السبت 19 / جمادى الآخرة / 1446 - 21 / ديسمبر 2024
(12) مواصلة كيف نتعامل مع الاختلاف وعلامات الاختلاف المحمود وكيف نتعامل مع الاختلاف السائغ
تاريخ النشر: ١٠ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 9509
مرات الإستماع: 2390

المقطع المرئي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فإذا كان هذا الاختلاف ينقسم إلى ما يُحمد، وما يذم، فما هو الضابط في ذلك؟.

الشافعي -رحمه الله- يقول: "كل ما أقام الله تعالى به الحجة في كتابه، أو على لسان نبيه ﷺ منصوصًا بينًا لم يحلّ الاختلاف فيه لمن علمه، وما كان من ذلك يحتمل التأويل، ويدرك قياسًا فذهب المتأوّل، أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر، أو القياس وإن خالفه فيه غيره لم أقل: إنه يُضيَّق عليه ضيق الخلاف في المنصوص"[1].

ويقول أيضًا في موضع آخر في كتاب "جماع العلم": "الاختلاف وجهان: فما كان لله تعالى فيه نصُّ حكمٍ، أو لرسوله ﷺ سنة، أو للمسلمين فيه إجماع، لم يسع أحدًا علم من هذا واحدًا أن يخالفه، وما لم يكن فيه من هذا واحد كان لأهل العلم الاجتهاد فيه بطلب الشبهة بأحد هذه الوجوه الثلاثة، فإذا اجتهد من له أن يجتهد وسعه أن يقول بما وجد الدلالة عليه، بأن يكون في معنى كتاب أو سنة أو إجماع، فإن ورد أمر مشتبه يحتمل حكمين مختلفين فاجتهد فخالف اجتهاده اجتهاد غيره وسعه أن يقول بشيء وغيرُه بخلافه"[2].

وكذلك أيضًا الشاطبي -رحمه الله- فقد ذكر أن الاجتهاد المعتبر شرعًا هو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد، والثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه؛ لأن حقيقته أنه رأيٌ بمجرد التشهي والأغراض، وخبطٌ في عماية، واتباع للهوى، فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره؛ لأنه ضد الحق الذي أنزله الله تعالى"[3].

هنا نظر إلى المجتهدين، والشافعي -رحمه الله- نظر إلى ما يحتمله الدليل وما لا يحتمله من الخلاف، وهذا كله صحيح.

ومن هنا نعلم أن من خالف القرآن والسنة المستفيضة أو ما أُجمع عليه -يعني خالف النص الواضح أو ما أجمع عليه السلف خلافًا لا يعذر فيه- فإنه يعامل بما يليق بحاله.

يعني: مثل هذا خلافه مذموم، وكل من خالف لهوى في نفسه لا عن تحري قصد الشارع، وكذلك من ينتقل من قول إلى قول لمجرد عادة، أو اتباع الهوى لا طلبًا للصواب، واتباع الدليل، كذلك الذي يتتبع رخص الفقهاء، يبحث دائمًا عن الأسهل، وما يوافقه، أو يأخذ بأخف القولين من غير نظر صحيح، فإن مثل هذا يكون مذمومًا.

وكذلك ذاك الذي يدعي أنه يلتزم مذهبًا معينًا، ثم نجد أنه يأخذ من مذهب آخر، يعني: كون هذا الإنسان يقلد مذهب مالك، أو الشافعي، أو أحمد، أو نحو ذلك، ثم نجده أخذ هذه المسألة من مذهب أبي حنيفة، من غير مبرر شرعي.

يعني: من غير دليل يدل على الرجحان، وإنما لأنه وجد مايوافق هواه، فإنه يكون مذمومًا.

وكذلك أيضًا أصحاب الخوض الباطل في المسائل التي لا ينبغي الخوض فيها أصلًا كما ذكرنا من قبل في المسائل التي أخفى الله علمها، أو نحو ذلك.

كذلك أيضًا من تتبع صعاب المسائل، واشتغل بالأغاليط، والمسائل النادرة التي يثيرها في المجالس، نادرة الوقوع لا تكاد تقع، ثم بعد ذلك يورث ذلك تفرقًا واختلافًا، فهؤلاء جميعًا يوصفون بالذم وإن تعددت أسباب اختلافهم، فإن ذلك يرجع إلى شيء واحد؛ لأنه ليس هناك إلا اتباع الحق أو اتباع الهوى كما قال الله -تبارك وتعالى: يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى [ص:26].

فإن الذي يقابل اتباع الحق والحكم به هو اتباع الهوى، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50].

ثم هؤلاء الذين يختلفون من أهل الأهواء يتفاوتون أيضًا بحسب قدر المخالفة، ففرقٌ بين من خالف في الأصول الثابتة في الكتاب والسنة ثبوتًا لا مطعن فيه، أو الكليات المجمع عليها، مع التمكن من معرفة الحق فيها، فهذا ليس كالمخالف فيما دونها من المسائل الجزئية المتفرعة عنها، أو نحو ذلك، فهذا ينبغي أن نراعيه.

كذلك أيضًا يمكن أن يقال: إن كثيرًا من المسائل الواقعة بيننا مما نختلف فيه، الواقع أن الذم يلحق المختلفين الذين أورث هذا الاختلافُ التباينَ بينهم والعداوة، وما إلى ذلك؛ لعدم الأهلية في النظر، أو لوجود البغي والظلم في مثل هذا الاختلاف؛ لأنها مسائل قد لا تحتمل ذلك، هي مسائل اجتهادية، فهذا ينظر إلى هذه القضية باعتبارات معينة، وهذا ينظر إليها باعتبارات أخرى، فلا يصح أن يؤدي ذلك إلى قطع الصلات، وإسقاط حقوق الأخوة الإيمانية، فإن حصل ذلك فهذا مما يلقيه الشيطان بين أهل الإيمان من التحريش بينهم، ولذلك يقول أهل العلم -كما نقل الشاطبي عن بعضهم- بأن كل مسألة حدثت في الإسلام، فخاض فيها الناس، فتفرقوا، واختلفوا فلم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضًا، ولا تفرقًا فبقيت الألفة، والنصيحة والمودة والرحمة والشفقة، علمنا أن ذلك من مسائل الإسلام، يحل النظر فيها، والأخذ بقول من تلك الأقوال لا يوجب تبديعًا، ولا تكفيرًا، كما ظهر مثل هذا الاختلاف بين الصحابة والتابعين مع بقاء الألفة والمودة، وكل مسألة حدثت فاختلفوا فيها فأورث اختلافهم في ذلك التولي، والإعراض، والتدابر، والتقاطع، وربما ارتقى إلى التكفير علمنا أن ذلك ليس من أمر الدين في شيء، بل يجب على كل ذي عقل أن يجتنبها، ويعرض عن الخوض فيها؛ لأن الله شَرَط تمسكنا بالإسلام أن نصبح في ذلك إخوانًا، فقال: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103][4]. فهذا هو اللائق.

