بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك: فِيهِنَّ أي: في الفرش قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ [سورة الرحمن:56] أي غضيضات عن غير أزواجهن، فلا يرين شيئاً أحسن في الجنة من أزواجهن، قاله ابن عباس، وقتادة، وعطاء الخرساني، وابن زيد.
وقد ورد أن الواحدة منهن تقول لبعلها: والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، ولا في الجنة شيئاً أحب إليّ منك، فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ كما قال الله -تبارك وتعالى- في الموضع الآخر: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [سورة الصافات:48] جمع عيناء، وهي واسعة العين، أي جميلات العيون، وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [سورة ص:52]، يعني في سن متقاربة، أو في سن متحدة، فهذه كلها من أوصاف هؤلاء النساء في الجنة، فهن في غاية الجمال في بياض مشوب بحمرة، في غاية الصفاء مع سعة العيون وتقارب في السن.
والإنسان إذا كان له نساء في الدنيا فهذه عمرها ستون سنة، وهذه عمرها أربعون، وهذه عمرها ثلاثون، وأما في الجنة ففي سن الشباب في سن واحد، لا يهرمن، ولا يذهب حسنهن وجمالهن.
وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا: قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ قال: أي غضيضات عن غير أزواجهن فلا يرين شيئا في الجنة أحسن من أزواجهن، قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ باعتبار أن الطرف هنا يراد به طرفهن يعني النظر.
وتحتمل الآية معنى آخر قال به بعض السلف: أي قاصرات طرف أزواجهن عليهن لشدة جمالهن فهي في غاية الجمال لا ينظر زوجها إلى أحد سواها، ولا يتطلع إلى نساء أخريات؛ لأن عنده غاية الجمال والحسن فهي تقصر طرف زوجها قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ.
ولا شك أن المعنى الأول هو المتبادر، وهو الذي تمدح به المرأة عادة يقال: فلانة قاصرة للطرف، فهي عفيفة بغاية العفة لا تنظر إلى الرجال، ولا تتطلع إليهم بخلاف كثير من نساء الدنيا، فإنها يعجبها هيئة هذا وصورته، ويعجبها منطق هذا ويعجبها شجاعة هذا، ويعجبها أمور كثيرة مما قد تستهويها، وإذا كانت في غاية الجمال فإن هذا قد يفهم منه أنه لا ينظر إلى غيرها، تقصر طرف زوجها.
ولهذا من أهل العلم من حمله على المعنيين، قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لا تنظر إلى أحد لا تتطلع إلى أحد، وزوجها لا ينظر إلى غيرها لشدة حسنها وجمالها، أي ولشدة الحسن والجمال فهن قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ، ذكر الفرش فقال: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [سورة الرحمن:54]، ثم قال بعده: فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، ثم قال: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ.
والمراد بقاصرات الطرف هنا يحتمل أن يكون المراد به الحور العين وليس نساء الدنيا اللاتي في الجنة، والقرينة الدالة على هذا هي أنه قال: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ وهذا يستغرق جميع الأزمنة، ما سبق أن طُمثت، وهذا وصف الحور العين، أما نساء الدنيا فبخلاف ذلك فهي في الأصل زوجته في الدنيا التي قد طمثها، وهذه لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ.
ومن أهل العلم من قال المراد به: نساء الدنيا ينشئهن الله نشأة أخرى والله يقول: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا [سورة الواقعة:35-37] عُرُباً متحببات، يعني متحببة إلى زوجها، فالتي عندها حسن التبعل إذا تكلمت معه أو دعاها أجابته وتكلمت معه بأعذب عبارة، وألطفها وأحسنها، أَتْرَابًا يعني في سن متقاربة في غاية الشباب، فهذا يحتمل.
