السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(08- ا) قوله ولا يجوز أن يقرأ بحرف إلا بثلاثة شروط
تاريخ النشر: ١٧ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 1688
مرات الإستماع: 1494

"وإنما سُميت: شاذّة؛ لعدم استفاضتها في النَّقل، وقد تكون فصيحة اللَّفظ، وقوية المعنى.

ولا يجوز أن يقرأ بحرفٍ إلَّا بثلاثة شروط:

  • مُوافقته لمصحف عثمان بن عفان .
  • ومُوافقته لكلام العرب، ولو على بعض الوجوه، أو في بعض اللُّغات.
  • ونقله نقلًا متواترًا، أو مُستفيضًا.

واعلم أنَّ اختلاف القُرّاء على نوعين: أصول، وفرش الحروف.

فأمَّا الفرش: فهو ما لا يرجع إلى أصلٍ مُطَّرد، ولا قانون كليّ، وهو على وجهين: اختلاف على القراءة باختلاف المعنى، وباتفاق المعنى.

وأمَّا الأصول: فالاختلاف فيها لا يُغير المعنى، وهي ترجع إلى ثمان قواعد:

الأولى: المد: وهو في حروف المدّ الثلاث، ويُزاد فيها على المدّ الطَّبيعي بسبب الهمزة، أو التقاء السَّاكنين.

الثانية: الهمز: وأصله التَّحقيق، ثم قد يُخفف على سبعة أوجه: إبداله واوًا، أو ياءً، أو ألفًا، وتسهيله بين الهمزة والواو، وبين الهمزة والياء، وبين الهمزة والألف، وإسقاطه.

الثالثة: الإدغام والإظهار: والأصل الإظهار، ثم يحدث الإدغامُ في المثلين، أو المتقاربين. وفي كلمةٍ، أو في كلمتين. وهو نوعان: إدغام كبير انفرد به أبو عمرو، وهو إدغام المتحرّك. وإدغام صغير لجميع القُرّاء، وهو إدغام السَّاكن.

والرابعة: الإمالة: وهي أن تنحو بالفتحة نحو الكسرة، وبالألف نحو الياء، والأصل الفتح، ويُوجب الإمالة الكسر والياء.

الخامسة: الترقيق والتَّفخيم: والحروف على ثلاثة أقسام:

  • مُفخّم في كل حالٍ: وهي حروف الاستعلاء السبعة.
  • ومُفخّم تارةً، ومُرقّق أخرى: وهي الراء، واللام، والألف.
  • فأمَّا الراء فأصلها التَّفخيم، وتُرقق للكسر والياء.
  • وأمَّا اللَّام فأصلها التَّرقيق، وتُفخّم لحروف الإطباق.
  • وأمَّا الألف فهي تابعة في التَّفخيم والترقيق لما قبلها.
  • والمرقق على كل حالٍ سائر الحروف.

السادسة: الوقف: وهو على ثلاثة أنواع:

  • سكون جائز في الحركات الثلاث.
  • وروم في المضموم والمكسور.
  • وإشمام في المضموم خاصّة.

السابعة: مُراعاة الخطّ في الوقف.

الثامنة: إثبات الياءات، وحذفها، وتسكينها، وفتحها".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فمرحبًا بكم جميعًا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُعيننا وإياكم على ذُكره، وشُكره، وحُسن عبادته.

يقول: "ولا يجوز أن يقرأ بحرفٍ إلا بثلاثة شروط"، وذكر مُوافقة المصحف، والتواتر، أو الاستفاضة، ومُوافقة كلام العرب، ولو على بعض الوجوه.

هذه هي الثلاثة التي يُسمّونها: الأركان تارةً، ويُسمّونها: بالشروط تارةً أخرى.

والفرق بين الركن والشرط: أنَّ الركن جزء الذات، بخلاف الشرط؛ فإنَّه يكون خارجًا عنها، مما يتوقف عليه الصحة، أو الكمال إذا كان من قبيل شرط الكمال.

وعلى كل حالٍ، الشيء تارةً يكون شرطًا باعتبارٍ، ويكون ركنًا باعتبارٍ، كما يُقال مثلًا في الصلاة: فإنَّ النية مثلًا شرط، وهي ركنٌ في الوقت نفسه؛ لأنها جزءٌ منها.

هذه الشروط الثلاثة التي لا تجوز القراءة إلا بها -كما ذكر المؤلف- مشهورة، ومعروفة، وابن الجزري -رحمه الله- قيّدها بأن تكون مع ذلك مشهورةً، يعني: غير معدودة من الغلط عند الأئمّة، لا بدَّ من الشُّهرة، ورَدَّ قولَ مَن شرط التواتر، يعني: توجد هذه الشروط الثلاثة: صحة الإسناد، ومُوافقة خطّ المصحف ولو احتمالًا، ومُوافقة العربية ولو بوجهٍ.

يقول ابنُ الجزري: لا بدَّ أن يُقيَّد هذا بأن تكون هذه القراءة مشهورةً[1]. يعني: قد تتحقق هذه الشروط بقراءةٍ لا يُقرأ بها.

يُمثّلون على ما لم يصحّ إسناده –يعني: ما اختلّ فيه الشرط الثالث-، لكنَّه هنا يقول: بأنَّه نُقِل بالتواتر، أو كان مُستفيضًا، لكن على كل حالٍ يُقال: صحّة الإسناد، والوجه العربي -مُوافقة الوجه العربي-، والرسم العثماني.

ما لم يصحّ سنده يُمثّلون له بقراءة: إِنَّمَا يَخْشَى (اللَّهُ) مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ [فاطر:28]، فهذه لا يصحّ سندها، وهي من جهة المعنى أيضًا غير صحيحةٍ، وإن حاول بعضُهم أن يتكلّف لها محملًا؛ فإنَّ هذا غير صحيحٍ، والله -تبارك وتعالى- مُنزَّه عن مثل هذا: أن يخشى أحدًا من خلقه، يعني: على هذه القراءة لفظ الجلالة فاعل: إِنَّمَا يَخْشَى (اللَّهُ) مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ، يخشى العلماء! الله أجلّ وأعظم من ذلك.

ويُمثّلون لما خالف العربية بهمز (معائش)، يقولون: لأنَّ الياء أصلية، وليست مُنقلبة من الهمز، وسيأتي في وجوه الأداء مما يكون من قبيل الأصول: أنَّ الهمزة قد تُسهّل، وقد تُحقق، مثل: (المؤمنون)، قد تُقرأ بالتَّسهيل، أو بالتَّحقيق، (الأنبياء) على قراءة بعضهم، لكن يقولون هنا: (معائش) غلط في اللغة؛ لأنَّ الياء أصلية، فمن ثمَّ فإنَّ قراءتها بالهمز غير صحيحةٍ.

