الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
أقسام النسخ – الأحرف السبعة
تاريخ النشر: ٣٠ / ذو القعدة / ١٤٢٣
التحميل: 1566
مرات الإستماع: 1686

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فبقيت بعض المسائل في موضوع النسخ، أقول: من الأصول التي يحتاج إلى معرفتها في هذا الباب أن الأصل عدم النسخ، الأصل الإحكام، وليس النسخ، وبالتالي فلا ينتقل عن هذا الأصل إلا بدليل يوجب ذلك، وهذا يؤيد ما ذكرنا من قبل أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، الأصل عدم النسخ.

ومن الأمور المفيدة أيضًا، أو من اللطائف في هذا الباب، أو من ملح هذا الباب: أنه لم يوجد مثال في النسخ المعروف الذي بلغ المكلفين تكرر في شيء واحد بعينه مرتين وأكثر، وإنما قد ينسخ الشيء ثم يؤمر بغيره، أما أنه ينسخ مرتين فهذا لا يوجد له مثال في ما نعلم والله تعالى أعلم.

ولا يرد في ذلك ما جاء في نسخ الصلاة مرة بعد مرة في ليلة المعراج؛ لأن ذلك ينازع كثير من العلماء فيه هل هو نسخ أم لا؛ لأنه لم يبلغ المكلفين، ولم يتمكنوا من فعله، وهذه مسألة يحتاج إليها عند الجواب والرد على بعض من ادعى النسخ في بعض الصور، وقد استعمل ذلك مثل الحافظ ابن حجر -رحمه الله- حيث زعم بعضهم أن القبلة كانت بمكة إلى الكعبة، فلما تحول النبي ﷺ إلى المدينة تحول إلى بيت المقدس، ثم نسخ ذلك إلى الكعبة، هذا ضعّفه الحافظ قال: ويلزم معه دعوى النسخ مرتين. ذكره في الفتح[1].

ومن المسائل المفيدة في هذا الباب: أن كل ما وجب امتثاله في وقت ما لعله تقتضي ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقالها إلى حكم آخر، فليس بنسخ.

يعني: كل حكم ربط بعله، ثم ينتقل بانتقالها، فليس من قبيل النسخ؛ لأنه ليس برفع للحكم بخطاب شرعي متأخر متراخ عنه، وإنما هذا أمر به بسبب، ثم زال هذا السبب، فارتفع الحكم بزوال سببه، وهذا بخلاف ما حكم به الشارع مطلقا.

مثاله: كثير من الآيات التي تأمر بالصبر، وتحمل أذى المشركين، والصفح والإعراض والعفو، وما أشبه ذلك، حتى إن الله  قال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين:8].

فمثل هذه الأدلة الكثيرة في العفو والصفح، قال بعض العلماء: نسختها جميعا آية واحدة، وهي الآية الخامسة من سورة براءة: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5].

فلا مجال للصفح، ولا مجال للإعراض، ولا مجال للعفو، ولا مجال لتركهم، فليس لهم إلا السيف، قالوا: نسختها آية السيف، قالوا آية السيف نسخت 124 آية، وهذا غير صحيح.

صحيح أن آخر ما نزل سورة براءة، ومنه هذه الآية: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ هذا من آخر ما نزل، لكن آيات الصفح والاعراض التي يحتج بها المنهزمون الذين يقولون: إن الإسلام دين صفح وإعراض ومسامحه، ودين تسامح، وليس بدين قتال: هؤلاء يكذبون على الله، ويكذبون على الناس، ويزيفون حقائق الإسلام، هذا كثير من العلماء قالوا إنه نسخ بآية السيف، والعدل في هذا الباب أن يقال: إنه لم ينسخ، لكن ذلك يستعمل في أحوال الضعف، إذا كانت الأمة ضعيفة، لا تستطيع المواجهة، فعند ذلك يكون حق التعامل مع الكفار الصفح، والإعراض، والمسامحة، والتجاوز والصبر.

وأما في حال التمكن والقوة، فليس لهم إلا السيف، فهذه حقيقة دين الإسلام، فهو دين القوة، ودين الجهاد، فالأصل المصارمة، والأصل:  فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12]،  فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5].

هذا هو الأصل، وهذا هو الكمال، لكن في حال العجز يلجأ إلى الصفح والإعراض، لكن لا يجعل الصفح والإعراض هو دين الإسلام، لا تجعل الرخصة في حال العجز والضعف أن تجعل هي الأصل، ويقال: هذا هو دين الإسلام، إذا ضربك على خدك الأيمن، تدير له خدك الأيسر، نقول: لا، إذا ضربك على خدك الأيمن تكسر فكه الأيسر، فليس هذا دين الضعف، وإنما دين القوة.

هذا مع المشركين، أما مع المسلمين: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۝ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ  [فصلت:34-35].

أما الكفار فيعاملون بمعاملة تليق بهم، الكفار المحاربين لله ولرسوله ﷺ.

فأقول: هذه الآيات التي فيها الأمر بالصفح والعفو هي في وقت معين، في حال الضعف، فإذا انتقلت الأمة إلى حال القوة، فيستعمل معهم: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5].

فهل يقال: إن هذا من قبيل النسخ؟ الجواب: لا.

ومن المسائل المهمة: أن كل حكم ورد في خطاب مشعر بالتوقيت، أو ربط بغاية مجهولة، ثم انقضى بانقضائها فليس بنسخ.

النسخ أن يشرع الله لهم حكمًا عامًا، ثم بعد ذلك يرفع، لكن الخطابات المقيدة بالتوقيت، أو المشعرة به أن هذا إلى وقت كذا مثلًا، ثم بعد ذلك يأتي هذا الوقت ويتغير الحكم هذا ليس من قبيل النسخ، غيي بغاية، ثم بلغ هذه الغاية، فيتغير الحكم فليس بنسخ.

مثاله: الله يقول: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [لنساء:15].

ما حكمها قبل نزول حد الزاني، -وهو الجلد للبكر والرجم للثيب؟ ماذا كان الحكم؟ الإمساك للنساء في البيوت حتى تموت، ما تخرج، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، النبي ﷺ بعد ذلك بمدة لما نزل عليه حد هذه الفاحشة، قال: خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة، والرجم[2].

فهل هذا يقال: إنه من قبيل النسخ؟ الجواب: لا، غُيي بغاية، فبلغ هذه الغاية: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا فجعل الله لهن سبيلا، فتغير هذا الحكم، والحديث في صحيح مسلم.

أقسام النسخ:

النسخ ينقسم باعتبارات عدة، إلى أقسام مختلفة، وهذا لا غرابه فيه، الشيء الواحد ينقسم باعتبارات مختلفة، نحن حينما نقول: الإنسان باعتبار الجنس ينقسم إلى ذكر وأنثى، وباعتبار العقل ينقسم إلى عاقل ومجنون، وباعتبار الصحة والمرض ينقسم إلى صحيح ومريض، وباعتبار الدين ينقسم إلى مسلم وكافر، وباعتبار العلم ينقسم إلى عالم وجاهل، وباعتبار اللغة إلى عربي وأعجمي.