ومن أهل العلم من يقول: هؤلاء من نساء الدنيا ما مسهن أحد قبل ذلك، ليست زوجته، وإنما أخريات أيضا يتزوج بهن، لم يمسهن أحد قبل ذلك، وهذا القول يعني أنهن مُتن أبكاراً، وهذا يمكن أن يجاب به على السؤال الذي يسأل عنه كثير من النساء، فالنساء دائماً إذا سمعن عن الحور العين غرن منهن، ويقلن: أنتم لكم الحور العين ونحن ما لنا؟
نقول: أما المتزوجة فإنها لا ترى شيئا أحسن من زوجها قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ، ترى أنه في غاية الحسن والجمال، ولا تطلب غيره، وعلى هذا القول يكون المراد النساء اللاتي لم يتزوجن في الدنيا، وهذا يُسأل عنه كثيراً يقال: التي ماتت ولم تتزوج؟ الرجال يتزوجون بالحور العين، والتي ماتت ولم تتزوج؟
من أهل العلم من يقول: اللاتي مُتن وما تزوجن هن اللاتي على هذه الفرش؛ لأنه قال: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ماتت وهي بكر -والله تعالى أعلم، لكن الآية تحتمل هذه المعاني فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ.
ولعل أبعد هذه المعاني أو أضعفها هو المعنى الأخير مع أن الآية تحتمله، والله أخبر أن الجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فيها كل ما يتلذذ به الإنسان وهذا عام، ولذلك يقال للنساء اللاتي لم يتزوجن: لن ينقص من نعيمهن شيء إطلاقاً، لكن الله لم يذكر لنا تفصيلاً في هذا.
والسبب في ذلك -والله تعالى أعلم- أن العادة جرت بذكر النساء من جملة النعيم وهو من الأشياء المحببة للنفوس، فالله -تبارك وتعالى- مثلا يقول: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء [سورة آل عمران:14]، أول ما بدأ بالنساء، ولهذا فإن العرب يقولون: إن الأطيبيْن هما النكاح والأكل زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء ثم ذكر البنين والقناطير إلى آخره، لمّا تقرأ النساء هذه الآية زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء، يقلن: ونحن زين لنا حب الشهوات من الرجال؟! فيقال: ما جرت العادة بهذا فالمرأة هي محل متعة الرجل؛ فلذلك إذا ذكر النعيم ذكر النساء وهذا تجده في القرآن في مواضع، فالقرآن جرى على هذه الطريقة المعهودة فيما يتعارفه الناس ويتحدثون به فيما بينهم، وتنجذب إليه أنفسهم وليس معنى ذلك أن المرأة لا يكون لها مثل هذا النعيم، والله تعالى أعلم.
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ قال: بل هن أبكار عرب أتراب لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن لَمْ يَطْمِثْهُنَّ، يعني لم يطأهن، وتفسير من فسره بأنه لم يذللهن لا يخرج عن هذا؛ لأن الموطوءة التي وطئت قد ذللت بالوطء بخلاف من لم توطأ، البكر، ومن أهل العلم من فسره بما هو أخص من الوطء، وطء مع تدمية لَمْ يَطْمِثْهُنَّ أي وطء مع تدمية، يعني افتضاض الأبكار، وهو المعنى الذي فسر به قوله -تبارك وتعالى: فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [سورة يــس:55، 56]، قالوا: فِي شُغُلٍ يعني افتضاض الأبكار؛ لأنه ذكر الأرائك بعده، فمنهم من فسره بهذا المعنى الخاص أنه ليس مجرد الوطء هو الطمث وإنما وطء مع تدمية، وهو الذي قال به كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وجمع من أهل اللغة.
قال أرطاة بن المنذر: سئل ضَمْرَةُ بن حبيب: هل يدخل الجن الجنة؟ قال: نعم، وينكحون، للجن جنيات، وللإنس إنسيات، وذلك قوله: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.
ثم قال ينعتهن للخُطاب: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ، قال مجاهد، والحسن، والسدي، وابن زيد، وغيرهم: في صفاء الياقوت وبياض المرجان، فجعلوا المرجان هاهنا اللؤلؤ.
إذا قيل بأن اللؤلؤ هو الدُّر الكبير، والمرجان هو الصغير، فيكون شبههن من جهة البياض بـ "اللؤلؤ"، ومن جهة صفاء اللون بـ "المرجان"، اللؤلؤ الصغير؛ لأن اللؤلؤ الكبير يكون كثيفاً فلو أنه وضع فيه السلك قد لا يظهر السلك، وأما المرجان فهو اللؤلؤ الصغير فهو في غاية الصفاء شفاف فلو وضع فيه السلك ظهر، فشبههن في البياض بـ"اللؤلؤ" وفي صفاء اللون بـ "المرجان" وقد جاء في الحديث أنه يرى مخ ساقها من وراء الجلد أو الثياب، لشدة الصفاء يرى مخ الساق، ومن فسر المرجان بالأحمر قال: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ اللؤلؤ يدل على الصفاء والبياض، والمرجان يدل على الحمرة، بياض مع صفاء مشوب بحمرة، وهذا أجمل ما يكون في ألوان النساء.