إذاً هذا يُميّز لنا هذه المعالم في الاختلاف الذي يكون مذمومًا.

مؤشرات وعلامات ومعالم بارزة نميز معها الاختلاف المحمود:

أولا: التجرد في طلب الحق.

وهذا أصل عظيم، وهو من أسباب التوفيق والهداية، وقد ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله: "أن من هداه الله إلى الأخذ بالحق حيث كان، ومع من كان ولو مع من يبغضه ويعاديه، ورد الباطل مع من كان، ولو مع من يحبه ويواليه، فهو ممن هُدي لما اختُلف فيه من الحق بإذنه"[5].

أصبحنا هؤلاء لهم قولهم، وهؤلاء لهم قولهم، هذا نستوحش من كلامه، ومن قوله، ومن فتياه، ومن كل ما يصدر عنه مما يكتبه، أو يؤلفه، أو يلقيه، أو نحو ذلك، هذا غير صحيح.

ويقول: "فهذا أعلم الناس وأهداهم سبيلًا وأقومُهم قيلًا". يعني: الذي ينظر بهذا المعيار، لاحظ: أعلم الناس وأهداهم سبيلًا وأقومهم قيلًا.

يقول: "وأهل هذا المسلك إذا اختلفوا فاختلافهم رحمة وهدى، يقر بعضهم بعضًا عليه ويواليه ويناصره، وهو داخل في باب التعاون الذي لا يستغني عنه الناس في أمور دينهم ودنياهم، بالتشاور، وإعمال الرأي والفكر فيما يوصل إلى إدراك الصواب، فإذا قوبل بين الآراء، وعرضت على الحاكم الذي لا يجور بالكتاب والسنة، وتجرد الناظر عن التعصب والحمية، واستفرغ وسعه، وقصد طاعة الله ورسوله، فقل أن يخفى عليه الصواب، وما هو أقرب إليه.

هذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداة، ولا افتراقًا في الكلمة، ولا تبديدًا للشمل، فإن الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرةً، فلم يوجب ذلك بينهم عداوة، ولا قطيعة، بل كانوا يرجعون بالألفة والمصافاة، من غير أن يضمر بعضهم لبعض ضغينة ولا ذمًّا، بل يدل المُستفتَى على أخيه، ويشهد بأنه خيرٌ منه وأعلم، فهذا الاختلاف أصحابه بين الأجر والأجرين وكل منهم مطيع لله بحسب نيته واجتهاده وتحريه للحق"[6].

وقارن بين حالنا، وما صرنا إليه، اختلفنا مع هذا أو ذاك، انتهى، القطيعة التامة، والاستيحاش من كل ما يقوله، أو يفعله، والأصل فيه العيب، والذم، والخطأ، والبطلان، والبدعة، والهوى، هذا يجوز؟!، هذا يسوغ؟!.

ثانياً: أن يستفرغ الجهد والوسع.  

فنحن كما قال الذهبي: "نرجو لكل من بذل جهده في تطلب الحق أن يُغفر له من هذه الأمة المرحومة[7].

ومن ثَمّ فإن مثل ذلك إذا وقع على وجه لا يؤدي إلى التباين -كما يقول ابن القيم- والتحزب، بحيث يكون كل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله فإن ذلك الاختلاف لا يضر، وإنما للأسف إذا كان مع هؤلاء بعض الحق ومع هؤلاء بعض الحق، فهؤلاء لا يقرون بالحق الذي مع هؤلاء، والعكس أيضًا، فيحصل بسبب ذلك البغي والمنافسة.

يقول ابن القيم: "وهذا شأن جميع المختلفين، بخلاف أهل الحق، فإنهم يعلمون الحق من كل من جاء به، فيأخذون حق جميع الطوائف، ويردون باطلهم، فهؤلاء الذين قال الله فيهم: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213][8].هذا هو اللائق بالمؤمن.

وكذلك الحافظ ابن رجب يذكر أنه لما كثر اختلاف الناس وتفرقهم، كثر بسببه تباغضهم، وكل منهم يظن أنه يبغض لله، وذكر أن ذلك يقع كثيرًا لمجرد مخالفة متبوع، خالف شيخنا، أو نحو ذلك.

يقول: "لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرد الهوى والعادة، وما إلى ذلك، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله".

ويذكر أيضًا أن بعض العلماء قد يكون مجتهدًا مأجورًا، حيث اجتهد فقال بقول مرجوح، لكن قد لا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلةٍ في هذه الدرجة[9].

يعني: أنه انتصر له على سبيل الحميّة، فيكون مذمومًا، الشيخ معذور، ولكن هؤلاء الذين تعصبوا لقوله وصار ذلك عندهم نوعًا من الحمية يكون الواحد منهم مذمومًا.

كيف نتعامل مع الاختلاف السائغ؟

أولًا: إن ظهر لنا رجحان قول لدليل أخذنا به.

يقول الحافظ ابن القيم: إذا اختلف عليه مفتيان فأكثر، فهل يأخذ بأغلظ الأقوال، أو بأخفها، أو يتخير، أو يأخذ بقول الأعلم، أو الأورع، أو يلجأ إلى مفتٍ آخر فينظر من يوافق القولين السابقين، فيعمل بالفتوى التي يوقِّع عليها، أو يجب عليه أن يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه؟

يقول: "فيه سبعة مذاهب، أرجحها: السابع، فيعمل كما يعمل عند اختلاف الطريقين، أو الطبيبين، أو المشيرين"[10].

بمعنى أنه اختلف طبيبان يأخذ بقول الأرجح منهما في نظره، اختلف عليه الواصفون، اشتبه عليه طريقان، التبس عليه فهذا يقول له: هذا الطريق يؤدي إلى كذا، وهذا يقول: هذا الطريق يؤدي إلى كذا، فيأخذ بقول الأرجح منهما، كذلك أشار عليه رجل بشيء، وأشار عليه الآخر بشيء آخر في قضية معينة، فيأخذ بقول من؟، الأرجح منهما.

ثانياً: أنه حينما يستفتي إذا كان مقلدًا فإنه يأخذ بقول من يثق بدينه وعلمه، إذا اختلفوا، فهو يأخذ بقول الأعلم والأورع .

ثالثًا: يأخذ بالأحوط فيما يسوغ فيه ذلك، يعني: مثلًا إذا تقابل الوجوب والاستحباب، هذا يقول: واجب، وهذا يقول: مستحب، يأخذ بالحزم.

كذلك التحريم والإباحة، هل هذا محرم أو مباح؟، فإنه يأخذ بالأحوط، فيترك هذا الشيء، ويكون بذلك قد خرج من خلافهم.

للأسف يوجد هناك من يقول: هؤلاء فقهاء الأحوطيات، ويسخر ممن يقول بالأخذ بالأحوط.