فالشيء الواحد ينقسم باعتبارات عدة، إلى أقسام مختلفة، فالآن عندنا النسخ ينقسم باعتبارات عدة، إذا نظرنا إليه من زاوية معين فهو أقسام، إذا نظرنا إليه من زاوية أخرى فهو أيضا أقسام، وهكذا.

فمثلا: باعتبار الأخف والأثقل، النسخ حينما ينتقل الحكم إلى شيء أخف، أو إلى شيء أثقل، ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: نسخ إلى الأخف، مثل: مصابرة الواحد للعشرة، نسخ بمصابرة اثنين في القتال.

الثاني: النسخ بالأثقل، مثل: صيام رمضان كان على التخيير، ثم صار لازمًا لكل مستطيع، فهذا نسخ إلى الأثقل.

الثالث: النسخ إلى المساوي، يعني: من ناحية المشقة، القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، هل هذا يكلف مستقبل القبلة تبعة زائدة؟ ما عليه إلا أن يستدير، فبدل ما يستقبل الشمال مثلا يستقبل الجنوب، إذا كان في المدينة.

هذا باعتبار ما يمكن أن يوصف به النسخ من كونه إلى أخف أو أثقل، يعني: باعتبار التكليف المنتقل إليه، من خفة وثقل.

وينقسم بالنظر إلى وقته إلى: نسخ قبل التمكن من الامتثال والفعل، وإلى نسخ بعد التمكن، وهذه مسألة مشهورة من مسائل الناسخ والمنسوخ، وإن كان كل صور النسخ كانت بعد التمكن من الامتثال، ما نسخ إلا بعدما طبقوا ولا عندنا إلا مثال واحد هو الذي يمثلون به على النسخ قبل التمكن، وهو ذبح إبراهيم لابنه أمره الله بالذبح، ثم نسخ ذلك قبل أن يحصل هذا الذبح، فهذا نسخ قبل التمكن.

وهناك مثال آخر عليه فيه خلاف، وهو: نسخ الصلوات، لكن هذا قبل بلوغ المكلفين، لكن بعد ما بلغ المكلف، ثم ينسخ قبل أن يفعل ليس عندنا إلا هذا المثال، والله تعالى أعلم.

وينقسم باعتبار النظر إلى كونه إلى بدل أو إلى غير بدل، ينقسم إلى قسمين على الأشهر والله أعلم:

نسخ إلى بدل، وهذا عامة صور النسخ، والله يقول: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]، فالنسخ إلى بدل هو الغالب، مثل: من بيت المقدس إلى الكعبة، ما قال لهم ما تستقبلون شيء.

وكذلك أيضًا مصابرة عشرة إلى اثنين، ما قال لهم ما تصابرون أحد، وهكذا في عامة الأمثلة.

وأما النسخ إلى غير بدل، فهو نادر، وأشهر مثال له وفيه نزاع مشهور، قوله -تبارك وتعالى- في الصدقة بين يدي النجوى:  أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [المجادلة:13].

فنسخت الصدقة بين يدي النجوى إلى لا شيء، نحن لا نريد الخلاف هنا، لكن لأن هذا هو أشهر مثال، وأوضح مثال.

والمخالفون يعترضون عليه كشيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله- يقولون: النسخ البدل موجود، الصدقة بقيت مستحبة، ولم ترفع بالكلية، وبه تقول ابن القيم -رحمه الله.

فشيخ الإسلام وابن القيم وطائفة، يقولون: لا يمكن أن يكون نسخ إلى غير بدل؛ لأن الله وعد، فقال: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]، ويبقى الخلاف صوريًا، والله تعالى أعلم؛ لأن حقيقة الخلاف بين هؤلاء هو في تسمية هذا الشيء، الحكم بعد النسخ، فالذين يقولون: إن النسخ يكون إلى غير بدل مثلًا، يقولون: الله   نقلهم إلى التخفيف، ولم يتركهم هملًا، فنقلهم إلى كون ذلك مباحًا من غير إيجاب شيء آخر معه، فمناجاة النبي ﷺ رجعت إلى الحكم الأصلي قبل ذلك، قبل وجوب الصدقة بين يدي النجوى، فكان ذلك مباحًا، من غير اشتراط.

فرجع الحكم إلى ما كان عليه، ولم يبق المكلفون هملًا، فاستووا بهذه الطريقة مع من يقولون لا بد من البدل، فابن القيم -رحمه الله- ومن يشترطون البدل، يقول: الله لم يتركهم هملًا بلا حكم، وأولئك يقولون نعم، الله لم يتركهم هملًا، فرجع الحكم إلى الأصل قبل النسخ، فيبقى أنه لا يترتب عليها عمل، والله تعالى أعلم، فهو خلاف لفظي.

وينقسم باعتبار القدر الذي يقع عليه النسخ إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: نسخ تلاوة فقط، مع بقاء الحكم، مثل آية الرجم: والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم[3]كانت آية تقرأ فنسخ لفظها، وبقي الحكم ثابتًا لم ينسخ، فهذا نسخ اللفظ فقط.

القسم الثاني: نسخ الحكم فقط مع بقاء اللفظ، مثل: آية المصابرة:  إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:65]، فهذه نسخ حكمها، وبقي لفظها.

القسم الثالث:وهو ما نسخ حكمه ولفظه، مثل حديث عائشة –ا: نزل في القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نزل أيضًا خمس معلومات[4]فهذه العشر كانت من القرآن، كانت آية في القرآن تدل عليها فنسخ اللفظ ونسخ الحكم.

وينقسم بالنظر إلى دليلة إلى أقسام متعددة، يمكن أن نجملها بقسمين كبيرين:

قسم متفق عليه، وقسم مختلف فيه.

فالقسم المتفق عليه، نسخ قرآن بقرآن، هذا بالاتفاق، مثل: نسخ قرآن بقرآن، مثل: مصابرة الواحد للعشرة بمصابرته لاثنين، هذا نسخ قرآن بقرآن هذا متفق عليه.

نسخ السنة المتواترة والأحادية بمتواتر السنة، هذا متفق عليه.

والمتواتر: ما رواه جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب، وكان مستند خبرهم الحس.

هذا المتواتر، جمع عن جمع في كل طبقة من طبقات الإسناد، والآحاد ما لم يبلغ درجة التواتر كالذي يرويه واحد عن واحد، أو في إسناده في الطبقة اثنان أو ثلاثة، ما لم يبلغ حد التواتر، هذا معنى المتواتر والآحاد.

فنسخ السنة المتواترة والآحادية بالمتواتر، هذا متفق عليه.