ولهذا من الخطأ أن تقول: (مشائخ)، هذا غلط، بعض الناس هكذا يكتبها، أو ينطقها: (مشائخ)! وإذا أردتَ أن تضبط هذا يمكن أن تحفظ هذه العبارة القصيرة: (لا تهمز المشايخ)، الهمز معنوي: تتكلم فيهم بالباطل، أو أن تنطق هذه اللَّفظة بالهمزة: (لا تهمز المشايخ)؛ لأنَّ الياء أصلية هنا: (مشايخ) (شيخ)، ليس أصلها (شأخ) مثلًا حتى تقول: مشائخ، فتقول: مشايخ. فهذا من الأخطاء الشَّائعة.

ويُمثّلون لما وافقها ولو بوجهٍ -يعني: وافق العربية ولو بوجهٍ-: بإسكان الهمزة في (بارئْكم) و(يأْمركم) في قراءة أبي عمرو، وخفض حمزة لقراءة: (الأرحام) في صدر سورة النساء: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [النساء:1]، يقول: أسألك الله والرحم. يتناشدون بهذا.

فهنا على قراءة الجرّ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ (والأرحامِ)، لكن على الأول: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ يعني: اتَّقوا الأرحام أن تقطعوها، مفعول به، وعلى هذه -قراءة الخفض-: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ (والأرحامِ)، يقول: أسألك الله والرَّحم، أسأله بالله وبالرَّحم. فجاءت هنا مجرورة باعتبار ما كانوا يفعلونه، فجاء القرآنُ على هذا.

كذلك يُمثّلون بنصب أبي جعفر -على خلافٍ عنه- وعاصم في رواية: (ليُجزى قومًا)، هي: لِيَجْزِيَ قَوْمًا [الجاثية:14]، فبعضهم يقول: التَّقدير (ليُجزى هو)، أي: الخير، مُقدّر محذوف، أو (ليُجزى الجزاء)؛ لأنَّ الفعل إذا بُنِيَ للمجهول يكون المفعولُ بعده نائبًا للفاعل، فيكون بالرفع، فهنا (ليُجزى قومًا)، كيف جاءت على هذه القراءة؟ (ليُجزى قومًا)، وبعضهم يقول: إنَّه ناب عن الجار والمجرور، وهو جائزٌ عند الكوفيين.

من الأمثلة كذلك: الفصل بين المضاف والمضاف إليه؛ فالمشهور أنَّ ذلك لا يصحّ، ولكن على مذهب الكوفيين يصحّ، ومعلومٌ أنَّ مذهب الكوفيين أسهل بكثيرٍ من مذهب البصريين، فالبصريون هم فُقهاء النُّحاة، ومذهبهم أدقّ، ولكن مَن شقَّ عليه النحو، وأراد نحوًا لا كُلفةَ فيه، ولا مشقّةَ، ولا صعوبةَ؛ فيُمكن أن يتعلم على مذهب الكوفيين، ويقول: أنا كوفي، فيجد ذلك أسهل في الوجوه، وفي علل النَّحو أيضًا، ولا يكاد يُخطئ، فكلّ شيءٍ يمكن أن يُوَجّه على كلام النُّحاة إلا ما شاء الله.

فالفصل بين المضاف والمضاف إليه مثل: في قوله -تبارك وتعالى- على القراءة التي نقرأها: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ [الأنعام:137]، الشُّركاء هؤلاء من الشياطين، زيَّنوا لهم قتل الأولاد، الشُّركاء: فاعل، لكن على قراءة ابن عامر: وَكَذَلِكَ زُيّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (قتلُ أولادَهم شُرَكَائِهمْ)، بإضافة (قتل) لـ(شركائهم).

لاحظ: الآن (قتلُ أولادِهم)، قتل: مضاف، وأولادهم: مضاف إليه، لكن هنا إذا أُضيف (قتل) لـ(شركاء)، فهنا فصلنا بين المضاف والمضاف إليه، يعني: يكون وجه القراءة هكذا: وَكَذَلِكَ زُيّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (قَتْلُ أَوْلَادَهمْ شُرَكَائِهمْ).

في القراءة التي نقرأ بها (قتل) مضاف إلى الأولاد، لكن هنا يكون مُضافًا لـ(شركاء): (قتلُ أولادَهم شُركائِهم)، فصلنا بين المضاف والمضاف إليه، ويكون التَّقدير: قتلُ شركائهم أولادَهم. يصير الأولادُ شركاء.

وأهل الكوفة يُجوّزون هذا، يعني: الفصل بين المضاف والمضاف إليه، وبهذا يكون قد وافق العربية بوجهٍ.

ويُمثّلون على ما خالف العربية بقراءة ابن مسعودٍ:

يُمثّلون على ما خالف الرسم العثماني ولا احتمال -يعني: لا يُوافقه ولو احتمالًا- بقراءة ابن مسعودٍ: (والذكر والأنثى)، وقراءة ابن عباس: (وكان أمامهم ملكٌ يأخذ كلَّ سفينةٍ)، وهكذا أيضًا قراءة: (صالحة)، (كل سفينةٍ صالحةٍ غصبًا)، فهذا ما يُوافق الرسم العثماني ولا احتمال، لا يُوافق الرسم العثماني بوجهٍ من الوجوه.

أمَّا الذي يُوافق المصاحف العثمانية في بعض المصاحف؛ لأنَّها قد تُكتب في مصحفٍ بوجهٍ، وتُكتب في مصحفٍ آخر بوجهٍ آخر: قراءة ابن عامر: (قالوا اتَّخذ اللهُ ولدًا)، بينما قراءة الجمهور: وَقَالُوا بالواو، فهذا يُوافق بعض المصاحف، وقراءة ابن عامر: (وبالزبر وبالكتاب المنير)، هنا بزيادة الباء، فهذه في المصحف الشَّامي كُتبت هكذا، فعثمان -رضي الله تعالى عنه- كتب بعض أوجه القراءة في بعض المصاحف، وكتب في غيرها وجهًا آخر.

الحافظ ابن حجر -رحمه الله- يقول: أنَّ ذلك يرجع إلى حرف قريش، يعني: باعتبار أنَّ عثمان جمع الناس على مصحفٍ واحدٍ على حرف قريش، وهذه الأوجه التي في المصاحف كُتبت بشيءٍ من التَّفاوت في بعض المواضع، فهذه على أي شيءٍ تُحْمَل؟

  الحافظ ابن حجر يقول: يُحْمَل على أنَّ ذلك من حرف قريش بالوجهين[2] مثلًا؛ فكتبها عثمانُ في بعض المصاحف بوجهٍ، وفي بعض المصاحف بوجهٍ آخر، هذا على هذا الاعتبار: أنَّ عثمان جمع الناسَ على حرف قريش، وهذا ليس محل اتِّفاقٍ.

