب في مسائل يتوقف فيها العلماء؛ لأنه أصلًا هو لا يرى إلا من ثقب الإبرة، بينما العالم يرى أشياء كثيرة، ومعطيات مختلفة، وقواعد متنوعة تتجاذب المسألة، وأدلة، فيجلس يتأنى فيها.   

كان الإمام مالك -رحمه الله- يتردد عليه الواحد الذي يأتي من الأندلس أيامًا حتى يأتي في نهاية المطاف ومعه راحلته، ويقول: يا إمام، عزمت على السفر -يعني أعطني الجواب- يقول: لم يتبين لي شيء، يقول: كيف أرجع للناس؟، قد أتيت من قوم يقولون: مالك أعلم أهل الأرض، فقال: ارجع إليهم، وقل: مالك لا يدري[21].

مسائل لو سئل عنها بعضنا لبادر في الإجابة، إذًا هنا مشكلة، عدم الأهلية يزيد من هذا الاختلاف، يزيد من الشقاق، يزيد من التنازع، يزيد من الشر بيننا من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت[22]، يتكلم الإنسان فيما يُحسن، ويترك ما لا يحسن.

تصور لو كان هذا الأمر في جوانب أخرى مثلًا في أمور في الطب والعلاج، ونحو ذلك، فصار كل واحد يتكلم برأيه، وصارت هناك شناعة على الأطباء، وتسفيه لوصفاتهم، وأقوالهم، وقراراتهم وما يشيرون به إلى المريض، ما الذي يحصل؟، وهذا قد يفعله بعض الناس.

ومن الطرائف: حدثني أحد الفضلاء أنه أعياه طلب العلاج لعلة عارضة، لكنها بقيت أشهرًا، يقول: فذُكر له أحد المستشفيات المتميزة، فذهب إليها وانتظر حتى جاءه الدور فدخل على الطبيب -وقد سافر إليه- فذكر له وصفه، فلما خرج كان يحادث أحد العامة في وقت الانتظار، فأراد أن يسلم عليه، هو ما يعرفه لكن تعرف عليه في مجلس الانتظار، فجلس، قال: ماذا أعطاك؟ قال: أعطاني كذا، وكذا، فقال له: لا، هذه لا خير فيها، ولا فائدة ولا جدوى، يقول: فما وجدت نفسي إلا ألقيها في سلة المهملات، وقال: خذ كذا، وكذا من الأشياء، رَشَاد وأشياء من الأعشاب وكذا، هو يتعجب من نفسه، كيف وقع منه مثل هذا؟ سافر إليه، وجلس يحجز موعدًا مدة، ثم لما أعطاه الدواء بهذه الطريقة وبهذه السهولة يلقيه، هذا لما تكلم تكلم فيما لا يُحسن، ولو كان كلامه صحيحًا فما الذي جاء به إلى الطبيب؟ كيف أفسد على هذا، هذا المجيء، وهذه الاستشارة، وهذا العلاج، وهو جالس ينتظر الدور، فيكتفي بما عنده، ولكن حينما يتحدث الإنسان عما لا يُحسن يُفسد كثيرًا.

وكما يقول ابن الصلاح: "الاجتهاد الواقع على خلاف الدليل القاطع كاجتهاد من ليس من أهل الاجتهاد"، لاحظوا: هذه القضية يراعونها، يقول: "في إنزالهما منزلة ما لا يعتد به، ويُنقض الحكم به"[23]، يعني حتى لو كان قاضيًا.  

وكذلك ابن حزم يذكر أنه لا آفة أضر على العلوم وأهلها من الدخلاء فيها، وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدّرون أنهم يصلحون[24].

ويقول في موطن آخر: "وإن قومًا قوي جهلهم وضعفت عقولهم، وفسدت طبائعهم يظنون أنهم من أهل العلم وليسوا من أهله، ولا شيء أعظم آفة على العلوم وأهلها الذين هم أهلها بالحقيقة من هذه الطبقة؛ لأنهم تناولوا طرفًا من بعض العلوم يسيرًا، وكان الذي فاتهم من ذلك أكثر مما أدركوا"[25].