ونسخ الآحاد من السنة بالآحاد متفق عليه أنه جائز، ولا أحتاج أمثلة؛ لأن موضوعنا بالنسخ في القرآن لا شأن لنا بنسخ السنة بالسنة.

أما المختلف فيه: فنسخ القرآن بالسنة، السنة هل تنسخ القرآن أم لا؟

فيه خلاف مشهور، والأقرب أنه لا مانع منه، وهل وقع نسخ القرآن بالسنة؟ أنا لا أعرف مثالًا سالمًا من معارضة قوية، هو لا مانع منه، لكن ما عندنا مثال يسلم من المعارضة القوية، لا يوجد، حسب علمي.

ومن الأمثلة التي يوردها من يقول به: عشر رضعات كانت بالقرآن، نسخ بالسنة، وهي أن الأمر بقي على خمس، فرفع ذلك، نقول لهم: في الواقع أنه نسخ بقرآن، ثم نسخ هذا القرآن؛ لأن الآية التي فيها عشر رضعات يحرمن نسخت بآية أخرى أن خمس رضعات يحرمن، ثم نسخ لفظ الآية التي تقول أن خمس رضعات يحرمن مع بقاء حكمها، فالواقع أنه نسخ لقرآن بقرآن.

ومن أمثلته التي يمثلون لها المشهورة: آية الوصية، يقول الله كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:180]، مع أن النبي ﷺ يقول:لا وصية لوارث[5]فبعض العلماء يقولون: أصلًا الآية ما هي منسوخة؛ لأن هذا في الوالدين والأقربين الذين قام بهم مانع من موانع الإرث، كالأب القاتل، فللابن أن يوصي له، قد يقول قائل: كيف يوصي له، وهو قتله، مات يوصي بعد موته؟ نقول: لا، إذا ضربه ضربة قاتلة في مقتل، ثم أوصى قبل أن يموت لأبيه، فإنه ينفذ، فيما لا يزيد على الثلث.

أو يكون الأب على غير دين الولد، فهو لا يرث؛ لأنه لا يتوارث أهل ملتين شتى، فالأب إذا كان كافرًا والولد مسلمًا، فللابن أن يوصي لأبيه؛ لأنه لا يرثه.

فبعض العلماء يقولون: أصلًا الآية ليست بمنسوخة.

والذين يقولون: إنها منسوخة، بعضهم يقول: نسخها الحديث: لا وصية لوارث وبعضهم يقول:  نسخها آيات المواريث: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11] وخلاف كثير.

وفي النتيجة النهائية: لا يترتب عليه شيء؛ لأنك إذا نظرت إلى تحقيق القول في الآية المعينة، هل هي منسوخة أم لا؟ إذا قلنا: إن الذي نسخ إذا كانت آية الوصية مثلًا منسوخة.

الشافعي، يقول: نسخها آيات المواريث[6].

ويقول شيخ الإسلام وابن القيم، آيات المواريث هي التي نسختها[7].

والآخر يقول: نسخها الحديث: لا وصية لوارث النتيجة النهائية ما هي؟ أنها منسوخة، وأنه لا يجوز أن يوصي لوارث سواء قلنا هذه التي نسختها أو الأخـرى، فالمحصلة من الناحية العملية واحدة، لكن فقط بقي الخلاف في تعيين الذي نسخها.

فهذا نسخ القرآن بالسنة، والذين يقولون بأنه جائز هم الجمهور، والذين منعوا منه أئمة كبار، وليس من شأننا هنا أن نذكر الخلاف، وبالتالي لا أذكر حجج هؤلاء، وحجج هؤلاء، ثم الجواب عنها وسرد الأدلة.

نسخ السنة بالقرآن:

وعندنا من الصور المختلف فيها: نسخ السنة بالقرآن، السنة موضحة للقرآن، فهل ينسخها؟ كيف ينسخها وهـي موضحة له؟

نقول: لا مانع من ذلك، وإن خالف فيه بعض أهل العلم.

هل وقع؟ نقول: نعم وقع، فمن ذلك: التوجه إلى بيت المقدس أمروا به أولا بالسنة، ثم جاء الناسخ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144].

فصار القرآن ناسخًا للسنة، في أمثلة أخرى فيها خلاف، تحتاج إلى ورشة، لكن يكفينا هذا المثال الواضح جدًا.

نسخ الآحاد للمتواتر:

هنا مسألة يختلفون فيهـا أيضًا كثيرًا وهـي هل الآحاد ينسخ المتواتر أم لا؟

أقول: الراجح أنه ينسخ المتواتر، العبرة بالصحة والثبوت، وأما الاستدلال لهذا فلا مجال له هنا.

أقسام النسخ بالنظر إلى الحكم التكليفي:

بعد ذلك انتقل إلى صورة أخرى من أقسام النسخ، وهي: أن خطاب التكليف أمر ونـهي، يعني: يمكن نجعل لها عنوان، نقول: أقسام النسخ بالنظر إلى الحكم التكليفي.

الحكم التكليفي خمسة أقسام: الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والمحرم، هذه خمسة أقسام، وبعضهم يجعلها أربعة، ويجعلون المباح تكمله للقسمة؛ لأنه مستوى الطرفين، لا مأمور بـه، ولا منهي عنه.

فخطاب الشارع يكون إما بطلب الفعل، أو طلب الترك، طلب الفعل إما لزومًا، وهو الواجب، وإما أن يكون من غير إلزام فهو مستحب، وطلب الترك إما إلزامًا وهو الحرام، وإما من غير إلزام، فهو الكراهة فهذه أربعة أقسام.

باقي مستوى الطرفين وهو المباح، فبعضهم يلحقهم به تكملة للقسمة، والأحسن أن يفرق في هذا، ويقال الإباحة على قسمين: إباحة الشرعية، وإباحة أصلية، فالإباحة الشرعية داخله في أقسام الحكم التكليفي، والإباحة الأصلية خارجة عنه، دعوا هذا لا شأن لكم به في موضع النسخ.

خطاب الشارع إما أن يكون أمرًا أو نهيًا، وكل واحد على قسمين أمرٌ لازم، وأمرٌ غير لازم، نـهي لازم ونـهي غير لازم.

فالأمر على سبيل الإلزام يقع فيه النسخ على ثلاث صور: فيمكن أن يتحول من الوجوب إلى التحريم، مثل: استقبال بيت المقدس، حكمه في السابق: واجب، فلو جاء شخص، وقال: أريد أصلي إلى بيت المقدس، حتى أكون من أصحاب القبلتين، لم يجز له ذلك، وهذا حرام، فانتقل الحكم من الوجوب إلى التحريم.

فإذا الأمر اللازم يكون نسخة على ثلاثة أوجه: إما على سبيل التحريم، وإما أن ينقل إلى الاستحباب، مثل: الوضوء لكل صلاة، كان واجبًا، ثم نسخ ذلك فصار مستحبًا.