من الأمثلة على ما يُوافق بعض المصاحف: قراءة ابن كثير: (تجري من تحتها الأنهار) في آية التوبة، فهذه كُتبت هكذا في المصحف المكي: (تجري من تحتها)، تَجْرِي تَحْتَهَا [التوبة:100]، في بعض المصاحف هكذا، وفي بعضها هكذا من غير "من" هذه، لو لم يكن في بعض المصاحف بالوجه الآخر لما كان ذلك مما يحتمله الرسم العثماني، بخلاف (ملك)، ومَالِكِ، فرسم الكلمة يحتمل الوجهين، هذا لا إشكالَ فيه، لكن زيادة (من) لو لم تأتِ مكتوبة في بعض المصاحف لكان ذلك مما لا ينطبق عليه هذه الشروط.

لكن هل هذا مُطّرد؟

قد لا يكون مُطّردًا، فقد تُكتب المصاحف على وجهٍ، مع أنَّ القراءة بأكثر من وجهٍ، مما قد يُقال: إنَّه ليس مما يحتمله الرسم، مثل: (ملك)، ومَالِكِ هذه يحتملها، لكن وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24]، إذا فُسّر، يعني: قلنا: بضنين: ببخيلٍ مثلًا، الآن هي كُتبت هكذا بالضاد، أليس كذلك؟

بينما هي تُقرأ بالوجهين قراءة مُتواترة: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ (بِظنِينٍ) بالظاء، يعني: ليس بمُخمِّن، ولا يتكلم بالظنِّ، ليس بمتّهمٍ، (بظنين) هذه لا تحتمل، والله أعلم.

على كل حالٍ، هذا بالنسبة لاحتمال الرسم العثماني، يرد عليه مثل هذا الإشكال.

كذلك فيما يتعلّق بمُوافقة كلام العرب، ولو على بعض الوجوه، أو في بعض اللُّغات: هذا قد يرِد عليه أيضًا إشكال، يعني: تجد النُّحاة أحيانًا، وكذلك بعض المفسّرين من المشتغلين بالنَّحو، ويميل إلى الإعراب في تفسيره، ويُكثر منه؛ قد يرُدّ بعض القراءات الثابتة المتواترة التي لا مطعنَ فيها، بحجّة أنَّ هذا يُخالف قاعدة نحوية، وهذا غير صحيحٍ، ولا مقبول؛ لأنَّ القراءة حُجّة، ولا يجوز أن تُردّ بقاعدة نحوية؛ لأنَّ هذه القواعد إنما مبناها على استقراء كلام العرب؛ ولذلك تجد هؤلاء من النُّحاة يُقررون أنَّ هذا من الأوجه الصَّحيحة في اللغة مثلًا، يقول لك مثلًا: إلزام المثنى الألف[3]:

إنَّ أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها[4]

ما قال: "غايتيها"، مثنى، ويُنصب ويُجرّ بالياء، فهنا جاء بالألف: (قد بلغا في المجد غايتاها).

يقولون: هذا البيت قاله شاعرٌ في عهد الاحتجاج، عصر الاحتجاج عندهم في المشهور ينتهي إلى إبراهيم بن هَرِمة، فهنا ما بعده لا يُحتَجّ به، يعتبرونه من شعر المولَّدين.

فالشَّاهد: أنَّ هؤلاء النُّحاة في كثيرٍ من الأحيان يأتون ببيتٍ لمجهولٍ، ويقولون: هذا قيل في زمن الاحتجاج، والقائل مجهول، ويحكمون بأنَّ هذا من الوجوه الصَّحيحة في كلام العرب، بصرف النَّظر عن كون هذا الاستعمال أو اللغة قليلة، أو مشهورة، لكنَّهم يحكمون بصحّته باعتبار أنَّه وُجِدَ في قول قائلٍ مجهولٍ! أليس القرآنُ هو أفصح الكلام؟!

نحن نقول فيما هو دون ذلك، يعني: كلام السَّلف ، أحيانًا يردُّون التَّفسير؛ تفسير ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- مثلًا، يقولون: لأنَّ هذا يُخالف العربية، وهذا تجده في بعض التفاسير، مثل: تفسير أبي حيان.

ابن القيم -رحمه الله- يردّ على هؤلاء بقوةٍ، وكذلك قد يردُّون بعضَ الألفاظ في الحديث، باعتبار أنَّها تُخالف العربية، وهذا غير صحيحٍ[5].

طبعًا هم لا يقولون: النبي ﷺ يلحن، لا. لكن يقولون: هذا من تصرُّف الرواة، لكن مثل هذا الراوي، أو المفسّر، مثل: ابن عباس، هو في عصر الاحتجاج، وعالم، وإمام، ومُفسّر، وإذا كانت هذه القواعد لا تُؤخذ من استقراء القرآن أولًا، ثم استقراء السُّنة؛ فإنَّ هذه القواعد لا يُوثَق بها، كيف يُؤخذ ذلك من قول مجاهيل، ثم يقال: هذه قاعدة نحوية، أو هذا وجهٌ في اللغة، ويُترَك أفصح الكلام، وأوثق الكلام، وهو كلام الله، وكلام الرسول ﷺ؟!

ولذلك تميز بعضُ النحاة بكثرة الرجوع إلى الحديث في الأمثلة في النحو والاستشهاد، وتجد هذا في مثل كلام بعض المتقدمين منهم: كسيبويه، وبعض المتأخّرين: كابن مالك -رحمه الله-، تميز بهذا كثيرًا، بينما تجد بعضَهم ربما لا يُورِد حديثًا واحدًا، بل ربما يُورد بيتًا مصنوعًا.

فالحاصل أنَّ هذا الشرط: مُوافقة كلام العرب ولو على بعض الوجوه، أو في بعض اللُّغات.

القراءة تُؤخَذ بالتلقي، فإذا ثبتت فهي حُجّة في اللغة.

ولا أعرف هؤلاء الأئمة -رحمهم الله- كابن الجزري، وقبله أيضًا: كأبي عمرو الدَّاني، وأمثال هؤلاء، وهم أئمة في اللغة، يعني: يذكرون هذه الشُّروط على أنها مُسلَّمات بهذه الطَّريقة. وهذا لا يخلو من إشكالٍ، والله أعلم.

والمقصود أنَّ القراءة إذا صحَّ سندها -يقولون- ووافقت الرسم ولو بوجهٍ، لكن يمكن أن تُستثنى بعض المواضع التي تلقوها بالقبول، مثلما قلنا: بِضَنِينٍ [التكوير:24] (بظنين)، لكن ليس لأحدٍ أن يقرأ بالقراءات الشَّاذة التي صحَّ سندها، ولكنَّها تُخالف الرسم العثماني، يعني: مما حكم عليه العلماء بالشُّذوذ، ليس له أن يقرأ بها في الصلاة.

وهذا الفن إنما يُؤخذ من أهله، وهم أبصر به، وكون بعض طلاب العلم مثلًا يقول: إذا صحَّ الإسناد فإنَّ هذا يكفي في القراءة. هذا فيه إشكالٌ.

وابن مجاهد -رحمه الله- ومَن معه من القُرَّاء في زمانهم اتَّفقوا على تخطئة ابن شنبوذ، وكان يقرأ بالشَّواذ[6]، فما صحَّ إسناده عنده ...، واستتابوه، وكتبوا عليه بذلك عهدًا، وعُزّر.