يعني يقول ابن سيرين: إن أهل المجلس يعني أبا هريرة ، ومن معه إما أنهم قالوا ذلك على سبيل البحث والمذاكرة، أو قالوه على سبيل المفاخرة: من الأكثر الرجال أو النساء في الجنة؟
قوله: وما في الجنة أعزب بمعنى أنه على هذا الاعتبار: النساء يكنّ على الضعف من الرجال، لكن هذا لا يعني أن هؤلاء النساء -لكل رجل من النساء اثنتان- من نساء الدنيا، فقد يكون المقصود من الحور العين، أو على قول من قال بغير هذا، فعلى كل حال هذا يحتمل، والآية لا يُقطع بتفسيرها بأحد هذين المعنيين، يمكن أن يكون المقصود من الحور العين، ويمكن أن يكون من نساء الدنيا.
والنبي ﷺ قال: يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار![2]، ثم في مجاري العادات أن النساء يوازنّ الرجال يعني في العدد، وفي آخر الزمان النساء أكثر من الرجال، وأخبر النبي ﷺ بقوله: وما في الجنة أعزب بمعنى أن هذا ليس فقط لبعضهم، بل لكل واحد زوجتان، ويمكن أن يؤخذ من الجملة وما في الجنة أعزب يمكن أن يفهم منها: ولا في النساء، فالكل متزوج، والنساء اللاتي لم يتزوجن، يمكن أن يُجبَن بهذا الحديث: وما في الجنة أعزب، أقول هذا؛ لأن السائلات عنه كثير، حتى إن بعض النساء تدعو لزوجها تقول: الله يدخلك الجنة لكن بدون حور!! إلى هذا الحد، هذا موجود، لا يكفي الغيرة من نساء الدنيا بل حتى من نساء الجنة!!.
روى الإمام أحمد عن أنس ، أن رسول الله ﷺ قال: لَغَدْوَةٌ في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، وَلَقَابُ قوس أحدكم أو موضع قيده -يعني: سوطه- من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا، ولطاب ما بينهما، ولنَصِيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها[3]، ورواه البخاري بنحوه.
وقوله: هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ أي: ما لمن أحسن في الدنيا العمل إلا الإحسان إليه في الدار الآخرة. كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [سورة يونس:26].
ولما كان في الذي ذُكِرَ نعم عظيمة لا يقاومها عمل، بل مجرد تفضل وامتنان، قال بعد ذلك كله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.
قوله هنا: هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فالذين أحسنوا جازاهم الله بالحسنى، وقد ذكر بعضهم أن هذه الآية مع آيتين أخريين -مجموع ثلاث آيات- وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا [سورة الإسراء:8]، هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة:152] يقول: فيها نحو مائة قول، في كل واحدة مائة قول، والحمد لله الآية واضحة هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ.
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ [سورة الرحمن:62-78].
هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن، قال الله تعالى: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ.
قال: وَمِنْ دُونِهِمَا لفظة دون تشعر بأن هاتين الجنتين أقل في المرتبة من اللتين قبلهما، وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ كما في الحديث الذي ذكره: جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة[4]، والفضة دون الذهب، فعلى هذا تكون المراتب أن الجنتين الأولييْن للسابقين، وهاتين الجنتين لمن دونهم.
ومعلوم أن أهل الجنة كما قال الله : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [سورة فاطر:32]، فهم على المراتب الثلاث، قيل: بدأ بالظالم؛ لأن أكثر أهل الجنة من الظالمين لأنفسهم أصحاب الذنوب، وقيل: بدأ به؛ لئلا يقنط، وهذا الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن قوله: وَمِنْ دُونِهِمَا يعني في المرتبة بمعنى أنها أقل.