وهذا كلام غير صحيح، وهو مغالطة، ومما يدل على أن الأخذ بالأحوط مشروع فيما يسوغ فيه ذلك: حديث عائشة -ا- قالت: كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة منِّي.

يعني قال: هو من مائه، يعني: حملت منه، قال: فاقبضه إليك، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد، وقال -يعني سعد بن أبي وقاص: ابن أخي، قد كان عهد إليّ فيه.

فقام إليه عبد بن زمعة، فقال: أخي وابن وليدة أبي، وُلد على فراشه، فتساوقا إلى رسول الله ﷺ فقال سعد: يا رسول الله، ابن أخي وقد كان عهد إليّ فيه، وقال عبد بن زمعة: أخي، وابن وليدة أبي، وُلد على فراشه.

فقال النبي ﷺ: هو لك يا عبد بن زمعة.

النبي ﷺ نظر إلى الأصل، وهو أن الولد للفراش.

ثم قال النبي ﷺ: الولد للفراش وللعاهر الحَجْر، أو الحَجَر.

ثم قال لسودة -وهذا هو الشاهد- أم المؤمنين -ا: احتجبي منه يا سودة. لاحظ حكم به لمن؟، لعبد بن زمعة فمعنى ذلك أنه أخٌ لسودة، سودة بنت زمعة، ومع ذلك قال: احتجبي منه لِمَا رأى من شبهه بعتبة بن أبي وقاص، قالت عائشة: فما رآها حتى لقي الله[11]

الآن حُكم بأنه ولد لزمعة، ومع ذلك قال: احتجبي منه يا سودة احتياطًا للشَّبه، فهذا عمل بالأحوط .

حديث عائشة -ا: أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل -قاله ثلاث مرات- فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها[12].

المهر لها، النكاح باطل " فالمهر لها بما أصاب منها"، يقول النووي -رحمه الله: "فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بسنة، أو وقوع في خلافٍ آخر"[13].

كذلك الليث بن سعد يقول: "إذا جاء الاختلاف أخذنا بالأحوط"[14].

ويقول ابن جرير الطبري: "فكذلك حق الله تعالى على العبد فيما اشتبه عليه، مما هو في سعة من تركه، والعمل به، أو مما هو غير واجب عليه أن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه؛ إذ يزول بذلك عن نفسه الشك، كمن يريد خطبة امرأة فتخبره امرأة أنها قد أرضعته وإياها، ولا يعلم صدقها من كذبها، فإنْ تركها أزال عن نفسه الريبة اللاحقة له بسبب إخبار المرأة، وليس تزوجه إياها بواجب، بخلاف ما لو أقدم فإن النفس لا تطمئن إلى حلِّية تلك الزوجة".

ويقول -رحمه الله: "إذا قال الرجل لامرأته: أنت عليّ حرام، فسأل العلماء، فاختلفوا عليه، فقال بعضهم: قد بانت منك بالثلاث، وقال بعضهم: إنها حلال، غير أن عليك كفارة يمين.

وقال بعضهم: ذلك إلى نيته،إن أراد الطلاق فهو طلاق، أو الظهار فهو ظهار، أو يمينًا فهو يمين، وإن لم ينوِ شيئًا فليس بشيء، أيكون هذا اختلافًا في الحكم كإخبار المرأة بالرضاع، فيؤمر هنا بالفراق، كما يؤمر هناك ألا يتزوجها خوفًا من الوقوع في المحظور أو لا؟ قيل: حكمه في مسألة العلماء أن يبحث عن أحوالهم، وأمانتهم، ونصيحتهم، ثم يقلد الأرجح، فهذا ممكن والحزازة مرتفعة بهذا البحث، بخلاف ما إذا بحث مثلًا عن أحوال المرأة فإن الحزازة لا تزول، وإن أظهر البحث أن أحوالها حميدة، فهما على هذا مختلفان"[15] إلى آخر ما قال.

المهم أنه يؤيد العمل بالأحوط في بعض الصور.

العز بن عبدالسلام سئل عن الرجل يقف على اختلاف العلماء هل يجوز أن يعمل بقول من أراد منهم؟

قال: "الأولى الاحتياط، بالخروج من الخلاف، بأخذ الأشد الأحوط لديه، فإن من عز عليه دينه تورع".

ويقول: من الورع أن يسأل الأورع، ولا يسأل عن دينه إلا من يثق بسعة علمه وتورعه من التهجم على الفتيا، كما أن تقديم الأحوط، والأخذ بالحزم مما عليه عموم الناس في الأمر المهم له من أمور الدنيا، وما زالوا يمدحون المحتاط لكل أمر ذي بال، ويذمون المتهور الذي لا يأخذ للشيء ذي الشأن أُهْبته، ولا يعد له عدته، وإلى هذا أومأت الحكمة القائلة: من التمس الرخصة من الإخوان عند المشاورة -يعني: هو يستشير ويقول: أعطني ما يوافق هواي، ومن الأطباء عند المرض -يقول للطبيب: أعطني التقرير الذي يكون أخف، ويناسب ما أرغب به، ومن الفقهاء عند الشبهة أخطأ الرأي وازداد مرضًا وحمل الوزر". وذكر أمثالا في هذا الباب.

والزركشي -رحمه الله- يقول: "يستحب الخروج منه -أي: الخلاف- باجتناب ما اختُلف في تحريمه، وفعل ما اختلف في وجوبه"[16].

ومن ذلك ماذكره ابن قدامة من أن الأولى ألا تصلى الجمعة إلا بعد الزوال، خروجًا من الخلاف، مع أن المذهب أنه يجوز أن تصلى قبل الزوال، باعتبار أن وقتها كوقت العيد[17].

وهذا كله بناءً على أن الحق واحد لا يتعدد، وهذا قال به ابن عبد البر، والخطيب البغدادي، وابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغير هؤلاء كثير ويدل عليه: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر[18].

فدل على أن الصواب واحد، وما زال العلماء يرد بعضهم على بعض، وشيخ الإسلام يقول: "ولهذا تجد المسائل التي تنازعت فيها الأمة على أقوال، وإنما القول الذي بعث به النبي ﷺ واحد منها"[19].

وابن القيم يقول: "الآيات الناهية عن الاختلاف في الدين، والمتضمنة لذمه كلها شهادة صريحة بأن الحق عند الله واحد، وما عداه فخطأ"[20]. إلى آخر كلامه.

والشاطبي -رحمه الله- له كلام على هذا.

بناء على ذلك ليس لك أن تتخير من الأقوال، ليس لك أن تتخير ما تشاء، أو ما يوافق رغبة الإنسان وهواه، وإنما يأخذ بما تبرأ به ذمته، باعتبار ما سبق.

وهكذا المفتي ليس له أن يتعامل مع المستفتين بهذه الطريقة، وإنما يراعي ما سبق من استفراغ الوسع، والنظر في الأدلة.