لكن نحن نقول: أنَّ القراءة غير المتواترة التي صحَّ سندها، قراءة الآحاد، هذه يُستفاد منها ثلاث فوائد على الأرجح: تُفسّر بها القراءة المتواترة، ويُحتجّ بها في اللغة، وكذلك الأحكام.

لاحظ: يحتجّ بها في اللغة، وهي غير مُتواترة التواتر الاصطلاحي عند القُرَّاء.

نقول: صحَّ سندها بالنسبة لشروط القراءة، هل يُشترط بهذه القراءة حتى تكون مقبولةً وصحيحةً أن تكون نُقلت بالتواتر عند المحدّثين على المشهور في تفسير التواتر عندهم؟

الذي يظهر -والله أعلم- أنَّ ذلك ليس بشرطٍ، يكفي صحّة ...، لكن ما صحَّ إسناده، وعُدَّ من الشَّواذ؛ لكونه يُخالف الرسم العثماني مثلًا، فمثل هذا لا يُقرأ به، ولكن يُستفاد منه ثلاث فوائد: يُحتَجّ به في الأحكام؛ تنزيلًا له منزلة الحديث النبوي، ويُفسَّر به القراءة المتواترة، وكذلك أيضًا يُحتَجّ به في العربية.

يعني: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف:79]، كلمة (وراء) من الأضداد، يحتمل أن يكون هذا الملك تجاوزوه، فهو خلفهم، أو يكون أمامهم: مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ [إبراهيم:16]، فهذا يأتي للمعنيين، فيُمكن أن تُفسَّر هذه بالقراءة الأخرى: (وكان أمامهم ملك).

ولا يُقال: إنَّه حين لم تثبُت قرآنية هذه القراءة، فإنَّه يسقط الاحتجاجُ بها بأي وجهٍ كان؛ لأنَّ قرآنيّتها سقطت، فلا تُنزّل منزلة الحديث النبوي! لا يُقال هذا.

بعض العلماء يقول هكذا، يقولون: لا يُحتجّ بها في شيءٍ؛ لأنها أُوردت على أنها قرآن؛ فسقطت قرآنيتها، فلا تُنزَّل منزلة الحديث. وهذا فيه نظر، والله أعلم.

هنا يقول: "واعلم أنَّ اختلاف القُرَّاء على نوعين: أصول، وفرش" فرش الحروف، ثم فسّر الفرش بأنَّه: ما لا يرجع إلى أصلٍ مُطَّردٍ، ولا قانون كليٍّ، وذكر أنَّه على وجهين: اختلاف في القراءة باختلاف المعنى، وباتِّفاق المعنى، وأنَّ الاختلاف في الأصول لا يُغير المعنى، وأنها ترجع إلى ثمان قواعد.

هذا التَّقسيم مشهور عند القُرَّاء: إلى أصول، وفرش.

يعني: أنَّ الفرش هي الكلمات، الألفاظ المنفرشة؛ سُمِّي فرش لهذا.

المنفرشة، المتفرقة في القرآن، التي ليست لها قاعدة مُطردة تضبطها، فهي أحكام إذًا جزئية تختصّ بهذا الموضع بعينه، فكل كلمةٍ من هذه الكلمات لها حكمٌ يخصّها في هذا الموضع بعينه، فلا تجتمع في حكمٍ مُتَّحدٍ في جميع القرآن.

يعني: الآن كلمة (ملك) يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، (ملك) تُقرأ بالوجهين: (ملك)، و(مالك)، الجمهور يقرؤون (ملك)، بخلاف عاصم والكسائي: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، هل هذا الآن –يعني: القراءة بالوجهين- في كل لفظةٍ فيها: (مالك)، أو (ملك)؟

الجواب: لا، إنما ذلك يختصّ بهذا الموضع في سورة الفاتحة، لكن في قوله -تعالى- مثلًا: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران:26]، ما تُقرأ بالوجهين: (ملك الملك)، و(مالك الملك)، لا، وإنما بوجهٍ واحدٍ: مالِكَ الْمُلْكِ عند الجميع.

وهكذا في سورة الناس مثلًا: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۝ مَلِكِ النَّاسِ [الناس:1-2]، هل تُقرأ: (مالك الناس)؟

لا، هي عند جميع القُرَّاء: مَلِكِ النَّاسِ.

إذًا لفظة (ملك) التي في الفاتحة تُقرأ بالوجهين في هذا الموضع فقط، لكن في المواضع الأخرى الحكم يختلف، فما كان من هذا القبيل يُقال له: الفرش.

في مثل قوله -تبارك وتعالى- في سورة النساء: أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19]، قرأها حمزة والكسائي بضم الكاف: (كُرها)، قراءة الجمهور: كَرْهًا.

لاحظ: هل هذا في جميع المواضع التي فيها لفظة: (الكره) مثلًا؟

الجواب: لا.

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [التوبة:53]، هذه أيضًا تُقرأ: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا (أو كُرهًا)، لكن: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف:15]، فهذا الحكم فيه يختلف، يعني: في آية النِّساء: أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا، والآية الأخرى آية التوبة: أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، هذان الموضعان قرأهما حمزة والكسائي بضمِّ الكاف، والجمهور بالفتح، لكن في قوله: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وافق بعضُ القُرَّاء -كعاصم- على الضمِّ، وفتحها الباقون.

لاحظ: فتحها الباقون، يعني: إذًا القُرَّاء يختلفون في مثل هذا، بصرف النَّظر عن كون ذلك يترتب عليه تغير المعنى أو لا، يعني: الآن كلمة (ملك) و(مالك)، المعنى يختلف، أو المعنى واحد؟

يختلف: (ملك) غير (مالك)، فإنَّ الـمُلْكَ يعني: التَّصرف المطلق، بينما (مالك) يعني: أنَّه قد حاز الشيء، أو أنَّه يتصرف فيه بعينه.

على كل حالٍ، هذا ما يتعلّق بالفرش، أمَّا الأصول فهي قضايا مُطردة؛ مثل: الإدغام في جميع المواضع، والمدود، وأحكام الهمزة، ونحو ذلك. هذا يُقال له: أصول.

كان القُرَّاء لا يُفرِّقون بين الأصول والفرش في مُصنَّفاتهم، يعني: يذكرون ...، يبدؤون من أول المصحف، ويذكرون الأحكام في القراءات، ووجوه القراءة، بصرف النَّظر عن كون هذا من الأصول، أو الفرش، فإذا تكرر أحالوا إلى الموضع السابق، يعني: كلّ موضعٍ فيه وجوه من القراءة، سواء كان من الأصول، أو من الفرش، يذكرون هذه الأوجه.

هكذا كانوا، حتى جاء الإمامُ الدَّارقطني صاحب "السنن"، وهو أول مَن فرَّق بين الأصول والفرش؛ ففصل بين هذا وهذا، فجاءت عامَّة المؤلفات بعد ذلك على تقسيم القراءات إلى أصول وفرش، بينما في السابق يذكرون وجوه القراءة كما نجد في كتاب "السبعة" لابن مجاهد، فهذا إذًا كان على يد الدَّارقطني، يعني: الفصل بين ... التَّفريق في التأليف بين هذا وهذا.