ومن أهل العلم من فهم عكس هذا، قال: وَمِنْ دُونِهِمَا أي: في القرب إلى العرش؛ ولهذا قال بعض السلف: إن الجنتين الأولييْن جنة عدن وجنة النعيم، وأما الأخرييْن التي قال فيها هنا: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فهما الفردوس والمأوى هناك عند سدرة المنتهى قال: عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [سورة النجم:5].
فعلى كل حال هذا بناء على ماذا من قال: إن هذا المقصود به الفردوس؟ بناء على أن وَمِنْ دُونِهِمَا يعني في القرب من العرش أقرب إلى العرش، لكن المعنى الأول هو المتبادر -والله تعالى أعلم.
والآن هي أربع جنات: جنتان وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [سورة الرحمن:46] كما قال النبي ﷺ: جنتان من ذهب، وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ أيضاً، ويبقى النظر هل المقصود بذلك أن الجنان أربع يشترك فيها الناس ويدخلونها؟ كل له قصوره، وله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
يعني هل المقصود بيان الجنان التي يدخلها أهل الإيمان في الآخرة أنها أربع جنان؟ جنتان من ذهب وجنتان من فضة؟ أو أن المقصود أن أهل الجنة بحسب مرتبتهم يكون لكل واحد جنتان، بستانان، الجنة تطلق على البستان فقد يراد بها جنس الجنة، يقال: الجنة هي مأوى المتقين أو المقصود لكل واحد، يعطى كما ذكرنا قول من قال مثلاً بأن واحدة هي مقعده الذي أعد له، والأخرى ما ورثه من محل الكافر، فله بستانان أو أن إحداهما بعمله الطاعات، والأخرى بتركه للمعاصي مثلاً كما يقول بعض السلف، -والله تعالى أعلم- لكن الآية تحتمل هذا.
وقد يفهم من ظاهرها أو قد يشعر أن لكل واحد جنتين، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، فالكلام على الخائف يكون له جنتان، وهذا الذي ذهب إليه الحافظ ابن القيم -رحمه الله، والآية تحتمل، فالله أعلم.
وقد تقدم في الحديث: جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، فالأوليان للمقربين، والأخريان لأصحاب اليمين.
وقال أبو موسى: جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من فضة لأصحاب اليمين.
والدليل على شرف الأولييْن على الأخرييْن وجوه: أحدها: أنه نعت الأولييْن قبل هاتين، والتقديم يدل على الاعتناء ثم قال: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ.
هنا ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عدة أوجه لتفضيل الجنتين الأوليين على الجنتين الأخرييْن، وحديث أبي موسى هذا واضح في هذا المعنى، وفي لفظ في الصحيحين: (جنات الفردوس أربع جنات جنتان من ذهب......[5] إلى آخر ما ذكر، هذا في جنات الفردوس، ابن كثير -رحمه الله- في هذا الكلام الآن يذكر وجوه ترجيح الجنتين الأوليين على الجنتين الأخريين، وابن القيم -رحمه الله- ذكر عشرة وجوه استنبطها من المقارنة بين هذه الأوصاف، وكثير مما ذكره ابن القيم -رحمه الله- مشابه لكلام ابن كثير، يعني وجوه الترجيح عند ابن كثير -رحمه الله: الوجه الأول أنه قدم وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ والتقديم يدل على الاعتناء ثم قال: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ.
هذه وجوه المقارنة قال: أحدها أنه نعتَ، والثاني ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، وهكذا الثالث والرابع والخامس والسادس لم يعددها بهذه الطريقة، ذكر الأول فقط، وسيذكر الآن وجوه المقارنة.
وقال هناك: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ: وهي الأغصان أو الفنون في الملاذّ، وقال هاهنا: مُدْهَامَّتَان أي: سوداوان من شدة الري.
قال ابن عباس في قوله: مُدْهَامَّتَان قد اسودتا من الخضرة، من شدة الري من الماء.
وقال محمد بن كعب: مُدْهَامَّتَان: ممتلئتان من الخضرة، وقال قتادة: خضراوان من الري ناعمتان. ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشبكة بعضها في بعض.