وهذا لا شك فيه، هؤلاء أضر شيء على العلوم، وهذا شيء مشاهد للأسف وذائع، ولربما قال الواحد منهم: ليس عندنا كهنوت، ومن حق كل أحد أن يتكلم، وليس الكلام في مثل هذه القضايا الشرعية حكرًا على زيد أو عمرو، أو هؤلاء الذين درسوا الدراسة الشرعية وتخصصوا فيها.

يا أخي، تخصص مثل هؤلاء، فإذا انقضى العمر وحصّلت من العلم فعلًا وتأهلت تكلم، هي ليست حكرًا، لكنها حكر على الراسخين، هي حكر على الراسخين وليس للجاهلين.

الشرط الثاني: ألا يخالف الإجماع.

وهذا أمر واضح؛ لأنه لا يجوز مخالفة الإجماع الصحيح.

الشرط الثالث:ألا يخرج عن أقوالهم.

وهذا عائد إلى ما سبق من مخالفة الإجماع، بمعنى أن السلف مثلًا إذا اختلفوا على قولين في مسألة، فجاء من بعدهم بقول ثالث، فإن كان هذا القول يجمع بين القولين بوجه من الوجوه، فهذا لا إشكال فيه، لكن إن كان يعود إليهما بالإبطال، فهذا لا يصح؛ لأنه يقتضي أن أهل العصر أجمعوا على الخطأ، ولا يمكن أن تجتمع الأمة على ضلالة، اختلفوا على قولين، ثلاثة، أربعة، خمسة، عشرة، كلها خطأ، هذا لا يمكن، وهذا ينبغي أن يراعى، وبعض ما يذكر فيما يسمى بالإعجاز العلمي هو من هذا القبيل، يعود إلى أقوال السلف بالإبطال، كلهم ما فهموا الآية، نحن فهمناها في هذا العصر، هذا غير صحيح.  

والإمام أحمد -رحمه الله- يقول: إذا اختلف أصحاب رسول الله ﷺ يُختار من أقاويلهم، ولا يُخرج عن قولهم إلى مَن بعدهم"[26].

وقال أيضًا: "يلزم من قال: يُخرج من أقاويلهم إذا اختلفوا أن يُخرج من أقاويلهم إذا أجمعوا"[27].

تعود إلى مسألة الإجماع، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يذكر أن كل قول ينفرد به المتأخر، ولم يسبقه إليه أحد منهم فإنه يكون خطأً[28].

كما قال الإمام أحمد -رحمه الله: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام[29].

لا يمكن أن تجتمع الأمة على خطأ، لكن هناك فهم يؤتيه الله رجلًا في كتابه كما في البخاري عن أبي جحيفة لمّا سأل عليًّا : هل خصكم رسول الله ﷺ بشيء؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهمًا يؤتيه الله في كتابه أو ما في هذه الصحيفة[30].

الفهم يمكن للإنسان أن يأتي بمعانٍ، باستنباطات جديدة، فالقرآن لا تنقضي عجائبه، لكن يأتي بقول في مسألة مختلف فيها، هذا القول يعود على الأقوال السابقة بالبطلان، هذا لا يمكن، ما يمكن أن الأمة تجتمع على ضلالة ثم يأتي من بعدهم، ويقول: أنا الذي فهمت، وكل هؤلاء ما فهموا، اختلفوا على أقوال كلها غلط، هذا إزراء بالسلف.

بل حتى أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- يقول: "وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد أن يخرج عن أقاويل السلف فيما أجمعوا عليه، وعما اختلفوا فيه أو في تأويله؛ لأن الحق لا يجوز أن يخرج عن أقاويلهم"[31]، هذا كلام صحيح.

إذًا أهل الكلام يقتدون بأبي الحسن الأشعري، فكان اللائق أن لا يجهِّلوا السلف ولا أن يخالفوهم.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يذكر أن القول الذي ليس للإنسان به سلف يجب إنكاره، إذا كانت هذه المسألة وقعت في زمن السلف فأفتوا فيها بقول أو أكثر من قول، فجاء بعض الخلف فأفتى فيها بما لم يقله أحد من السلف، يقول: هذا هو المنكر[32].