أو ينسخ من الوجوب إلى الإباحة، مثل: كان يجب أن يتوضأ الإنسان إذا أكل شيئًا مسته النار، ثم بعد ذلك صار ذلك مباحًا، ولا يقال إنه يستحب للإنسان إن أكل شيئًا مما مست النار أن يتوضأ، بخلاف الوضوء لكل صلاة.

يعني: الآن لو واحد توضأ لصلاة العشاء، ثم أكل شيئًا مسته النار، لا نقول له يستحب أن تتوضأ، لكن لو قال أريد أن أتوضأ مرة ثانية، أجدد الوضوء، مرة أخرى، نقول: هذا مباح.

أما ما أمر به الشارع أمرًا غير لازم، وهو المستحب، فهذا أيضًا يكون نسخه على ثلاثة أوجه: إلى الوجوب، مثل: صوم رمضان كان مستحبًا وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184]، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، فكان الإنسان مخيرًا، والأفضل له أن يصوم، ثم فنسخ من الاستحباب إلى الوجوب، فصار لازمًا واجبًا لكل مستطيع.

وقد ينسخ من الاستحباب إلى التحريم، يمكن أن يمثل له، كان في السابق يستحب العفو عن المشركين والصفح والمسامحة، ثم صار ذلك حرامًا؛ لأنه نسخ فصار الواجب هو قتلهم، أو قتالهم بعبارة أدق، لكن عرفنا أن الراجح أن هذا لم ينسخ.

أو ينسخ من الاستحباب إلى الإباحة، وهذا يذكرون له أمثلة فيها إشكال.

المباح هل يدخله النسخ؟ نقول: نعم، ممكن  ينسخ إلـى التحريم، مثل: لحوم الحمر الأهلية كانت مباحة، وحرمت عام خيبر.

ونوع إباحة لحوم الحمر الأهلية إباحة أصلية، والفرق بين الإباحة الأصلية والإباحة الشرعية: أن الإباحة الأصلية البقاء على حكم الأصل لم يتعرض لها الشارع، وأما الإباحة الشرعية فتكون بإذن الشارع بخصوصها مثل إباحة أكل الضب، فإباحته شرعية، فقد أكل بين يدي النبي ﷺ[8].

وسئل أحرام هو؟ لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه[9].

فإباحة الضب إباحة شرعية.

إباحة الحمر الأهلية قبل أن تحرم إباحة أصلية، فلما حرمت هل يقال له نسخ؟ الجواب: نعم.

الإباحة الشرعية مثل المتعة، كانت مباحة بإذن النبي ﷺ ثم حرمت، ثم أذن بها عام أوطاس، ثم حرمت، فالإذن بها أولًا، وثانيًا، ثم نسخت، ماذا يقال فيه؟ يقال: إنه نسخ.

فالحاصل أن المباح يتصور نسخه إلى التحريم.

وأما المنهي فهو إما أن يكون على سبيل الإلزام، فيمكن أن ينسخ إلى الإباحة، مثل: أول ما فرض الصيام كان يحرم المباشرة للنساء ليلة الصيام، ثم أبيح ذلك: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187].

كذلك الأكل والشرب، كان في أول فرض الصوم أن الإنسان يفطر، وله أن يأكل ويشرب إلى الفجر، بشرط ألا ينام، فإذا نام حتى لو لم يفطر، إذا نام بعد غياب الشمس، ليس له أن يأكل أو يشرب إلا بعد غياب الشمس من اليوم الثاني، هكذا كان في أول الأمر، فنسخ ذلك: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، فصار الأكل والشرب بعد أن كان حرامًا مباحًا.

وقد ينسخ من التحريم إلى الكراهة.

مسألة الزيادة على النص، هل تعد من قبيل النسخ؟ وكذا نسخ بعض العبادة، عكسها، يعني: أو شرط العبادة، هل يعد من العبادة أو لا؟

هذه مسألة لعلي أتركها، مسألة دقيقة، وتحتاج إلى شيء من التركيز، وفيها تفصيل، دعوها.

بعد ذلك أنتقل إلى مسألة مفيدة، ونحتاج إليها، وهي أن النسخ قد يلتبس مع التخصيص.

أليس التخصيص هو إخراج بعض إفراد العام بدليل، مثل قول الله :  وَالْمُطَلَّقَاتُ هذا عام كل مطلقة، يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228].

ويقول في موضع آخر: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فالحامل لا تتربص ثلاثة قروء، وإنما عتدها وضع الحمل، وهذا من قبيل التخصيص، أخرجنا أحد أفراد العام، وهو الحامل، فصار قوله: تعالى:  وَالْمُطَلَّقَاتُ يشمل كل مطلقة، جميع أنواع المطلقات إلا الحامل.

وهكذا في قوله: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4].

الصغيرة التي لم تحض بعد إذا طلقت ما الحكم؟ نقول: اجلسي ثلاثة قروء، هي ما تحيض، والآيسة المرأة الكبيرة التي انقطع حيضها، طلقها زوجها، نقول لها: اجلسي ثلاثة قروء؛ لأن الله يقول: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، فهذا عام، هي ما تحيض.

 وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]، فهذا تخصيص، إخراج لبعض العام، فصار التخصيص ملتبسًا مع النسخ؛ لأن النسخ رفع جزء العبادة.

وهذه المسألة التي عديتها قبل قليل، قلنا: الزيادة على النص هل يعد نسخًا؟ وكذلك عكسه، وهو رفع بعض العبادة، أو جزء العبادة، أو شرط العبادة، هل يعد نسخًا أو لا؟

فالآن النسخ قد يلتبس مع التخصيص، وأعني بالنسخ ليس رفع أصل العبادة، فهذا لا يلتبس معه التخصيص؛ لأن التخصيص لا يكون من مائة بالمائة، وإنما التخصيص يكون خمسة بالمائة، يخرج خمسة بالمائة، عشرة بالمائة، خمسة عشر، عشرين بالمائة، ثلاثين بالمائة، لكن ما يقول لهم: اذهبوا كلكم إلا كلكم، ما يمكن هذا، حضر الضيوف إلا زيدًا، ما يمكن تقول: حضر عشرة إلا عشرة.

فهذا النوع من النسخ، قد يلتبس مع التخصيص.

الفرق بين النسخ والتخصيص:

أولًاالنسخ رفع للحكم الشرعي بدليل شرعي، وأما التخصيص فهو ليس برفع، إنما هو بيان أن هذه الأفراد غير داخلة أصلًا.

ثانيًا: التخصيص حقيقته قصر للعام على بعض أفراده، وليس برفع، العام إذا أخرج منه بعض الأفراد، فهذه الأفراد التي أخرجناها من العام هي ليست مرادةً للمتكلم، فقول الله وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، هذا عام.

ويقول: في موضع آخر:  وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].