ومن هنا نقول: لا يصح الاحتجاج بالخلاف، كون المسألة فيها خلاف إذًا لا حرج عليّ، لا بأس إذا عملتُ بهذا الأمر، هذا لا يجوز.

وابن عبد البر يقول: "قد أجمع المسلمون على أن الخلاف ليس بحجة"[21]، أجمع المسلمون، يقول: يلزم طلب الدليل والحجة ليتبيّن الحق معه عند الاختلاف، هنا يجب طلب الدليل.

إذاً لا نُنيط الأحكام بالخلاف، وشيخ الإسلام  -رحمه الله- يذكر أن تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر، فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلّق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر، فإن ذلك وصف حادث بعد النبي ﷺ[22].

يعني: ليس لك أن تقول: يجوز؛ لأنهم اختلفوا فيه، وفرق بين الخروج من الخلاف، ومراعاة الخلاف، فرق بين هذا وهذا.

مراعاة الخلاف ما المراد به؟ أن نعتبر خلاف الغير بالخروج منه عند قوة مأخذه، ما هو دائمًا، عند قوة مأخذه، وإن كنا نعتقد خلاف هذا القول، فنراعي ذلك.

وقيل للإمام أحمد: رجل لا يرى من مس الذكر وضوء، أصلي خلفه وقد علمت أنه مس؟.

لاحظ: يعني: إذا كنت ترى أن مس الذكر ينقض الوضوء، وتعرف أن هذا الذي تصلي خلفه لا يرى بذلك بأسًا، أو مثلًا أنت ترى أنه يجب الوضوء من أكل لحوم الإبل، وآخر لا يرى الوجوب، وتعلم أنه أكل وتقدم يصلي، تُصلي خلفه أو لا تصلي خلفه؟.  

الإمام أحمد قال: نعم تصلي خلفه[23].

يعني إذا كان مثلًا الشافعي لا يرى أن أكل لحم الإبل ينقض، وكذلك مالك، وأبو حنيفة، تصلي خلف هؤلاء، أو لا تصلي؟ تصلي.

الإمام أحمد -رحمه الله- كان يرى الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له: "فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ، هل تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك، وسعيد بن المسيب؟[24]. يعني هم لا يرون أن ذلك يفسد الوضوء.

وجاء في كشّاف القناع: "وإن عجز ربُّ دين عن استيفائه أو مجنيٌّ عليه عن أرش جناية فسرق قدر دَيْنه...".

يعني: ممن لم يردّ عليه الدين، وجد شيئًا من ماله فأخذه.

يقول: "فلا قطع؛ لأن بعض العلماء أباح له الأخذ، فيكون الاختلاف في إباحة الأخذ شبهة تدرأ الحد، كالوطء في نكاح المختلف في صحته[25].

لو أن أحدًا تزوج امرأة من غير ولي النبي ﷺ يقول: فنكاحها باطل.

هل نقيم عليه حد الزنا؟

الجواب: لا، مراعاة للخلاف.

لكن، هل كل خلاف يراعى؟

الجواب: أنه ليس بهذا الإطلاق، وإنما الخلاف الذي يكون من محال الاجتهاد، وموارد الظنون مما يتصور حصول التردد بين أطرافه، إما من جهة ثبوت الأدلة، وإما من جهة ما تفيده تلك الأدلة من المعاني، والمقتضيات، وإما من جهة التقابل -كما ذكرنا- فهنا يمكن مراعاة هذا الخلاف والخروج منه بفعل الأحوط.

نحن نبحث عن الأدلة، وننظر فيها، هذا ممن كان متأهلًا، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يذكر أن مثل هذا الاختلاف يورث شبهة إذا لم تتبين سنة الرسول ﷺ، أما إذا تبين الدليل البين فقد وجب المصير إليه.

والشافعي -رحمه الله- يذكر إجماع العلماء على أن من استبانت له سنة النبي ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد[26].

فالخلاف الذي قوي مأخذه، ومستنده إما لدليله، وإما لاستفاضته وجريان العمل به دون معارضته لمقتضى الشرع، هذا يستحق بأن يراعى بالخروج منه، أما الخلاف المهجور فإن ذلك لا يعتبر، ولا يطلب الخروج منه.

وهل يكون الاعتبار بكثرة القائلين أو بما قوي دليله؟ الإمام مالك والعز بن عبد السلام وطائفة يقولون: العبرة بقوة الدليل لا بكثرة القائلين.

وبعض أهل العلم يرى أن كثرة القائلين أيضًا تجعل ذلك معتبرًا.

شروط مراعاة الخلاف:

مراعاة الخلاف تكون بشروط:

الأول: أن يكون الخلاف قوي المأخذ، ومن هنا أُسقط كثير من الخلاف الذي قد فاته هذا الشرط.

الثاني: ألا تؤدي هذه المراعاة إلى صورة تخالف الإجماع.

أعطيكم مثالا يوضح هذا في مراعاة الخلاف: لو جاء إنسان تزوج بدون ولي، ولا شهود، بمهر أقل من ربع دينار، لاحظ: هذه ثلاثة أشياء.

بلا ولي قلد أبا حنيفة، عدم الشهود -أنه ليس بشرط- قلد الإمام مالك، أقل من ربع دينار قلد الإمام الشافعي.

هذا النكاح لو عرض على أبي حنيفة، أو على أصحاب مذهب أبي حنيفة لقالوا: لا يصح لفقده الشروط الأخرى.

لو عرض على المالكية قالوا: لا يصح، لو عرض على الشافعية قالوا: لا يصح، هذا لُفق فيه ثلاثة أشياء من ثلاثة مذاهب، أُسقط شرط من كل مذهب، فجمعها هذا، فهذه الصورة المركبة بهذه الطريقة لا يقول أحد بحلها، فهنا لا نقول: نراعي الاختلاف، ونصحح هذا النكاح الذي بهذه الطريقة، فما أحد منهم يصححه، عند المالكية باطل، عند الأحناف باطل، عند الشافعية باطل.

هناك أمور لا تجري فيها مراعاة الخلاف، أصول الدين عقائد مبناها على التسليم والانقياد والنص، لا مجال للخوض فيها بالآراء، فإذا جاءنا من يخوض برأيه، أو نحو ذلك من العلوم الكلامية فلا عبرة بقوله.

الأمر الثاني: المعلوم من الدين بالضرورة، وجوب الصلاة، والزكاة، والصيام، ونحو ذلك، هذه لا مجال للخلاف فيها.

الثالث: ما هو بمنزلة الضروري من الأحكام الجلية، مثل: وجوب غسل القدمين في الوضوء، وأنه لا يجزئ المسح.