وإلا فلا شك أنه قد تقع نوازل في هذا العصر ما وقعت في العصور السابقة، فيجتهد فيها العلماء، فهنا لا يقال: لا تقل في مسألة ليس لك فيها سلف، الإمام أحمد لا يعني هذا، لكن إذا كان ذلك مما يخالف أقوال أهل العلم قبله، الجرأة غير محمودة في هذا الباب، ولو كان عالمًا.

الشرط الرابع: ألا يكون القول مبنيًّا على أصل غير معتبر.

لو نظرتم مثلًا الأصول غير المعتبرة، وكلام ابن القيم الطويل على بعضها في إعلام الموقعين، مثل: اعتبار الحيل المذمومة التي يخلع بها ربقة التكليف.

الشريعة جاءت لضبط أفعال المكلفين، وإخراج المكلف من داعية الهوى؛ ليكون عبدًا لله .

فتأتي هذه الحيل فتخرجه من ضبط الشريعة بمخارج ومسارب هنا وهناك ليتخلص من الحكم الشرعي، أو التبعة، فهذا لا يجوز.

وكذلك أولئك الذين يردون مثلاً خبر الآحاد بزعمهم أنه يخالف القياس مطلقًا، وقد نقل الشافعي -رحمه الله- الإجماع على تقديم خبر الآحاد على القياس[33].

وكذلك أولئك الذين يردون خبر الآحاد فيما تعم به البلوى، أو بزعم بعضهم إذا كان الراوي غير فقيه، هذا كله لا يصح، يكون قد بَنى على أصل غير صحيح.

كذلك رد السنة المخصصة لظاهر القرآن مطلقًا، يقول لك: السنة ما تخصص القرآن، هذا غير صحيح.

كذلك أيضًا من يعتبر مجرد وجود القول أنه مسوغ للأخذ به، فهذا غير صحيح، وهذا كثير في مثل هذه الأيام، الاحتجاج بالخلاف، وإذا أجبت الواحد من هؤلاء السائلين لربما يسأل يقول: ما فيها قول آخر؟ هل هذا محل اتفاق؟ ما في عالم أفتى بغير هذا؟.

وإذا سمع الفتاوى هنا وهناك في القنوات أو نحو ذلك يقول: أنا لست ملزمًا بأن آخذ قول فلان، فلان يقول بخلاف هذا، فإن لم يجد في بلده مع أن العامة تبع لعلماء بلدهم الذين يفتونهم؛ فإن لم يجد يقول: ما بين نجد والأندلس أطياف -كما يدرسون في البرمجة العصبية، ففي نجد يحرمون المعازف والموسيقى، وفي الأندلس تباح.

إذًا لك أن تتخير، لا، ويقولون: وكلهم على حق. كلهم على حق، نحن نقول: المصيب عند الله واحد، لكن قد يعذر المخطئ من المجتهدين أو المقلدين بالشروط التي ذكرنا، أمّا أن يبقى الإنسان يتخير لمجرد وجود الاختلاف فلا.

يقول حافظ المغرب أبو عمر ابن عبد البر المتوفى سنة أربعمائة وثلاث وستين، يقول: "الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمتُه من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله"[34]، هذا كلام ابن عبد البر.

وكذلك من العلماء -علماء المغاربة، أو الأندلس- أبو الوليد الباجي المتوفى سنة أربعمائة وأربع وسبعين، يقول: "وكثيرًا ما يسألني من تقع لهم مسألة من الأيمان ونحوها لعل فيها رواية -المشكلة قديمة، أم لعل فيها رخصة وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة، ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لَمَا طالبوا به، ولا طلبوه مني، ولا من سواي، وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز، ولا يسوغ، ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله تعالى إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق رضي بذلك من رضيه وسخطه من سخطه"[35].

هذا عالم أندلسي، توفى سنة أربعمائة وأربع وسبعين، ليس بأحادي النظرة والتفكير، ولا بعالم يعيش في صحراء، أو نحو ذلك،  فقه صحراوي كما يقولون لهم! ليس كذلك، فهذا الأمر العلماء متفقون عليه.