أخرج الآن بعض أفراد العام أليس كذلك؟ فهل حينما قال: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، هل كان يقصد إدخال الحوامل أيضًا إلى أن أتت الآية الثانية؟ أو أنها لم تدخل أصلًا؟ لم تدخل.

وهذا أوضح في الاستثناء، تقول: جاء الرجال إلا زيدًا، دخل معهم في الظاهر زيد، لكن لما قلت: إلا زيدًا أخرجته.

فما خرج بالتخصيص لم يكن مرادًا، وأما ما خرج بالنسخ فهو مراد، ثم رفع بعد ذلك.

ثالثًا: أن التخصيص لا يرد على الأمر لمأمور واحد، التخصيص يرد على شيء عام، فيخرج منه بعض الأفراد، لكن لو أنه قال: أعتق رقبة، هذا مأمور بشيء واحد، ما في عام هنا، أعتق رقبة، أكرم زيدًا، مأمور لأمر واحد، فهل هذا يمكن أن يخصص؟ تقول: أكرم زيدًا إلا زيدًا أكرم زيدًا إلا بعضه؟ الجواب: لا، لكن يمكن أن ينسخ هذا، تقول: أكرم زيدًا، ثم تقول: لا تكرم زيدًا.

فالتخصيص لا يرد في مثل هذه الصورة، أما النسخ ممكن أن يرفع هذا الحكم.

رابعًا: النسخ يبطل حجية المنسوخ، وأما التخصيص فيكون النص العام حجة في باقي الأفراد التي ما أخرجت.

فقوله: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، عام أخرجنا فيه بعض الأفراد، وهو أولات الأحمال، والبنت الصغيرة التي ما حاضت واليائسة.

وباقي أفراد العموم كل ما جاءت مطلقة جاءت من هذه الأصناف الثلاثة، نقول لها:  يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ.

فالتخصيص: هو إخراج لبعض الأفراد، أما النسخ ارتفع ولا يحتج به، إلا إذا كان رافعًا لبعض الأفراد فالباقي في النسخ الذي لم ينسخ يكون حجه ما بقي فيه.

خامسًا: على القول أن الآحاد لا ينسخ المتواتر، أو أن السنة لا تنسخ القرآن، أو القرآن لا ينسخ السنة، هذا غير وارد في التخصيص، الذين يمنعون من هذا لا يمنعون منه في التخصيص، يقولون: التخصيص بيان، وهو أسهل، أما النسخ فهو رفع، ويحتاج إلى شروط ثقيلة، فيقول: لا مانع أن السنة تخصص القرآن، والقرآن يخصص السنة، والآحاد يخصص المتواتر، ما فيه مانع عند من يمنعون في ذلك.

سادسًا: التخصيص لا يشترط فيه التراخي. الله يقول: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۝ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:4-5]. فهذا تخصيص بالاستثناء، وجاء متصلًا بالنص.

وكذلك:  وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ كل الناس، ثم قال: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، فصار على المستطيعين، فخصهم لذلك، وأخرج غير المستطيع، لكن النسخ لا بد فيه من التراخي.

سابعًا: التخصيص يدخل في الأخبار، والنسخ لا يدخل في الأخبار المحضة، فلو جاء إنسان، وأعطانا خبر من الأخبار، وقال: هلك آل فلان، ثم بعد مدة كان يتكلم عن قضية، ثم يقول: فلان نجا من الموت بأعجوبة. فماذا نقول في الجمع بينهما؟ نقول: هلكوا، وهذا يدل على أنه لم يهلك، فهو تخصيص للعام السابق، فهو لم يقصده فخرج بكلامه الآخر، وهذا كثير.

فالخبر يمكن أن يخصص، الله يقول عن الريح التي دمرت عادًا: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25].

فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، فخصص المساكن لم تدمرها الريح، فهذا تخصيص للخبر، لكن النسخ لا يرد على الخبر النسخ لا يتطرق الأخبار المحضة، والتخصيص يدخلها.

ثامنًا: أن المنسوخ قبل ورود النسخ يعمل به، فإذا جاء النسخ رفعه، أما التخصيص إذا عمل المكلفون بالعام، ثم جاء التخصيص بعد ذلك، فالواقع أنه نسخ.

فقضية العمل في باب تخصيص العموم غير وارده قبل ورود المخصص في وقت نزول التشريع، فإذا عمل به المكلفون، ثم جاء دليل يخصص، فهذه مسألة رفع جزء العبادة، أو بعض العبادة التي تركت الكلام عليها.

فهذه ثمانية فروق بين النسخ والتخصيص فلا يلتبس بعد ذلك.

عله الإكثار من دعاوى النسخ:

عندنا مجلدات اسمها الناسخ والمنسوخ مليئة، وعندنا كتب في التفسير مشحونة بدعاوى النسخ فما السبب؟ نقول: هذا له أسباب يمكن أن نجملها في ستة:

أولا: توهم أن ما شرع لسبب، ثم زال السبب أن هذا من قبيل النسخ، مثل ما قلنا لكم في آية العفو والصفح، آية العفو مع آية السيف،  وما هي بالقليل، عددها: "124 آية".

ثانيًا: الظن بأن إبطال الإسلام لما كان عليه الأمر أولًا أن هذا من قبيل النسخ، بينما هي أحكام شرعت ابتداءً فليس هذا من قبيل النسخ كما عرفتم من قبل.

ثالثًا: الاشتباه بين التخصيص والنسخ.

رابعًا: الاشتباه بين البيان والنسخ، تقيد المطلق، وبيان المجمل، وقلنا لكم أن السلف يعبرون كثيرًا عن هذه الأشياء بالنسخ.

خامسًا: توهم وجود تعارض حقيقي بين نصين، لا يمكن الجمع بينهما، والواقع أنه يمكن الجمع بينهما في كثير من الحالات.

ولهذا كان ابن خزيمة يقول: لا تأتيني بنص في كتاب أو سنة تدعي فيه التعارض إلا جمعت لك بين هذين النصين.

فأحيانا العالم يستشكل الجمع بين نصين، فيحكم أن هذه الحالة هي من قبيل النسخ، وليس الأمر كذلك.

سادسًا:وهو حمل ألفاظ السلف على غير محملها في هذا الباب.

انتهينا من موضوع النسخ.

الأحرف والقراءات:

ننتقل بعد ذلك إلى موضوع آخر وهو الأحرف والقراءات، وهذا يحتاج إلى شيء من الانتباه، وشيء من التركيز، في هذا الموضوع سنتحدث عن نقاط محددة:

أولًا: معنى الأحرف.

نقول: القرآن نزل على سبعة أحرف، ما معنى الأحرف؟

الحرف في اللغة يطلق على الحد، فما هو حرف هذا المكتب، هذه الطاولة، ما هو حرفها؟ يعني: حدها وطرفها.

حد السيف، يعني: طرفه الذي يقطع به، هذا هو حد السيف، ومنه الحد الذي هو الوجه.