إذًا الأصول: هي الأحكام الكليّة المطردة التي تندرج تحتها الجزئيّات المتماثلة: الإمالة، والإدغام، والإظهار، ونحو ذلك. هذه الأصول.

ولذلك حينما تريد أن تنظر في هذه الأصول في كتب القراءات ترجع إلى الآية نفسها، قد لا تجد الكلامَ عليها، تقول: لم يتطرق لهذا الوجه، لم يتطرق للقراءات فيها. فيما يتعلق بالأصول هو تكلّم عليها في أول الكتاب حينما ذكر الأصول؛ ولذلك الذي ليس له خبرة بكتب القراءات يرجع مباشرةً إلى الآية في الكتاب، فهو لن يجد إلا الفرش؛ الأحكام المختصّة بهذا الموضع، أمَّا الأصول الكليّة المطردة: ما يجدُ ذلك، والسَّبب أنَّه ذُكِرَ في أول الكتاب.

طبعًا في السابق قبل هذه الموسوعات الإلكترونية كان الناسُ يرجعون للكتب، فالذي لا خبرةَ له قد يعيا في البحث عنها، الآن يضع الكلمة، ويكتب، ويطلب، وتأتيه، لكن لا يدري من أين جاءت؟! وجدها في الكتاب، لكنَّه لا يعرف أين ذُكرت؟! لكن لو رجع وتصفح الكتاب لن يجد ذلك في الموضع الذي يتوقعه عند الكلام على الآية بعينها.

يقول: "وأمَّا الفرش: فهو ما لا يرجع إلى أصلٍ مُطَّردٍ، وأمَّا الأصول فالاختلاف فيها لا يُغيّر المعنى، وهي ترجع إلى ثمان قواعد"، يعني: أنَّ الفرش منه ما يُغير، ومنه ما لا يُغيِّر: (ملك) و(مالك) يحصل به التَّغيير، لكن (كَرها) و(كُرها) لغتان لا يتغير معهما المعنى، يعني: ما كلّ القراءات يترتب عليها تغير المعنى في الفرش، أمَّا الأصول فإنها لا تُغير المعنى؛ ولذلك فإنَّ بعض المفسّرين لا يذكر من القراءات إلا ما يترتب عليه أثرٌ في المعنى، ومثل هذا هو الذي يبحث فيه الناس، ويدرسونه: (أثر القراءات في التفسير) إنما يُقصد به هذا النوع من الفرش.

وكذلك: (أثر القراءات في الأحكام)، مثل قراءة: وَأَرْجُلَكُمْ(وأرجلِكم)، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ (وأرجلِكم)، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة:6]، فبعضهم يُفسِّر قراءة الجرِّ: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ (وأرجلِكم)، تكون الرِّجلُ ممسوحةً، قالوا: هذا في حال كون الرِّجل مُغطّاةً بالجورب أو الخفِّ؛ فحكمها المسح.

فالقراءتان على اعتبارين: هذه باعتبار كون الرِّجل على الأصل مكشوفة، فهي مغسولة، والقراءة الثانية: (وأرجلِكم) حينما تكون ممسوحةً، هكذا، مع أنَّ بعضهم فسّره بغير ذلك، يعني: بوجوهٍ من الإعراب؛ إمَّا للمُجاورة، أو غيره.

ثم ذكر الأصول، هنا يقول: "الأصول الاختلاف فيها لا يُغير، ترجع إلى ثمان قواعد".

حينما تقول: ما الأصول؟

هذه الأصول، يقول: "الأولى: المدّ، وهو في حروف المد الثلاثة، ويُزاد فيها على المدّ الطَّبيعي بسبب الهمزة أو التقاء السَّاكنين"، فالمدّ معروفٌ، وهو إطالة الصّوت في النُّطق بحرف المدّ عند مُلاقاة الهمزة أو السكون. والذي يُقابل المدّ يُقال له: القصر، فهذا يرجع إلى أسبابٍ، يعني: الأسباب اللَّفظية يمكن أن تتلخص في أنَّ حروف المدِّ الثلاثة التي هي: الياء السَّاكنة بعد كسرٍ، والواو السَّاكنة بعد ضمٍّ، والألف -كما هو معلومٌ- لا تكون إلا ساكنة بعد فتحٍ؛ تُلاقي همزة أو سكونًا.

هذا المدّ يُقسمونه إلى أقسام -كما هو معلوم-، يقولون: منه مدّ طبيعي: أن يُؤدِّي حروف المدّ إذا لم تُلاقِ همزة أو سكونًا الأداء المعتاد دون زيادةٍ، يعني: ما يتحقق به النُّطق في الحرف على وجهه بصورةٍ تُؤديه كما هو. هذا الذي يكون مقداره حركتين. مثل: الألف في (قال)، لو قلّ عن حركتين سيسقط الحرف، و(يقول) الواو حرف مدّ، وكذلك (قيل) الياء حرف مدٍّ، هذا لا بدَّ فيه من حركتين، وإلا سيذهب الحرف.

وهناك مدٌّ فرعي: ما كان بسبب الهمزة، فهذا يجعلونه على ثلاثة أنواع:

مدّ متّصل: ما اجتمع فيه حرف المدِّ مع الهمزة في كلمةٍ واحدةٍ، سمّوه بذلك "متّصل" لاتِّصاله بحرف الهمزة في كلمةٍ واحدةٍ: السَّمَاءِ، جَاءَ، لاحظ: في كلمةٍ واحدةٍ: الْمَلَائِكَةِ، هَاؤُمُ، وسِيئَتْ، كلّ ذلك في كلمةٍ واحدةٍ.

أمَّا المنفصل: فهو ما جاءت فيه بعد حرف المد همزة مُنفصلة عنه في كلمةٍ أخرى. فقيل له "منفصل" بهذا الاعتبار -كما هو معروف-، مثل: بِمَا أُنْزِلَ، لاحظ: الهمزة في كلمةٍ، وحرف المدّ في كلمةٍ، الذي هو الألف: قَالُوا آمَنَّا، وَفِي أَنْفُسِكُمْ، وهكذا.

وكذلك أيضًا مدّ البدل: وهو ما تقدّم فيه الهمز على حرف المد. مثل: آمَنُوا، إِيمَانًا، أُوتُوا، لاحظ: حروف المد: الألف، والياء، والواو.

أمَّا ما كان بسبب السُّكون فيجعلونه على نوعين:

مدّ عارض للسكون: وهو ما جاء فيه بعد حرف المدّ أو حرف اللين سكون عارض في حالة الوقف فقط.

لما نقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]، فهذا يُسمّى: مدّ عارض للسكون عند الوقف، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [قريش:3]، لاحظ الياء. والواو: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4]، هذا مدّ عارض للسُّكون.