الرابع: ما استند إلى الحس، يعني: الاجتهاد مثلًا في القبلة، ناس في مكان، في برية، أو نحو ذلك، في سفر، اجتهدوا في القبلة، هذا قال: القبلة من هنا، وهذا قال: القبلة من هنا، هما اثنان مثلًا، هل يقلد أحدهما الآخر في الاستقبال؟ كل واحد له اجتهاد يخالف الآخر في أمر حسي؟  

الجواب: أنه لا يجوز له أن يقلده، طيب يصلون جماعة أو فرادى؟ يصلون جماعة، هذا يصلي من هنا، وهذا يصلي من هنا، والصلاة صحيحة؛ لأن هذا يجب عليه أن يعمل بمقتضى الاجتهاد، وهذا عليه كذلك، ما نقول: والله عليه أن يراعي اجتهاد الآخر، ثم بعد ذلك يقلد صاحبه، ولا يصير إلى اجتهاده.

وعلى كل حال هذا له أمثلة أخرى لا أطوِّل بها، المقصود التوضيح.

الخامس: وهو ما كان من قبيل اختلاف التنوع، وهذا واضح، وتكلمنا عليه، فهذا لا يراعى فيه الاختلاف؛ لأن كل هذا حق أصلًا.

لكن هناك حالات يتعذر فيها الخروج من الاختلاف، أقوال أحيانًا تكون متناقضة، إن قلت بهذا عند الآخر أنت مسيء وآثم، وإن قلت بما يقابله فأنت عند الأول كذلك، مثل قراءة سورة الفاتحة خلف الإمام في الجهرية، الذين يقولون: لا تقرأ، يقولون: لا تجوز له القراءة؛ لأن الله قال: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الأعراف: 204]، فإن قرأ فهو مسيء، ومذنب، ومخالف لهذه الآية، والذين يقولون: يجب أن يقرأ ويستدلون بالأدلة الأخرى، يقولون: إن لم يقرأ فصلاته باطلة، فماذا تصنع في مسألة الاحتياط في هذا الموضوع؟ كيف تخرج من الخلاف في مثل هذا؟ فعل الأحوط؟ ما في أحوط هنا وإن كان بعض أهل العلم ذكر شيئًا يقول: إنه الأحوط في مثل هذا المثال، وليس المقصود مناقشة المثال بعينه، لكن توجد مسائل هي بهذه الطريقة.

كذلك إذا كان الاختلاف يتعلق بحقوق الآخرين، مثل مال اليتيم، هذا الحق مختلف فيه، فهل يمكن هنا أن نقول: والله نقوم بما يكون فيه المسامحة، والمساهلة بمال أحدهما، والحاكم يتوسط -القاضي يعني- في الخلاف في هذه المسألة -مسألة مختلف فيها- فهل المال يستحقه هذا اليتيم، أو يستحقه غريمه مثلًا؟.

فهنا لابد من الفصل في هذه القضية، والأخذ بأحد القولين، ما نقول: لا والله، نحن نجمع بين هذا وهذا، ونلفق من ذلك حكمًا يضيع به لربما حق اليتيم، أو بعض حق اليتيم مثلًا، وهؤلاء الخصوم في هذه الحقوق أحيانًا يقولون: نريد الحق لا نريد الصلح، نريد مفاصل الحقوق. 

من الذي يراعي الخلاف؟

لكن يبقى سؤال هنا من الذي يراعي الخلاف؟ مراعاة الخلاف كما قال الشاطبي: هذا شأن المجتهدين من الفقهاء؛ لأن ذلك يعني مراعاة دليل المخالف، وهذا النظر إنما يختص بأهل الاجتهاد، وليس بالمقلدين، أو العوام، أو أشباه العوام.

مراعاة حال أهل البلد:

من الأشياء التي ينبغي أن تراعى: حال أهل البلد، ولذلك يقولون: من آداب القاضي إذا جاء إلى بلد أنه يعرف العادات، ومصطلحات هؤلاء الناس في العبارات، والألفاظ، ماذا يقصدون بها، وكيف يعبرون عنها، وأعراف أهل ذلك البلد.

وعليٌّ مضى كلامه حينما قال لقضاته: "اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف حتى يكون للناس جماعة، أو أموت كما مات أصحابي"[27].

عمر بن عبدالعزيز قال لقضاته في الأمصار: "ليقضِ كل قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم"[28]، ولذلك لا يصح أن يُبتدر الناس بأمور هي على خلاف الفتوى الجارية في ذلك البلد.

يقول إسماعيل ابن بنت السُّدي: "كنت في مجلس مالك بن أنس، فسئل عن فريضة -يعني عن حكم يتعلق بالفرائض- فأجاب بقول زيد، فقلت فيها ما قال علي وابن مسعود، فقال مالك: إن عليًّا وعبدالله لا ينكر فضلهما، وأهل بلدنا على قول زيد بن ثابت -يعني أهل المدينة، وإذا كنت بين قوم فلا تبدأْهم بما لا يعرفون، فيبدأَك منهم ما تكره"[29].

ناس هنا مشوا على فتوى، فيأتي إنسان ويأتيهم بفتوى ليس عليها العمل في بلدهم.

ولذلك يراعى القول الذائع عند هؤلاء العلماء، والفتوى الشائعة، ولا يصح لآحاد طلاب العلم أن يأتوا بفتاوى غريبة تسبب عند الناس خللًا وبلبلة، واضطرابًا، ولربما أدى ذلك إلى الشك في ثوابت الشريعة أحيانًا؛ لأن هذا الأمر اعتادوا عليه، ونشئوا على قول المفتين عندهم أن هذا يجوز، أو أن هذا لا يجوز، فيأتيهم بفتوى غريبة تنقض هذا من أصله.

تبقى مسألة الإنكار في مسائل الاختلاف: أن ذلك إنما يكون لمن خالف القرآن والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه السلف خلافًا لا يعذر فيه مثله، إلى آخر ما ذكرنا من الحالات، وذكرنا أيضًا ضابط المسائل الاجتهادية، هذا كله ينبغي مراعاته.

وحينما نتحدث عن الاختلاف والتعامل معه لاحظوا أن مثل هذه القضايا هي قضايا دقيقة، وذات معايير، وتحتاج إلى نظر في أدلة، وتنزيل على قضايا واقعة، فهل هذا يمكن لكل أحد؟ هل هذا يمكن للمبتدئين، أو المتوسطين في الطلب؟، ومن ثمّ فإن ما نحن فيه من المبادرة والمسارعة بالكلام في كل شيء هذا غير صواب، وهو مما وسع الاختلاف، وزاد في هذه المشكلة، وفاقم الفتن، وأوقع الناس في مثل هذه البلبلة التي أدت إلى زعزعة ثوابت كانت مستقرة عند هؤلاء الناس.  