تقول:  وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج:11]، يعني: على وجه واحد، يعني إن كانت الأمور في صالحه في حال السراء والخير والرغد والنعمة فهو تمام، يلهج بحمد الله قائمًا وقاعدًا، ولربما لا يحمد الله لكن أموره ما عليها إشكال، يصلي وطيب، وإذا جاءت الأمور في غير صالحه نكص على عقبيه، فهو يعبد الله   على حرف وحد، ووجه واحد، هذا على بعض المعاني التي ذكرت في هذه الآية.

أما الحرف في الاصطلاح، ففيه معان كثيرة جدًا، ما معنى نزول القرآن على سبعة أحرف؟

سرد السيوطي في الإتقان فيه أربعين قولًا[10]، وكثير من هذه الأقوال أقوال ساقطة بعيدة، وفيها أقوال قوية.

والذي أظنه أقرب هذه الأقوال: أن يقال: معنى الأحرف، أي: سبعة أوجه من وجوه التغاير، وهذا قال به أئمة كبار، وسيأتي ما المقصود بالتغاير؟

هذا قال به أئمة كبار من أشهرهم خاتمة المقرئين ابن الجزري -رحمه الله- وقال به أبو الفضل الرازي، ومكي ابن أبي طالب. وقال به جماعة كثيرة من المحققين يصعب حصرهم.

أما القراءات فجمع قراءة، والمراد بها هنا: بعض كما سيأتي الفرق بين الأحرف والقراءات، يمكن أن نعرفها فنقول: هي اختلاف ألفاظ الوحي -القرآن- في الحروف، أو كيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما.

وعرفها ابن الجزري -رحمه الله- بقوله: هي علم بكيفيات أداء كلمات القرآن، واختلافها بعزو الناقلة[11].

أو يقال: هي مذهب من مذاهب النطق في القرآن، يذهب به إمام من الأئمة القراء مذهبًا يخالف غيره. هذا معنى القراءات.

الأحرف السبعة:هي سبعة أوجه من وجوه التغاير.

العلماء -رحمهم الله- الذين قالوا بهذا القول حاولوا أن يحددوا الأحرف السبعة بالعدد والتعيين، واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة إلى سبعة.

وجاءوا بذلك عن طريق الاستقراء، جلسوا ينظرون في القراءات الموجودة، ويدققون النظر في الفروقات بينها، فكلما وجدوا فرقًا من الفروقات أخذوه، قالوا: هذا واحد، وإذا وجدوا فرقًا ثانيًا أخذوه.

وهكذا حتى جمعوا سبعة أوجه من وجوه التغاير.

حاول كثير ممن قال بهذا القول أن يستقرئ القراءات الموجودة، ويستخرجوا وجوه المغايرة بينها، ثم يعددوا بعد ذلك سبعة أوجه من وجوه التغاير، عامتهم فعل ذلك، ولم أر أحدًا تركه على سبيل الحصر والتعيين إلا أبو عمرو الداني -رحمه الله- في كتابة الأحرف السبعة، فإنه لما ذكر هذا المعنى، وهو أن معنى الأحرف هي سبعة أوجه من وجوه التغاير قال مثل: كذا وكذا وكذا وكذا.

ذكر على سبيل التمثيل، أما بقية من رأيت، فهم يذكرونها على سبيل الحصر، وهذا فيه إشكال؛ لأن هذه الأوجه التي يذكرونها يستنبطونها هم من خلال النظر إلى هذه القراءات، ونحن نعرف أن بقية الأحرف الستة استعنى الصحابة عنها، فما عندنا إلا بعض الأحرف السبعة، فالاستقراء غير تام.

الأمر الآخر: تفاوت استقراء العلماء، فتجد أن لا يكاد يتفق اثنان على تعدادها وتوصيفها، يتفقون على ثلاثة، الجميع يذكر هذه  الثلاثة تقريبًا ويختلفون في الباقي .

أو يتفقون على الأربعة ويختلفون في الباقي، ثم إذا نظرت إلى أقوالهم فإن بعض هذه الأقوال يمكن أن يمزج، يعني إذا ذكر الأول والثاني يمكن أحيانًا أن تمزج بينهما شيء واحد.

فالأحسن أن نقول ذلك على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر؛ لأن الحصر فيه شيء من التحكم، وهو استقراء غير تام، وبالتالي يصعب فيه هذا التحديد.

نقول: مثل اختلاف الأسماء، من الإفراد، التثنية، والجمع، والتذكير، والتأنيث. مثال:  وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8]، وفي القراءات الأخرى:  وَالَّذِينَ هُمْ لأمانتهموَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ فيه قراء بالجمع لِأَمَانَاتِهِمْوفي القراءة الثانية بالإفراد  لأمانتهم فهذا وجه من وجوه التغاير، أن الاسم الواحد قد يذكر في حرف مجموعًا، وقد يكون مفردًا في حرف آخر في نفس الآية، فتقرأ على وجهين.

ووجه آخر اختلاف تصريف الأفعال، ماضي، ومضارع، وأمر، مثاله: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سبأ: 19]، هذا فعل طلب "باعد" يطلبون الله أن يباعد بين أسفارهم، لبطرهم ملوا قرب الأسفار، فما درى ما يسوون بأنفسهم.

فهذا فعل طلبي. فهم جحدوا هذه النعمة، وأخبروا بضدها، بَاعَدَفعل ماضي.

وفي القراءة الأخرى رَبُّنَا بَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا، بضم "رَبُّنَا"، على سبيل الإخبار، وفي القراءة الثالثة: رَبُّنَا بَعَّدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا.

ما الفرق بين بعّد بَاعَدَ؟ بعّد فيها تشديد وزيادة المبنى لزيادة المعنى، كأنهم يقولون بينها بعد كثير.

ومن هذه الأوجه اختلاف وجوه الأعراب، كقول الله يقول:  ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15]، وفي القراءة الثانية: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ ذو مرفوعة،  ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ، المجيد تكون عائدة إلى الله، موصوف بأنه مجيد؛ لأنها جاءت مرفوعة، فالوصف تابع للموصوف، فذو مرفوع، فصارت وصفًا لله .

وأما إذا أعدناها للعرش، فجاء ذلك في قراءة أخرى ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ فالعرش مجرور؛ لأنه مضاف إليه، فصار المجيد بهذه القراءة صفة للعرش، فهذا اختلاف وجوه الإعراب.

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة:37] آدم متلقي، والكلمات متلقى، وفي القراءة الثانية المتواترة: فَتَلَقَّى آدَمَ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ، فالكلمات هي التي تلقت آدم .

وجه رابع من وجود التغاير: الاختلاف في النقص والزيادة، وكله في كلام الله الذي تكلم به، وأنزله عن نبيه ﷺ يعني: ما أحد نقصها وزادها من البشر، كله في المنزل، فهذا وجه وهذا وجه.