الباجي مالكي، وابن عبد البر مالكي، وابن الصلاح شافعي متوفى سنة ستمائة وثلاث وأربعين، يقول ابن الصلاح -رحمه الله: "واعلم أن من يكتفي في فتياه أو عمله موافقًا لقولٍ أو وجه في مسألة، ويعمل بما يشاء من الأقوال أو الوجوه من غير نظر في الترجيح، ولا تقيدٍ به فقد جهل، وخرق الإجماع"[36].

وهكذا القرافي المالكي المتوفى سنة ستمائة وأربع وثمانين، يقول: "إن الحاكم إذا كان مجتهدًا فلا يجوز أن يحكم ولا أن يفتي إلا بالراجح عنده، وإن كان مقلدًا جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه، وأن يحكم به وإن لم يكن راجحًا عنده، مقلدًا في رجحان القول المحكوم به الذي يقلده في الفتيا، وأما اتباع الهوى في الحكم والفتيا فحرام إجماعًا"[37].

ابن مفلح الحنبلي المتوفى سنة سبعمائة وثلاث وستين يقول: "ويحرم الحكم والفتيا بالهوى إجماعًا وبقولٍ أو وجهٍ من غير نظرٍ في الترجيح إجماعاً، ويجب عليه أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له وما عليه إجماعًا، يقول: "قاله شيخنا"[38]. يعني: شيخ الإسلام. وغير هؤلاء كثير.

الشاطبي المالكي المتوفى سنة سبعمائة وتسعين له كلام كثير في مثل هذه القضية، يقول: "وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدودًا في حجج الإباحة".

يعني: يكفي من أجل أن يستحل هذا الأمر أن يقول: المسألة خلافية، فيه خلاف، هناك من أجاز.

يقول: "ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتمادُ في جواز الفعل على كونه مختلفًا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف، فإن له نظرًا آخر -هذا سيأتي إيضاحه إن شاء الله، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع، فيقال: لمَ تمنع والمسألة مختلف فيها؟ فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفًا فيها لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة؛ حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدًا، وما ليس بحجة حجة"[39].

يعني هذا يُنكَر عليه؛ لمجرد الاختلاف يأخذ بما يوافقه.

بل إن الشاطبي -رحمه الله- ذكر ضابطًا في مسألة الاستفتاء والتقليد، يقول: إن العامي يجب عليه أن يسأل من يثق بدينه وعلمه، فإذا بلغه فتوى لعالميْن فإنه ينظر في الأعلم والأورع، فإن استويا عنده -انظروا انتبهوا- نظر إلى الهوى، فيأخذ بما يخالف هواه؛ لأن الشريعة قد ركبت تركيبًا خاصًّا على خلاف داعية الهوى في النفوس.  

يقول: إذا استوى عندك هذا وهذا ولم يترجح أحد العالميْن في العلم والورع، انظر إلى هواك وخذ بالعكس. الآن ما الذي يحصل عند كثيرين؟ ينظر إلى هواه، ويأخذ ما يوافق الهوى.

خامسا: ألا يكون مخالفًا لنص صحيح صريح.

وقد مضى كلام الشافعي -رحمه الله- في هذا، وما عدا ذلك تبقى مسائل اجتهادية، فمسائل الاجتهاد هذه مما لم يكن للعلماء فيه دليل واضح في المسألة يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا، كما يقول شيخ الإسلام: حديث صحيح لا معارض له من جنسه، فهنا قد تخفى الأدلة، قد يخفى مأخذها فيحصل الاختلاف.

البيهقي -رحمه الله- جعل الأحاديث المروية على ثلاثة أنواع من حيث الوضوح والصحة أيضًا، يقول: "منها ما قد اتفق أهل العلم بالحديث على صحته، فذلك الذي ليس لأحد أن يتوسع في خلافه ما لم يكن منسوخًا". ما في أحد يقول: أعرض على عقلي، طبعًا الكلام في الاجتهاد اجتهاد العلماء.