استحضار أن الأصول والغايات والطرق والمقاصد واحدة:

لكن من الأشياء التي ينبغي أن نلاحظها في تعاملنا مع الخلاف عمومًا لاسيما حينما نختلف مع إخواننا في اختلاف التضاد السائغ، أن نستحضر أن الأصول والغايات والطرق والمقاصد واحدة، كما يقرر الحافظ ابن القيم بعد أن قال بأن الاختلاف أمر ضروري حينما يقع بين الناس للأسباب التي ذكرناها، يقول: "ولكن إذا كان الأصل واحدًا، والغاية المطلوبة واحدة، والطريق المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافًا لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة، فإن الأصل الذي بنوا عليه واحد وهو كتاب الله وسنة رسوله، والقصد واحد وهو طاعة الله ورسوله، والطريق واحد وهو النظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل قول، ورأي، وقياس، وذوق، وسياسة"[30].

نحن متفقون على هذا، لكن حينما تختلف اجتهاداتنا فلماذا نتفرق وننقسم؟، نحن متفقون على الأصل هو اتباع الرسول ﷺ والسلف الصالح، فإذًا نحن حينما نجتهد، ونختلف في وجهات نظر فإننا يجب أن توجد بيننا الألفة، فأنا أدْرْس نفس الكتب التي تدْرسها، وأنا أدرِّس نفس الكتب التي تدرِّسها، وأنا أتفق معك في نفس الأصول والمنطلقات، والأمور المعتبرة فيما يرجع الناس إليه من مصادر التلقي والنظر والاستدلال، العقيدة واحدة.

لماذا هذا في شق، وهذا في شق، وهذا في طرف، وهذا في طرف، وهذا يرشق، وهذا يرشق، وهذا ينبز بالألقاب والثاني يقابله بلقب أقبح منه؟، هذا يجوز؟! هذا لا يجوز بحال من الأحوال.

وقد يكون كثير من هذا الاختلاف هو في أمور مستجدة، وقضايا من النوازل، فيما يكون بين الناس من فتن ومشكلات.

فهذا كله لا يوجب هذا التباين والتفرق، فيتكلم من يُحسن، ومن لا يُحسن فإنه يمسك لسانه ويده، فينكف كثير من الشر، ونستريح.

منع إثارة الفتاوى الشاذة والأقوال الضعيفة:

كذلك أيضًا يُمنع من إثارة الفتاوى الشاذة، والأقوال الضعيفة؛ لأن هذه تسبب -كما سبق- البلبلة، وتسبب الفتن بين الناس، وشيخ الإسلام يقول: "مثل هذا ليس لأحد أن يحكيه عن إمام من أئمة المسلمين، لا على وجه القدح فيه، ولا على وجه المتابعة".

يقول: يعني ينبغي أن يُطوى، ولا يُروى، الأقوال الشاذة لماذا تثار سواء كانت قديمة، أو كانت جديدة؟، يقول: "بمثل هذا صار وزير التتر يلقي الفتنة بين مذاهب أهل السنة، حتى يدعوهم إلى الخروج عن السنة والجماعة، ويوقعهم في مذاهب الرافضة وأهل الإلحاد"[31].

يلعب فيهم بهذه الطريقة، واليوم شياطين الإنس والجن من أعداء الدين من المنافقين وأصحاب المذاهب الفاسدة الباطلة لربما يغرون بعض من ينتسب إلى العلم ظاهرًا، أو نحو ذلك بإثارة فتوى يشتغل بها الناس، في وقت تنقض فيه عرى الإسلام عروة عروة.

يعني: يأتيك من يشغل الناس بمسألة -مثلًا- رَضاع الكبير، ثم بعد ذلك هؤلاء أصلًا قد لا يفهمون المراد برضاع الكبير، يظنون أن هذه المرأة تخرج ثديها، وترضع هذا الرجل خمسًا مشبعات حتى يصير محرمًا لها، تحرُم عليه، بينما من قال بهذا هو لا يقصد ذلك، وإنما تعطيه هذا الحليب بواسطة إناء، أو نحو ذلك، بقدر خمسٍ مشبعات عند الحاجة، يعني: إذا كان هناك حاجة لمثل هذا، هذا قول غير صحيح، هذا قول قال به بعض أهل العلم، ولكن عامة أهل العلم، السواد الأعظم من أهل العلم أن ذلك لا يصح.

ولكن وُجد من قال به، نحن نعتقد أن هذا القول شاذ، أو قول ضعيف، فإذا جاء من يثيره مع المعطيات المعاصرة بوسائل الإعلام، وكثرة الشامتين، وكثرة المفسدين، فإن ذلك يتحول إلى شناعة.  

ما أخذوه من مأخذ صحيح، وما فهموا قصد القائل به، وإنما أخذوه بصورة مشوهة، ثم بعد ذلك صاروا يشمتون بالدين وأهله، وصار ذلك ضُحكة يتلاعب به هؤلاء من المفسدين، هذا لا يليق بحال من الأحوال.

ثم يبدأ يُشغل الناس، وتعتلج المنتديات، والمواقع، والحسابات، وما إلى ذلك، كل أحد يريد أن يدلي بدلوه الآن في هذه القضية.

هذه القضية تُطوى، ولا تُروى، ولا تحكى، لا على سبيل المدح، ولا على سبيل الذم، لا هذا يأتي يقول: أنا أتبنى هذا القول، قال به فلان، وقال به فلان، ولا يكون ذلك أيضًا على سبيل الشناعة، وإنما ينبغي أن يقطع الطريق على المتربصين، والذين يريدون أن يصطادوا بمثل هذه الفتاوى والأقوال في زمن صار فيه الإعلام يلعب في عقول الناس.

العدل الذي يجب على أهل الإيمان أن يتحلوا به:

والله -تبارك وتعالى- يقول: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [لأنعام:152]، وذلك كما يقول الشيخ عبدالرحمن بن سعدي عند هذه الآية: "بمراعاة الصدق فيمن تحبون، ومن تكرهون، والإنصاف، وعدم كتمان ما يلزم بيانه، فإن الميل على من تكره بالكلام فيه، أو في مقالته من الظلم المحرم، بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع، فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، وأن يبين ما فيها من الحق والباطل، ويعتبر قربها من الحق وبعدها عنه"[32].

حينما نكره فلانًا، ولو كان يوافقنا نبحث عن تخطئة قوله، بل لربما نبحث في كلامه الطويل، وفي مؤلفاته، وفيما له من دروس صوتية، ونحو ذلك نبحث عن خطأ، نسمع مئات الأشرطة حتى نبحث عن خطأ، هل هذا يجوز؟ هذا خلاف العدل، وهو من البغي والظلم والعدوان، إذا كنا نتعامل مع الاختلاف بهذه الطريقة لا يمكن أن نجتمع، والضحية هي مصالح الأمة، وتضييع حدود الله -تبارك وتعالى، والله يقول: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]. 

شيخ الإسلام يقول: "هذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به، فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نُهي صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة، أو بهوى نفس؟، فهو أحق ألا يظلم، بل يعدل معه"[33].