مثاله: الله  يقول في أحد المواضع: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البقرة:25]، وفي الأخرى: تَجْرِي مِنْ تحتها الْأَنْهَارُ ، في نفس الآية.

وقوله:  وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [الليل:3]، وفي قراءات غير متواترة: "والذكر والأنثى"[12]، فهذا فيه زيادة ونقص في هذا الوجه.

ووجه آخر: الاختلاف في التقديم والتأخير، ففي المتواتر: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق:19]، وفي غير المتواتر في القراءات: "وجاءت سكرة الحق بالموت"[13].

ومن الوجوه الاختلاف في الإبدال: تُبدل كلمة مكان كلمة، كقوله تعالى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا [لبقرة:259]، هذا في المتواتر، وفي غير المتواتر: "كيف ننشرها"[14]بالراء.

وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الواقعة:29] في المتواتر، في غير المتواتر: "وطلع منضود"[15].

ومن وجوه التغاير: اختلاف اللهجات واللغات، بالفتح والإمالة، والترقيق، والتضخيم، والإظهار، والإدغام، كقوله: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىطه:9، وبالإمالة:  وَهَلْأتيكحَدِيثُ مُوسَى قراءات متواترة.

سواء في الاسم أو في الفعل أو في الحرف:  بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُالقيامة:4 بَلى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ بالإمالة فهذه متواترة، فهذا في وجه الأداء، وهذه الإمالة موقوفه بقراءة حمزة .

رواة حديث الأحرف السبعة:

النبي ﷺ صحّ عنه أحاديث في أن القرآن أُنزل على سبعة أحرف، ولو جلسنا نسرد هذه الأحاديث لحتاجت إلى مجلس مستقل، لكن لا حاجة إليها لشهرتها.

وهذه الأحاديث رواها عن النبي ﷺ نحو من عشرين صحابيًا منهم: عمر، وعثمان، وعلي، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وأبو هريرة، ومعاذ، وهشام بن حكيم، وابن عباس، وعمرو بن العاص، وحذيفة، وعبادة، وسليمان بن صُرد، وأبو بكرة، وأبو طلحة الأنصاري، وأنس بواسطة أُبي، وسمرة بن جندب، وأبو جهيم الأنصاري، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي أيوب[16].

الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف:

أولا: التيسير على الأمة.

وقد قال النبي ﷺ: أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده فيزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف[17]، فهذا تخفيف.

وتصور الناس في ذلك الوقت بمختلف لهجاتهم، وقد شاب الواحد منهم على لهجة معينة، لا يستطيع أن ينطق بغيرها.

الآن لو جئت إلى بعض العجائز التي اعتادت على لجهة معينة، وأردت أن تُصلح لسانها بنطق الكلمات على الوجه الفصيح، لم تستطع، وتردد عليها، كأنما تلقن صبيًا، وهي تعيد مرة ثانية، وعاشرة باللفظة التي قالتها أول مرّة، هذا مشاهد.

فتصور أول ما نزل القرآن، كيف كانت لهجات العرب الفصيحة؟ فكيف يستطيع الجميع أن ينطقوا به نطقًا واحدًا؟ وبالتالي فإن الأحرف الستة الباقية ما نزلت إلا في المدينة، لكثرة الداخلين في الإسلام، بينما في مكة كان النبي ﷺ بين قريش، وهم أفصح العرب، فنزل القرآن بحرف قريش.

ثانيًا: هذا من خصائص هذه الأمة، ولله الحمد كل الكتب كانت تنزل على حرف واحد، وهذا القرآن على سبعة أحرف.

ثالثًا: تنوع المعاني. أن تُكثر عندما المعاني في وجوه مختلفة مثلًا: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتل مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146] هذه متواترة وقف، قتل مصدر ربيون كثير فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146] قُتل نبيهم معه ربيون كثير، اتباع كثير، جماعات كثير، فما صنعوا لتقل قيادتهم؟ ما ضعفوا لقتل نبيهم، ما فتّ ذلك في أعضادهم، استمروا على نفس الطريق، وماتوا عليه.

وتحمل معنى آخر على الوصل  وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتل مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني: من قتل أخواتهم، فمن الذي قتل ؟ جماعات كثيرة من اتباع هذا النبي قتلوا، فالأحياء بقوا صامدين، ثابتين، لم يفت ذلك في أعضادهم.

وعلى القراءة الأخرى المتواترة:  وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، من الجراح والقتل والهزيمة، وما إلى ذلك، لاحظت كيف تغيرت المعاني.

وقوله: رَبُّنَا بَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا،  رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سبأ:19]، على سبيل الدعاء، رَبَّنَا بَعّد بَيْنَ أَسْفَارِنَا، المعاني اختلفت.

وقوله تعالى: فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا يعني: أهل الإيمان، هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ خير مما يجمعه أهل الإشراك من الأموال.

افرحوا بما أنعم الله عليكم بالإيمان بفضل الله وبرحمته بعث النبي ﷺ وأنزل القرآن، وأن هداكم لهذا الدين.

اسمعوا القراءة الثانية: فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا تجْمَعُونَ يعني: يمكن أن يكون خطابًا لأهل الإيمان، فليفرحوا أهل الإيمان خير مما تجمعون يا أهل الإيمان من الدنيا، ويمكن أن يكون الخطاب لأهل الإشراك فبذلك فليفرح أهل الإيمان هو خير مما تجمعون أيها الكفار.

القراءة الثالثة:  فَبِذَلِكَ فَلْتفْرَحُوا يا أهل الإيمان  هُوَ خَيْرٌ مِمَّا تجْمَعُونَ من الدنيا، لاحظت المعاني كيف كثرت في هذه القراءات ؟

خذ مثالًا آخر في تكثير المعاني في قوله الله عن نوح  لما دعا ربه أن ينجي ابنه الذي غرق، قال الله له: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] ما هو العمل الغير صالح؟

كثير من المفسرين يقولون: هذا السؤال يا نوح، والدعاء بنجاة ابنك عمل غير صالح، كيف تطلب نجاة كافر إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ.

القراءة الثانية: إِنَّهُ عَمِل غَيْرُ صَالِحٍ، أشرك، كيف تسألني نجاته، وقد عَمِل غير صالح لا يستحق النجاة.

ومن أمثلة تكثير المعاني:  وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، والقراءة الثانية المتواترة: حَتَّى يَطَهَّرن يعني: يتطهرن، فهذا فيه زيادة، وزيادة المبني لزيادة المعنى فـ  حَتَّى يَطْهُرْنَ بانقطاع الدم، وهل يكفي هذا حتى  يأتيها زوجها، الجواب: لا، لا بد من شيء آخر، وهو الاغتسال من الحيض حَتَّى يَطَهَّرن، فصار هذا دليل على وجوب الاغتسال من الحيض حتى يكون ذلك مباحًا لزوجها.