"ومنها ما قد اتفقوا على ضعفه، فذاك الذي ليس لأحد أن يعتمد عليه، ومنها ما قد اختلفوا في ثبوته"[40] منهم من يضعف، ومنهم من يصحح لأمور، هذا يرى أنه يعتضد، وهذا يرى أنه لا يعتضد بالطريق الآخر، وهذا يرى أن هذا الراوي مما يُحتمل الضعف في مثله، أو لا يُحتمل، أو نحو ذلك من الأمور التي تتعلق بالسند أو المتن، كأن يقول بعض العلماء مثلاً: هذا الجزء مدرج من قول الصحابي، والآخر يقول: هذا غير مدرج بل هو من نفس الحديث، ويكون ذلك محل احتمال فيختلفون، فهذا يكون محل نظر واجتهاد يجتهد فيه أهل الاختصاص من أهل العلم.

ومن ثَمّ يمكن أن نقول: إن الاختلاف الذي يكون مرجعه إلى الاجتهاد يعني المسائل الاجتهادية، ما هي؟ ما ضابطها؟ نقول: يمكن أن نلخص هذا، نقول:

-    المسائل التي لم يَرِد فيها دليل أصلًا، فبقي العلماء يجتهدون.

-    مسائل ورد فيها أدلة لكنها متقابلة في نظر العالم، يعني: النصوص الواردة مثلاً في مسألة استقبال القبلة والاستدبار حال قضاء الحاجة، وردت أحاديث هنا وهنا، وهي أحاديث متقابلة، فهذه مسألة اجتهادية.

-   وقد يرد فيها دليل لكن خفي مأخذه، مثل ما مثلنا: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة، فهذه ثلاث صور فيما يمكن أن يقال عنه بأنه من مسائل الاجتهاد التي لا يحصل الإنكار فيها، ولا توجب التفرق، ولا يقال ولا يحكم بالبطلان بالنسبة للقول الآخر، وغاية ما هنالك أن يقال: هذا راجح، وهذا مرجوح. 

  1. درء تعارض العقل والنقل (1/ 277).
  2. الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/ 519).
  3. مجموع الفتاوى (3/ 421).
  4. المصدر السابق (19/ 117).
  5. المصدر السابق (22/ 254).
  6. المصدر السابق (32/ 243).
  7. المصدر السابق (24/ 172).
  8. المصدر السابق (19/ 126).
  9. أخرجه البخاري، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماء (2/ 15)، رقم: (946).
  10. مجموع الفتاوى (20/ 27).
  11. المصدر السابق (35/ 380).
  12. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة:284] (1/ 116)، رقم: (126).
  13. مجموع الفتاوى (11/ 15).
  14. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 148).
  15. القائد إلى تصحيح العقائد (ص:31).
  16. مجموع الفتاوى (18/ 43).
  17. المصدر السابق (12/ 489).
  18. أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ (3/ 299)، رقم: (3573)، والترمذي، أبواب الأحكام عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء عن رسول الله ﷺ في القاضي (3/ 605)، رقم: (1322).
  19. إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 162).
  20. الآداب الشرعية والمنح المرعية (2/ 146).
  21. أدب المفتي والمستفتي (ص:79).
  22. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان (8/ 100)، رقم: (6475)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف، ولزوم الصمت إلا عن الخير وكون ذلك كله من الإيمان (1/ 68)، رقم: (47).
  23. فتاوى ابن الصلاح (1/ 207).
  24. مداواة النفوس (ص:67).
  25. رسائل ابن حزم (4/ 86).
  26. العدة في أصول الفقه (4/ 1113).
  27. المصدر السابق.
  28. مجموع الفتاوى (21/ 291).
  29. سير أعلام النبلاء (11/ 296)، والمسودة في أصول الفقه، ص (450).
  30. أخرجه البخاري،  كتاب العلم، باب كتابة العلم (1/ 33)، رقم: (111).
  31. رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب (ص:174).
  32. بدائع الفوائد (3/ 267).
  33. الرسالة (ص:456).
  34. جامع بيان العلم وفضله (2/ 922).
  35. الموافقات (5/ 90-91).
  36. أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص:125).
  37. تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (1/ 26).
  38. الفروع وتصحيح الفروع (11/ 107).
  39. الموافقات (5/ 92-93).
  40. معرفة السنن والآثار (1/ 182).

مواد ذات صلة