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يذكر وجوب الإنصاف، بل يقول: "هو أفضل حلية تحلى بها الرجل، خصوصًا من نصّب نفسه حكمًا بين الأقوال والمذاهب، والله يقول: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى:15].

فورثة الرسول منصبهم العدل بين الطوائف، وألا يميل أحدهم مع قريبه، وذوي مذهبه، وطائفته ومتبوعه، بل يكون الحق مطلوبه يسير بسيره، وينزل بنزوله، ويدين بدين العدل والإنصاف"[34].

هل نحن كذلك؟ نحن كما قلنا منذ البداية: هذا الكلام يوجهه كل واحد منا إلى نفسه، لسنا نتحدث عن الآخرين، نحن نعالج ما عندنا من علل، ومشكلات، والله المستعان.

فهذا كله يجب مراعاته، وألا نضيعه، وقد قال عمار كما في الصحيح: "ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالَم، والإنفاق من الإقتار"[35].

أن نعتقد أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين:

وعلى كل حال مما يدخل في هذا: أن نعتقد أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين، من ثبت له أصل الإسلام، فلا يُخرج من الإسلام، ويحكم بكفره إلا بيقين، من ثبت له اتباع السنة لا يُخرج منها إلا بيقين، وهكذا الخطأ في الحكم بالإيمان أسهل من الخطأ في الحكم بالكفر، حينما نُخرج هذا من الإسلام، ونحكم عليه فإن النبي ﷺ يقول: من دعا رجلًا بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حارَ عليه[36]، أي رجع عليه.

فكوننا نعلم أنه دخل الإسلام بيقين لا يُخرج منه إلا بيقين، وحينما نخطئ في الحكم عليه بهذا -أنه باقٍ على أصل الإسلام- أسهل من أن نخرجه من الدين.

ومن ثَمّ نعلم أن مسائل الاجتهاد لا تأثيم فيها، ولا هجران، فهذا مذهب أهل السنة، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: أنهم لا يرون تأثيمًا لكل من اجتهد في المسائل كلها، من غير تفريق بين الأصول والفروع[37].

كذلك حينما نقول بأن هذا القول كفر فكما أشرت سابقًا لا يعني ذلك أن يسوغ القول، أو أن نسوغ تنزيل ذلك على المعين، فإن الحكم العام سواءً كان بالكفر، من فعل ذلك فقد كفر، أو اللعن العاملعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة[38].

لا يجوز أن نرى إنسانًا، أو نرى امرأة قد فعلت الوشم، أو النمص، أو نحو ذلك، ثم نلعنها بعينها، ونقول: هذه ملعونة بعينها؛ لأن هناك موانع تمنع من نزول هذا اللعن عليها، كما ذكر شيخ الإسلام أشياء كثيرة من هذا القبيل من هذه الأمور المانعة، كأن يكون هذا الإنسان معذورًا لجهله، أو يكون هذا الإنسان عنده حسنات ماحية، أو يكون عنده مصائب مكفرة، أو قد لا يتنزّل عليه اللعن مثلًا لوجود شفاعة، أو نحو ذلك، فهذا اللعن العام شيء، أو الحكم بأن هذا بدعة، أو نحو ذلك يختلف عن تنزيله على المعيّن.

كذلك علينا أن نأخذ بالظواهر، والله يتولى السرائر، ما نقول: هذا ما يقصد إلا الشر، هذا لا يريد الخير، ولذلك قال الله ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، ثلاثة أشياء، ثم ماذا قال بعدها: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125].

إذًا لا تقل: فلان لا يريد الخير، فلان لا يقصد الخير، فلان يتظاهر بكذا إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ، قدم الدعوة بقالب من ذهب تقبلها النفوس، وتقبل عليها، ودع ما في القلوب لله -تبارك وتعالى.

الله يتولى السرائر، إذا كان النبي ﷺ يقول: إني لم أؤمر أن أنقِّب قلوب الناس، ولا أشق بطونهم[39]، فكيف بنا نحن؟.

كذلك أيضًا حينما يُقدِم ويجترئ الجهال على الحكم على العلماء، وأئمة الدين، ونحو ذلك، فلا شك أن هذا من أعظم الجرائم.

يقول ابن رجب: "أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيرة مما لا يقدح في إمامتهم وعلمهم، فكان ماذا؟ لقد انغمر ذلك في بحر علمهم، وحسن مقصدهم، ونصرهم للدين، والانتصاب للتنقيب عن زلاتهم ليس محمودًا، ولا مشكورًا، لاسيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ، ولا ينفع فيها كشفه وبيانه"[40].

كذلك يقول ابن المسيب -رحمه الله: "ليس من شريف، ولا عالم، ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب ولابد، ولكن من الناس من لا تُذكر عيوبه، من كان فضله أكثر من نقصه وُهب نقصه لفضله"[41].

العبرة بما غلب، وإلا فلا يخلو أحد، هذا الذي يتكلم لا يوجد فيه عيوب؟ هذا الذي يكتب كتابات عنيفة وشديدة وقاسية لا يوجد فيه عيوب؟

حينما يتكلم على هذه القمة، هذا العالِم، لو نظرنا وقارنا لوجدنا هذا الكاتب لربما ينغمس في العيوب، والجهالات والذنوب، والمخالفات، أعظم بكثير مما قد عابه على غيره، ولكنه يرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عينه، وكما قال شيخ الإسلام: "قد يكون صدِّيقًا عظيمًا، فليس من شرط الصدِّيق أن يكون قوله كله صحيحًا، وعمله كله سنة"[42].  

قد يخطئ، قد يخالف السنة لعذر، جهل ذلك، ما فهمه، وتجد الكثيرين لربما يتورع من أكل الحرام، أو أكل الربا، أو شرب الخمر، أو نحو ذلك، لكن تجد اللسان فاجرًا، يفري أعراض الأحياء والأموات.

الدين ينتظم أعمال القلوب، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان، فلا يصح أن يكون اللسان طليقًا، يرتع في أودية الفجور والغي، ثم يقال عن صاحبه: إنه متدين، وصالح، وتقي، أو إنه طالب علم، أو إنه داعية، أو إنه غير ذلك من الأوصاف، أبدًا، بل هذا من الفسوق.

والله لما نهى مثلا عن الغيبة قال:أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، وكذلك أيضًا قال: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].

وقال: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات:11]، فهذا الذي يرمي الناس بالألقاب القبيحة، ويلمزهم بذلكوَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1]، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11].

فمثل هذا لا يكون صالحًا، ولا يكون عمله على جادة صحيحة، ومن الذي يسلم من ألسن الناس؟، لكن الموفق هو الذي يضبط لسانه وجوارحه، ويكون على حال مرضية.