ومن الأمثلة قوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة:6] منصوبة، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ، مجرورة بحرف الباء، الرأس يمسح،  وَأَرْجُلِكُمْ معطوفة على الرأس.

فالرجل تمسح أم تغسل؟ الرجل تغسل، فعلى قراءة الجر هذه يمكن أن يكون فيه إشارة إلى المسح على الخفين؛ لأن الرجل لها حالتان: إما الغسل، وإما المسح، المسح في حال الجوربين والخفين، والغسل إذا كانت متجردة عنها.

فقراءة:وَأَرْجُلِكُمْ بالكسر، يمكن أن يستدل منها وتستنبط منها المسلح على الجوربين والخفين، أما قراءة: وَأَرْجُلَكُمْ فهي معطوفة على المنصوبات التي قبل:فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ يعني: وأرجلَكم، فجاء بالممسوح الذي هو الرأس بينها، مما يدل على اشتراط الترتيب، وإلا كان أخّر، كان ذكر المغسولات مسردًا، ثم ذكر الممسوح بعدها.

رابعًا: حفظ لغة العرب من الاندثار.

ولهذا نجد بعض المواضع في القرآن تأتي الكلمة مرفوعة، وفي بعضها منصوبة، في بعض الأوجه في القراءات هذه على لغة تميم، وهذه على لغة الحجاز، وهكذا.

خامسًا: بيان الأحكام.

بيان حكم معين، كقول الله وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:12]، الرجل يورث كلاله، يعني: من تكلله النسب، أو أحاط به، ولا فرع وارث، فمن يرثه؟ لا أصول، ولا فروع، يرثه الحواشي.

فهنا الله يقول: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ أي أني وأخت حتى لو كان شقيق؟ لا، بالاتفاق، وأن الأخ أو الأخت لا بد أن يكون لأم في مسألة الكلالة.

هذا الذي يرث السدس، ولهذا جاء في قراءة غير متواترة: (وله أخ أو أُخْتٌمن أم)، في قراءة سعد بن أبي وقاص .

مثال آخر: في كفارة اليمين، فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة:89] كافرة أو مؤمنة، مطلق، في قراءة ليست متواترة: أو تحرير رقبة مؤمنة[18]صيام ثلاثة أيام من لم يستطع العتق أو الإطعام أو الكسوة.

ومثل: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ [البقرة:196] في قراءة غير متواترة، لكنها صحيحة الإسناد: ثلاثة أيام متتابعات"[19]، فيجب التتابع بالصوم في كفارة اليمين.

وأحيانًا يحصل الجمع بين حكمين مختلفين بمجموع  القراءتين مثل:  فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، وفي قراءة: حَتَّى يَطَهَّرن فصار لا بد من الأمرين انقطاع الدم والاغتسال.

ومن ذلك الدلالة على حكمين شرعيين في حالين مختلفتين مثل: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، وأرجلِكم في حال لبس الجوربين، وفي حال الغسل القراءة دلت.

سادسًا: دفع ما قد يتوهم أنه ليس بمراد.

الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، اسعوا، السعي دون العدو، يعني: سير سريع السعي وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [لقصص:20]، يعني: يمشي بسرعة، مع أن النبي ﷺ نهى أن نسعى للصلاة: لا تأتوها وأنتم تسعون[20] وأمرنا بأن تأتيها بحال من السكينة والوقار.

فهل المراد بالسعي المشي بسرعة لصلاة الجمعة؟ الجواب: لا، يوضحه القراءة الأخرى الغير متواترة: "فامضوا إلى ذكر الله"[21]، فالمراد بالسعي: العمل على حضورها، وترك التشاغل عنها بالبيع وسائر القصود.

سابعًا: يتبين بذلك لفظ مبهم.

الله يقول: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة:5]، ما معنى العهن؟ في قراءة غير متواترة: "وتكون الجبال كالصوف المنفوش"[22]، فالعهن فسرته القراءة الأخرى وهي الصوف.

ثامنًا: بيان أصل من الأصول أو عقيدة من العقائد، لربما خالف فيها بعض المنحرفين.

الله يقول: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [الإنسان:20]، يعني: في الجنة ، وفي القراءة الأخرى: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا ومَلِكًا كَبِيرًا، وهذا فيه دليل على إثبات رؤية الله لأهل الجنة، وفيه رد على من أنكر ذلك.

تاسعًا: القرآن معجز، فكل هذه الوجوه منزلة، فهي معجزة، فتعددت وجوه الإعجاز، فكان ذلك من تعدد المعجزات.

هذا توضيح لموضوع الأحرف السبعة.

  1. فتح الباري لابن حجر (1/ 96).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب: حد الزنى (3/ 1316)، رقم: (1690).
  3. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب الرجم، نسخ الجلد عن الثيب (6/ 408)، رقم: (7112)، وأحمد (35/ 134)، رقم: (21207)، وابن حبان (10/ 274)، رقم: (4429)، والحاكم في المستدرك (4/ 400)، رقم: (8068). 
  4. أخرجه مسلم، كتاب الرضاع، باب: التحريم بخمس رضعات (2/ 1075)، رقم: (1452).
  5. أخرجه أبو داود، كتاب الصيد، باب: ما جاء في الوصية للوارث (3/ 114)، رقم: (2870)، والترمذي، أبواب الوصايا عن رسول الله ﷺ، باب: ما جاء لا وصية لوارث (4/ 434)، رقم: (2121)، والنسائي،  كتاب الوصايا، باب: إبطال الوصية للوارث (6/ 247)، رقم: (3641).
  6. المجموع شرح المهذب (15/ 398).
  7. مجموع الفتاوى (17/ 198)، مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (2/ 33).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب: قبول الهدية (3/ 155)، رقم: (2575).
  9. أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب: ما كان النبي ﷺ لا يأكل حتى يسمى له، فيعلم ما هو (7/ 71)، رقم: (5391)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب: إباحة الضب (3/ 1543)، رقم: (1946).
  10. الإتقان في علوم القرآن (1/ 164-177).
  11. منجد المقرئين ومرشد الطالبين، لابن الجزري (ص:9).
  12. تفسير البغوي (8/ 442).
  13. تفسير الطبري (22/ 346).
  14. تفسير الطبري (5/ 477).
  15. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (8/ 13).
  16. انظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 163).
  17. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف (6/ 184)، رقم: (4991)، ومسلم، باب: بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1/ 561)، رقم: (819).
  18. تفسير الثعالبي = الجواهر الحسان في تفسير القرآن (1/ 105).
  19. تفسير الطبري (10/ 559).
  20. أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، والنهي عن إتيانها سعيا (1/ 421)، رقم: (602).
  21. تفسير البغوي (8/ 117).
  22. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (5/ 517).

مواد ذات صلة