وهناك نوعٌ آخر، وهو المدّ اللازم: وهو ما جاء فيه بعد حرف المدّ سكونٌ أصليّ في الوقف والوصل جميعًا. مثل: الصَّاخَّةُ، وهكذا أيضًا مثل: الم.

فهنا اتَّفقوا على أنَّ المدَّ الطبيعي لا يتجاوز حركتين بقدر ما يبرز الصّوت، يبرز الحرف، وكذلك اتَّفقوا أيضًا على وجوب المدّ وتمكينه في المتصل واللازم الكلمي.

هذا ما يتعلّق بالقاعدة الأولى: وهي المدّ، يقول: في حروف المدّ الثلاثة، ويُزاد فيها على المدّ الطبيعي -عرفنا المدّ الطبيعي-، بسبب الهمزة أو التقاء السَّاكنين.

طبعًا على اختلافات بين القُرَّاء في مقادير المدّ، يعني: ما زاد على المدّ الطبيعي فيما يقولون: إنَّه مثلًا يُمدّ أربع حركات، أو يمدّ ستّ حركات. وبعضهم يقول: خمس. وبعضهم يقول غير ذلك.

فالقُرَّاء أيضًا يختلفون في مثل هذا، لكن هذا الاختلاف لا يُخرجه عن الأصول؛ لأنَّ هذا القارئ يجعل ذلك مُطَّردًا في القرآن، وقد يُستثنى من ذلك موضع، أو نحو ذلك، فهذا لا يُؤثّر في القاعدة، وكل قاعدةٍ لها مُستثنيات، لكن -كما أشرتُ سابقًا- أنَّ ذلك من وجوه القراءة الثابتة؛ لأنَّ القراءة المنقولة الصَّحيحة التي يُقال عنها: متواترة، هذا يكون فيما يتّصل بالفرش، وفي الأصول، يعني: ما كان من قبيل الأداء فإنَّه داخلٌ فيه؛ لأنَّ القرآن إنما أُخِذَ بالتَّلقي.

ولما ذكر ابنُ الحاجب أنَّ ما كان من هذا القبيل تكلّم في تواتره، قام عليه هؤلاء العلماء من القُرَّاء، وشنَّعوا عليه، فقالوا: لا فرقَ بين هذا وهذا[7].

وابن الجزري له كلامٌ مشهورٌ في الردِّ على ابن الحاجب، وقالوا: ما سُبِقَ إلى هذا، وأنه مُخالفٌ للإجماع[8].

وكلامهم في هذا مشهورٌ ومعروفٌ، لكن إذا كانت هذه من الأوجه الثابتة فيصحّ التنويع فيها، كما ذكرنا لكم من قبل في الخلط بين القراءات، ما لم يترتب عليه فساد المعنى.

كون الإنسان يقرأ لنفسه، أو يقرأ في الصلاة للناس، نحن نقول: لا يقرأ لهم بوجوه القراءة الأخرى التي لا يعرفونها -مما يتعلق بالفرش- إذا كان ذلك يُؤدِّي إلى بلبلةٍ وفتنةٍ؛ لأنَّ هؤلاء لا يعرفون وجوه القراءة، فلا يُوقِع الناس في مثل هذا الحرج والإشكال: ما أنت بمُحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة[9]، فيظنون أنَّ هذا جاء بكلامٍ آخر، وحرّف القرآن، ويردون عليه أثناء الصَّلاة، ونحو هذا. فمثل هذا لا حاجةَ إليه.

لكن في مثل وجوه الأداء: كونه يمدّ أحيانًا أربع حركات، وأحيانًا ستّ، إذا كان ذلك ثابتًا على بعض وجوه القراءة عند بعض القُرَّاء بأربعٍ، أو بستٍّ، فيُنوِّع في قراءته؛ فهذا لا إشكالَ فيه، وإن كان هذا الكلام لا يحتمله القُرَّاء، والسَّبب هو ما ذكرتُه من قبل، وأنَّهم يتلقون هذه الأشياء، يحفظونها، ويقفون عند ذلك.

يقول: "الثاني: الهمز، وأصله التَّحقيق"، يعني: الأصل في الهمزة أن تكون مُحققةً، ثم قد يُخفف على سبعة أوجهٍ: إبداله واوًا، أو ياءً، أو ألفًا، وتسهيله بين الهمزة والواو، وبين الهمزة والياء، وبين الهمزة والألف، وإسقاطه.

هذا فيما يتعلق بالهمزة والتليين.

والهمزة الحرف يخرج من أقصى الحلق، أدخل حروف الحلق في الحلق؛ ولهذا السبب -والله أعلم- استُثْقِل، يعني: الذين يُخففون الهمزة، يُسهّلونها، كأنَّهم استثقلوا المخرج: أقصى الحلق، فسهّلوها، وخففوها، فهذه الهمزة قد تكون مُتحركةً، وهذه الهمزة المتحركة لها صورة، أو من صورها: أن تلتقي همزتان في كلمةٍ، فإذا حصل هذا؛ التقت الهمزةُ المتحركة بهمزةٍ أخرى في كلمةٍ واحدةٍ، فلها صورتان:

الأولى: أن تدخل على (أل)، وهذه يقولون: جاءت في القرآن في مواضع محددة، وهي ستة، والهمزة الداخلة فيها -في هذه المواضع الستة- هي من قبيل همزة الاستفهام، يقول: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ [الأنعام:143] في الأنعام، الآنَ [يونس:51، 91] في يونس في موضعين، قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس:59]، وكذلك في سورة النمل: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59]، فهذا أجمع القُرَّاءُ على تحقيق همزة الاستفهام، وتخفيف الثانية، صورة التَّخفيف يعني: أن تُبدَل الهمزة الثانية بحيث تكون ألفًا.

أمَّا الصورة الثانية: وهي أن تدخل على غير (أل)، هذه يجعلونها أيضًا على ثلاثة أنواع:

أن تكون الهمزتان مفتوحتين، أو مفتوحة ومكسورة، أو مفتوحة ومضمومة.

فالمفتوحتان في كلمةٍ مثل: أَأَنذَرْتَهُمْ [البقرة:6]، أَأَنتُمْ أَعْلَمُ [البقرة:140]، أَأَسْلَمْتُمْ [آل عمران:20]، أَأَقْرَرْتُمْ [آل عمران:81]، ونحو ذلك، فهذه القُرَّاء لهم أوجه في قراءتها، يعني: لم يتَّفقوا على وجهٍ واحدٍ في القراءة.

وقد تكون الأولى مفتوحةً، والثانية مكسورةً: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ [الأنعام:19]، أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا [الشعراء:41]، كذلك لم يتَّفقوا على وجهٍ واحدٍ في القراءة.

أو تكون الأولى مفتوحةً، والثانية مضمومةً: أَؤُنَبِّئُكُم [آل عمران:15]، أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ [ص:8]، أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ [القمر:25]، فهذه أيضًا لم يتَّفقوا على وجهٍ واحدٍ في القراءة، ولا حاجةَ للتطويل بذكر الأوجه.