الإمام أحمد سأل بعض طلبة العلم: من أين أقبلتم؟ قالوا: جئنا من عند أبي كريب، أبو كريب هذا كان ينال من الإمام أحمد ويقع فيه، فقال الإمام أحمد: نعم الرجل الصالح، خذوا عنه، وتلقوا عنه العلم، قالوا: إنه ينال منك ويتكلم فيك، فقال: أي شيء حيلتي فيه، إنه رجل قد ابتُلي بي[43].

ما قال: ماذا يقول؟!، ثم تغير عليه، وحكم عليه بخلاف ذلك، أبدًا.

هذا زر بن حبيش، وأبو وائل، زر بن حبيش كان يميل إلى عليٍّ ، وأبو وائل كان يميل إلى عثمان ، يقول الأعمش -وهو تلميذ لهما: "كانوا أشد شيءٍ تحابًّا وتوادًّا في ذات الله ، ما تكلم أحدهما في الآخر قط حتى ماتا".   

هذا يميل إلى عثمان، وهذا يميل إلى عليٍّ، ما أورث هذا نوعًا من التعصب والانقسام والانحياز، كما نفعل نحن الآن، أنت تحب الشيخ الفلاني؟ تحب الطائفة الفلانية، تميل إليها؟ وأنت تحب الطائفة الفلانية؟ إذاً لا مساس، هذا يجوز؟ هذا يجوز؟

يقول: ما تكلم أحدهما في الآخر قط حتى ماتا، ولم يحدِّث أبو وائل بحضرة زر؛ لأنه كان أكبر منه سنًّا[44].

الذهبي يقول في ابن حزم: "ولِي ميلٌ لأبي محمد بن حزم لمحبته للحديث الصحيح، ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقول في الرجال والعلل، وفي المسائل البشعة في الفروع والأصول، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكني لا أكفره، ولا أضلله، وأرجو له العفو، والمسامحة، وللمسلمين، وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه"[45].

كذلك أيضًا من الأشياء التي تنبغي في التعامل من جهة العدل أنه إذا قال من نخالفه، أو من نكرهه، أو نحو ذلك قولًا هو حق وصواب أن نقبل ذلك منه، وذكرنا كلامًا لأهل العلم في هذا المعنى، كلام شيخ الإسلام وما إلى ذلك.

وأمر سادس مما يتعلق بالتعامل مع الاختلاف: الصبر وسعة الصدر، والاحتمال، والرفق، والمداراة، ومقابلة السيئة بالحسنة، كما يقول العامة: "ما نتبارى بالرَّدى".

يعني: إذا جاء الرَّدى من طرف لا ينبغي أن نباريه، وأن نقول: نحن أشطر في هذا منك، بعضهم يقول عن نفسه: إنه أستاذ في السب والشتم، وموغل في هذا -نسأل الله العافية- يقول: إذا كان عندك كلمة أقابلك بعشر، أستاذية في الإقذاع، فهذا لا يجوز، والله يقول: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34].

ويقول: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]، هذه النصوص لمن؟ هذه في حال المحبة؟ هذه في حال المجافاة، هذه في حال الكراهية، هذه في حال الإساءة، كيف يكون إعمال هذه النصوص؟

انظروا أثَرَ الإحسان، يقول مساور الورّاق -وهو رجل يوصف بالزهد ويقول الشعر:

كنا من الدين قبلَ اليوم في سعةٍ حتى بُلينا بأصحابِ المقاييسِ
قومٌ إذا اجتمعوا صاحوا كأنهُمُ ثعالب ضَبحتْ بين النواويسِ

يهجو أصحاب الرأي أبا حنيفة، ومن على مذهبه، أبو حنيفة بلغه ذلك، فأرسل إليه هدية، ما قابله بالمثل، أرسل إليه هدية، فماذا قال الرجل؟، قال:

إذا ما النّاس يومًا قايسونا بآبِدةٍ من الفُتيا طريفة
أتيناهم بمقياس صحيحٍ بديعٍ من طراز أبي حنيفة
إذا سمع الفقيه بها وعاها وأودعها بحِبر في صحيفة[46]

لاحظ مثل هذه الهدية كيف أثرت، انتهت المشكلة، لكن لو قابله بمثله، وهذا قام معه آخرون، وهذا قام معه آخرون تحوّلت إلى معركة داحس والغبراء كمعاركنا اليوم.

أسأل الله أن ينفعنا وإيّاكم بما سمعنا، إنه سميع مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله.

  1. الرسالة للشافعي (1/ 560).
  2. جماع العلم (ص:44).
  3. الموافقات (5/ 131).
  4. موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية (6/ 382).
  5. الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/ 516).
  6. المصدر السابق (2/ 517-518).
  7. سير أعلام النبلاء (22/ 172).
  8. الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/ 515).
  9. جامع العلوم والحكم (3/ 979).
  10. إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 203).
  11. أخرجه البخاري،  كتاب الفرائض، باب: الولد للفراش، حرة كانت أو أمة (8/ 153)، رقم: (6749).
  12. أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي (2/ 229)، رقم: (2083).
  13. شرح النووي على مسلم (2/ 23).
  14. انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 906)، رقم: (1696).
  15. الاعتصام للشاطبي (2/ 664).
  16. المنثور في القواعد الفقهية للزركشي (2/ 127).
  17. المغني لابن قدامة (2/ 265).
  18. أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (9/ 108)، رقم: (7352)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب، أو أخطأ (3/ 1342)، رقم: (1716).
  19. مجموع الفتاوى (33/ 42).
  20. مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص:594).
  21. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/ 165).
  22. مجموع الفتاوى (23/ 281).
  23. مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني (ص:20).
  24. حجة الله البالغة (1/ 270).
  25. كشاف القناع عن متن الإقناع (6/ 143).
  26. إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 201).
  27. أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن (5/19)، رقم: (3707).
  28.  أخرجه الدارمي في سننه، باب اختلاف الفقهاء (1/ 489)، رقم: (652).
  29. [29] سير أعلام النبلاء (11/ 177).
  30. الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/ 519).
  31. مجموع الفتاوى (32/ 137).
  32. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:280).
  33. منهاج السنة النبوية (5/ 127).
  34. إعلام الموقعين عن رب العالمين ت مشهور (1/ 54).
  35. صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: إفشاء السلام من الإسلام (1/ 15).
  36. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم (1/ 79)، رقم: (61).
  37. مجموع الفتاوى (13/ 125).
  38. أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب الوصل في الشعر (7/ 165)، رقم: (5933)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله (3/ 1677)، رقم: (2124).
  39. أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (2/ 742)، رقم: (1064).
  40. الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة، لابن رجب (56-57).
  41. الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص:79).
  42. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 106).
  43. سير أعلام النبلاء (11/ 317).
  44. المصدر السابق (4/ 169).
  45. المصدر السابق (18/ 201- 202).
  46. روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، لابن حبان (ص:243).

مواد ذات صلة