يعني يقول من الناحية الجمالية: إن الشجر الذي تظهر أغصانه يكون أجمل وأبهى خاصة من فسر الأغصان بأنها الأغصان المستقيمة الممتدة، وأن الأفنان جمع فنن، وهو الغصن يقول: قد اسودتا من الخضرة، يقال للعراق مثلاً: سواد العراق؛ لشدة الخضرة وكثرة النخيل فيه، وهذا شيء مشاهد إذا ذهبت إلى البلاد التي تكثر فيها الخضرة جداً في الطائرة تراها سوداء، إذا كنت على ارتفاع يمكّنك من الرؤية تظن أنها حرة سوداء الآن لو ذهبت إلى جزر أندونيسيا مثلا تراها من أعلى سوداء تظنها حرة سوداء من شدة الخضرة، الحين الذي لا يعرفها يظن أنها بلاد سوداء، حرة سوداء مثل التي حول المدينة، من شدة خضرتها تبدو سوداء.
النضخ هو فوران الماء من العين، تنضخ تفور من العين وهو أكثر من النضح، النضخ أكثر من النضح، وهناك قال: فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ عيون سارحة فقد تنضخ العين ولكنها لا تكون بهذه المثابة عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ.
وقال الضحاك: نَضَّاخَتَان أي ممتلئتان لا تنقطعان.
وقال هناك: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ، وقال هاهنا: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ.
هنا قال: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ، وهناك: مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ [سورة الرحمن:52] يقصد أنه من كل فاكهة، فيها من كل، كلمة "كل" هي أقوى صيغة من صيغ العموم، بينما هنا فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ما فيها عموم في الثانية، فِيهِمَا فَاكِهَةٌ فلا شك أنها فاكهة كثيرة كما جاء وصفها في موضع آخر، لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ [سورة الواقعة:33، 34].
يعني وإلا فهُم من جمله الفاكهة، هذا هو المعروف عند العرب، والمشهور، والذي قال به عامة أهل العلم من الفقهاء وغيرهم إلا الحنفية كما هو معروف فإنهم لا يعدون هذا من الفاكهة، فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، والشيء الخاص يعطف على العام أو يذكر بعض أفراد العام.
هنا لا يوجد صيغة عموم، لكن المقصود أن الفاكهة تشمل هذا وهذا، العموم أقصد الذي أخذ من المطلق؛ لأن المطلق كما هو معروف فيه شمول، لكن شموله بدلي، وأما العام فإن شموله استغراقي؛ فلذلك تجد أن مباحث المطلق مشابهة تماماً لمباحث العام، ويذكرونه بعده مباشرة، ويختصرون الكلام فيه اختصاراً ويطيلون في العام هذا في أصول الفقه.
فهنا فِيهِمَا فَاكِهَةٌ فـ "الفاكهة" مطلق، وهذا الإطلاق يشمل النخل والرمان، يعني هذا الرمان يعتبر فاكهة، والنخل يعتبر فاكهة، والعنب يعتبر فاكهة وهكذا، فذكر النخل والرمان مع أنه داخل في جملة الفاكهة؛ لشرفه مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [سورة البقرة:98]، وهو من جملة الملائكة، مع أن هناك لفظة الملائكة فيها عموم؛ لأنه جمع مضاف إلى معرفة فهذا للعموم، لكن ذكر جبريل، وحَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ [سورة البقرة:238]، "ال" هذه للعموم، والصَّلاَةِ الْوُسْطَى لأهميتها، فيعطف الخاص على العام؛ لمعنى، فهنا من أهل العلم من يقول: ذكر النخل؛ لأنه غذاء، والرمان؛ لأنه دواء، هكذا قال بعضهم، ومعروف أن الرمان دباغ للمعدة.
- رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر وصفاتهم وأزواجهم، برقم (2834)، والبخاري، بدون "وما في الجنة أعزب"، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3081).
- رواه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، برقم (298)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، برقم (79).
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (12436)، وقال محققوه: حديث صحيح، وهذا إسناد حسن، والبخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحور العين، وصفتهن يحار فيها الطرف، شديدة سواد العين شديدة بياض العين، برقم (2643)، واللفظ لأحمد.
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الرحمن، برقم (4597)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم ، برقم (180).
- رواه الدارمي في سننه، برقم (2822)، وقال حسين سليم أسد: إسناده ضعيف لضعف أبي قدامة الحارث بن عبيد، وابن أبي شيبة في مصنفه، برقم (34109).