الصورة الثانية: الهمزتان المتحركتان في كلمتين، وهذا على نوعين:

الأول: أن تتفق الحركة: همزتان مكسورتان، أو مفتوحتان، أو مضمومتان: هَؤُلَاءِ إِنْ [البقرة:31]، لاحظ في كلمتين، وكلاهما مكسور: هَؤُلَاءِ إِنْ، مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا [النساء:22]، وفي الفتح: السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5]، أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ [النساء:43]، فهاتان مفتوحتان، والمضمومتان: وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ [الأحقاف:32].

فكلّ ذلك لم يتّفق القُراء فيه على وجهٍ متّحدٍ، يعني: وجوه القراءة فيه مختلفة.

وقد تختلف الحركة، فهذا أيضًا له صور: مضمومة مع مفتوحة: السُّفَهَاءُ أَلا [البقرة:13]، وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي [هود:44]، ومفتوحة مع مضمومة: كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا [المؤمنون:44]، وكذلك مكسورة مع مفتوحة، ومفتوحة مع مكسورة، ومضمومة مع مكسورة: مَنْ يَشَاءُ إِلَى [البقرة:142]، مَا نَشَاءُ إِنَّكَ [هود:87]، فهذا أيضًا لم يتفق القُراء فيه على وجهٍ واحدٍ.

الصورة الثالثة: وهي الهمزة المتحركة، المفردة، فهذه الهمزة المتحركة قد تكون في فاء الكلمة، وحينما تسمع فاء الكلمة فمعناها: الحرف الأول، والعين معناها: الحرف الثاني، ولام الكلمة يعني: الحرف الأخير منها، والمقصود الحروف الأصلية.

فهنا حينما تكون فاء الكلمة، قد تكون مع حركةٍ مماثلةٍ، مثل: مَآبٍ، مَآرِبُ، فهذه أجمع القُراء على تحقيقها، إلا حمزة في الوقف؛ فإنَّه يقول بالتَّسهيل؛ بين بين.

وقد تكون مع حركةٍ مُخالفةٍ، مثلًا: مفتوحة، مضموم ما قبلها: مُؤَجَّلًا، أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ، وَالْمُؤَلَّفَةِ، ونحو ذلك، فهذه لم يتَّفقوا فيها على وجهٍ مُحدَّدٍ.

همزة مفتوحة، مكسور ما قبلها: لِئَلَّا، لِأَهَبَ لَكِ يعني: تصير هكذا: (ليهب لك) إذا سُهّلت.

مضمومة، مفتوح ما قبلها، هذه في موضعين: يَئُودُهُ في آية الكرسي، تَؤُزُّهُمْ في سورة مريم، فهذه أجمع القُرَّاء على تحقيقها إلا حمزة في حالة الوقف.

متحركة، وقبلها ساكن، مثل: الْأَرْضِ، الْآخِرَةُ، ونحو ذلك، فهذه لم يتَّفقوا فيها على وجهٍ.

إذا سبقها مُتحرّك: أَرَأَيْتَ، أَرَأَيْتُمْ، ونحو ذلك، هذه لم يتَّفقوا فيها على وجهٍ مُتَّحدٍ.

إذا سبقها ساكنٌ: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ [النساء:32]، فَاسْأَلُوهُمْ، فَاسْأَلِ الَّذِينَ، ونحو ذلك، فهذه أيضًا لم يتَّفقوا فيها على وجهٍ محددٍ.

وهناك الهمزة المتحركة إذا كانت في آخر الكلمة لام، هذه يقولون: لها صورتان:

الأولى: أن يسبقها مُتحرك: وَالصَّابِئِينَ يعني: أصل الصَّابئين جمع صابئ، لاحظ: فهي في آخر الكلمة، في لام ... صابئ، وَالصَّابِئُونَ، فهذه أيضًا لم يتَّفقوا على وجهٍ واحدٍ.

إذا سُبِقت بساكنٍ: النَّبِيُّ، النَّبِيِّينَ، الْأَنْبِيَاءَ، النُّبُوَّةَ، فهذه أيضًا لم يتَّفقوا على وجهٍ مُتَّحدٍ.

الهمزة الساكنة هذه في آخر الكلمة، إذا كانت ساكنةً فهذه لها حالتان:

التقاء الساكنة مع همزةٍ أخرى: فهنا لا بدَّ أن تكون بطبيعة الحال الهمزة الأخرى مُتحركة؛ لأنَّ السَّاكنين لا يجتمعان، فإن وقعت المتحركةُ بعدها لزِم الإدغام، إذا كانت عينًا مثل: (رأس) -عين الكلمة يعني: وسط-، (رأس) لو قُرئت هكذا: (رأَّس)، لاحظ: إذا وقعت المتحركةُ بعدها لزم الإدغام: (رأَّس)، (سأَّل)، لكن هذا لا يوجد في كتاب الله -تعالى-، يعني: هذه صورة افتراضية، ما كل الأمثلة، وكل الصور المتفرعة توجد أمثلة لها من القرآن.

وإن كانتا مُنفصلتين، مثل: ... الهمزة السَّاكنة هنا المفردة -فيما يتعلّق بلام الكلمة-، هذه السَّاكنة قد تكون مع همزةٍ أخرى، وقد تكون مُفردةً: وَالْمُؤْتَفِكَاتِ، الْمُؤْمِنُ، الْمُؤْمِنُونَ، ونحو ذلك، فهذا في الأسماء، وفي الأفعال أيضًا: يُؤْمِنَّ، يُؤْمِنُونَ، يُؤْلُونَ، فهذا القُرَّاء لم يتَّفقوا فيه على وجهٍ واحدٍ.

يقول: "الثالثة: الإدغام والإظهار"، هذا كلّه من الأصول، يقول: "الأصل الإظهار، ثم يحدث الإدغامُ في المثلين، أو المتقاربين، وفي كلمةٍ، وفي كلمتين، وهو نوعان: إدغام كبير، انفرد به أبو عمرو، وهو إدغام مُتحرك، وإدغام صغير لجميع القُرَّاء، وهو إدغام السَّاكن".

هذا الإدغام يمكن أن يُفسَّر بأنَّه: أن نلفظ بالحرفين، ننطق بالحرفين، نجعلهما حرفًا كالثاني مُشددًا.

هذا الإدغام له أسباب؛ تارةً يكون للتَّماثل، وتارةً للتَّجانس، وتارةً للتقارب.

التَّماثل: أن يتَّفقا في المخرج والصِّفة، مثل: الباء في الباء، والتاء في التاء، وهكذا.

التَّجانس: أن يتَّفقا في المخرج، ويختلفا في الصِّفة: كالذال في الثاء، والثاء في الظَّاء، والتاء في الدال.

التقارب: أن يتقاربا في المخرج، أو الصِّفة، أو المخرج والصِّفة.

هذا الإدغام تختلف أحكامه:

منه ما يجب فيه الإدغام: وهو أن يكون الحرفان مثلين أوّلهما ساكن، مثل: مِّن نَّاصِرِينَ [آل عمران:22]، يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ [النساء:78]، فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ [الإسراء:33]، فهذان مثلان.

الثاني: ما يجب فيه الإظهار: الإظهار عكس الإدغام، يعني: أن ينطق الإنسانُ بالحرف مُستقلًّا بنفسه، واضحًا بصفاته، وهذا حين يتباين الحرفان مخرجًا وصفةً، أو مخرجًا، أو صفةً، فاختلاف المخرج ولو قلَّ هو من أسباب الإظهار، كذلك تباين الصِّفتين.

هناك قسمٌ ثالثٌ يجوز فيه الإظهار والإضمار ...، يعني: نحن هنا ... ما يجب فيه الإدغام، وما يجب فيه الإظهار، وما يجوز فيه الإدغام والإظهار، وهو ما اجتمعت عِلّة كلّ من الإظهار والإدغام فيه، كاختلاف الحرفين مع تقارب المخرج: قَالَتْ طَائِفَةٌ، وَدَّتْ طَائِفَةٌ، وتماثل حرفين مع فتح الأول: قَالَ لَهُمُ، لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ، لاحظ: باء مع باء، فهذا يقولون فيه: طريقه الرِّواية، وينقسم عند القُرَّاء إلى قسمين: إدغام صغير، وإدغام كبير، كما ذكر المؤلف.

فالإدغام الصَّغير عند القُراء على قسمين:

الأول: كلمات نطقتها العربُ ساكنةً، وهذه عندهم محددة في ستة أنواع، يعني: العرب نطقتها هكذا، هذه الستة معروفة: قد، وإذ، وتاء التأنيث المتصلة بالفعل (ذهبت)، ولام (هل)، و(بل)، وحروف الهجاء، يعني: التي في أوائل السور، حروف التَّهجي: ألف لام، ما تقول: ألفٌ مثلًا. والنون السَّاكنة، والتنوين.

وعلى كل حالٍ، الكلام في هذا يطول، لكن يمكن أن نقتصر -على سبيل المثال- على ما قيل في واحدٍ من هذه السّتة.

مثلًا: دال (قد) هذه اتَّفقوا على إدغامها في مثلها: وَقَدْ دَخَلُوا، والتاء كذلك: وَقَدْ تَبَيَّنَ دال مع التاء، ويجوز الإظهار، لكن اختلفوا فيها عند ثمانية أحرف.

القسم الثاني: ما كان سكونُه عن حركةٍ، وصورته عندهم: أن يكون الحرفان اللَّذان وقع فيهما الإدغامُ مُتقاربين مخرجًا، وكان سكونُ أوّلهما غير أساسٍ؛ بأن كان نتيجة لوضعٍ إعرابي، وهذا ذكر له القُراء تسعة أنواع: الباء مع الفاء، والباء عند الميم، والثاء عند التاء، والثاء عند الذال، والدال عند الثاء، إلى آخر ما ذكروا.

مثال ذلك: ما ذكره القُراء من إدغام في باب الباء عند الفاء، يقولون: هذا في خمسة مواضع: أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ [النساء:74] الباء عند الفاء، وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد:5]، اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ [الإسراء:63]، إلى غير ذلك من الأمثلة.

أمَّا الإدغام الكبير: فهو ما كان أول الحرفين فيه مُتحركًا، سواء كانا مثلين، أم جنسين، أم مُتقاربين.

لماذا سُمّي بالكبير؟

بعضهم يقول: لأنَّه أكثر من الصَّغير، أو لما فيه من تصيير المتحرّك ساكنًا، أو لما فيه من الصُّعوبة، أو لكثرة وقوعه؛ إذ الحركة أكثر من السكون، أو لشموله المثلين، والجنسين، والمتقاربين.

هذا ما يتعلّق بالإدغام والإظهار، وقالوا: "الأصل الإظهار، ثم يحدث الإدغام في المثلين، أو المتقاربين في كلمةٍ، وفي كلمتين"، يقول: "وهو نوعان: إدغام كبير ..." إلى آخره.

القاعدة الرابعة: الإمالة: هذه من الأصول، وهي أن تنحو بالفتحة نحو الكسرة، وبالألف نحو الياء، والأصل الفتح، ويُوجِب الإمالة الكسر أو الياء.

معنى الإمالة: تقريب الحرف نحو الياء، والفتحة التي قبلها نحو الكسرة.

والفائدة من الإمالة: هي سهولة اللَّفظ، ينطق بذلك بسهولةٍ، وذلك أخفّ على اللسان؛ ولهذا أمال مَن أمال من القُراء، أمَّا مَن فتح فإنَّه راعى كون الفتحة أمتن، وأنَّها الأصل.

أبو عمرو الدَّاني يقول: الفتح لغة أهل الحجاز، والإمالة لغة عامَّة أهل نجد من تميم، وأسد، وقيس[10].

طبعًا ليس معنى هذا أنَّ الإمالة مقصورة على أهل نجد، والفتح مقصور على أهل الحجاز، توجد قبائل في نجد لا يُمِيلون، ونرى أيضًا الفتح عند بعض القبائل من غير أهل الحجاز.

من القُراء مَن لم يُمِل، مثل: ابن كثير، ومنهم مَن أمال، وهؤلاء الذين أمالوا -وهم أكثر القُراء- ليسوا سواء، يعني: منهم مَن يُكثر من الإمالة، مثل: ورش، وأبي عمرو، وحمزة، والكسائي، ومنهم مَن هو مُقِلّ، مثل: قالون، وابن عامر، وعاصم.

نحن نقرأ مثلًا في قوله -تبارك وتعالى- في قراءة حفص: بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا [هود:41]، لاحظ: فهنا يُقرأ بالإمالة، لكن هذا قليل في قراءة عاصم.

وقد عرفنا أنَّ ابن الجزري –رحمه الله- هو خاتمة المقرئين، يقول: ما من أحدٍ من القُراء إلا رُويت عنه إمالة، قلَّت، أو كثُرت[11].

هو ذكر هذه الأشياء هنا، وهذه القضايا في ثنايا الكتاب ترِد، فلا بدَّ من تصورٍ عنها.

  1. انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/13).
  2. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/30).
  3. انظر: "النحو الوافي" (1/124).
  4. انظر: "الجمل في النحو" للفراهيدي (ص238).
  5. انظر: "بدائع الفوائد" (3/28).
  6. انظر: "الحجة للقراء السبعة" للفارسي (ص11).
  7. انظر: "مناهل العرفان" (1/305).
  8. انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/30).
  9. أخرجه مسلم: مقدمة الإمام مسلم -رحمه الله-، باب النَّهي عن الحديث بكل ما سمع (1/11).
  10. انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/30).
  11. انظر: "منجد المقرئين ومرشد الطالبين" لابن الجزري (ص74).

مواد ذات صلة