الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله -تبارك وتعالى-: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون [آل عمران:161]، قاله الله -تبارك وتعالى- بعد قوله: إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُون [آل عمران:160]، ثم قال: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ.
ووجه الارتباط يحتمل أن يكون باعتبار أن الغلول من موانع النصر، والله -تبارك وتعالى- يذكر في هذا السياق سبب الهزيمة التي وقعت لهم في أُحد، وكان ذلك كما قال الله : حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:152]، فالمعصية هي سبب الهزيمة، فهذا الغلول هو من أعظم المعاصي بل هو من كبائر الذنوب: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، والمعنى: وما كان لنبي على هذه القراءة المتواترة التي نقرأ بها: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ، يعني: أن يصدر الغلول منه فإنه مُنزه عن ذلك، والغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل أن تُقسم، إذا كتم شيئًا من الغنيمة فإن ذلك يعني أنه قد غل والأنبياء مُنزهون عن هذا.
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ، وعلى القراءة الأخرى المتواترة فإن ذلك: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يُغَلَّ) ومعناها أن يُنسب إلى الغلول يُتهم بالغلول، أو يكون المعنى (أن يُغل) أن يؤخذ من الغنيمة دون الرجوع إليه يعني أن يُكتم شيئًا من الغنيمة، وكلاهما قراءة متواترة، والقاعدة: أن القراءتين إذا كان لكل قراءة معنى فهما بمنزلة الآيتين، فهذه: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بمعنى أنه من يأخذ من الغنيمة شيئًا قبل أن تُقسم أو يكتم شيئًا من ذلك فإنه يأتي به -نسأل الله العافية- حاملاً له على ظهره: يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ويفتضح في الموقف في يوم المحشر كما قال النبي ﷺ مُحذرًا من مثل هذه التصرفات حيث أخبر ﷺ محذرًا ﷺ من أن يأتي أحد يوم القيامة وهو يحمل بعيرًا أو شاة أو بقرة[1].
وهكذا: أن من اقتطع شبرًا من الأرض، فإنه يطوق به يوم القيامة من سبع أراضين[2].
وأخبر النبي ﷺ في أحاديث تدل على هذه المعاني، فهذا كله داخل في قوله -تبارك وتعالى-: وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ، يعني: تُعطى وتُجزى كل نفس ما كسبت دون ظلم ودون أن يُضاف إليه شيء من كسب غيره، ومن عمل غير، ودون أن يُنقص أيضًا من عمله، ومن جرائره وجرائمه أن يُنقص شيء منه.
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ هذه الصيغة "وما كان" تدل على المنع أو الامتناع أن ذلك لا يكون وهي من الصيغ الدالة على التحريم، وقد ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- جملة من هذه الصيغ في كتابه "بدائع الفوائد"[3]، الصيغ الدالة على المنع والتحريم "وما كان".
هنا أيضًا: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ على هذه القراءة هذا فيه تنزيه وتشريف للنبي ﷺ وللأنبياء، فمقامهم ومنازلهم ومراتبهم أعلى وأعظم، وكذلك أيضًا على القراءة الأخرى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يُغَلَّ هذا يدل على الغلول وهو من كبائر الذنوب إذا كان في حق نبي فإن ذلك يكون أعظم؛ لأن الجناية قد وقعت في حق أشرف الخلق وهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يُغَلَّ، وعلى التفسير الآخر لهذه القراءة المتواترة أن يُغل أن يُنسب إلى الغلول جناية عظيمة بنسبة الأنبياء واتهام الأنبياء بهذه التُهم الباطلة، فذلك من شأن من لا خلاق له كما عُرف ذلك عن اليهود.
ويؤخذ أيضًا من هذه الآية الكريمة: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الخيانة محرمة من كل أحد، الخيانة عمومًا: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ، (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يُغَلَّ) يعني لو كان الغلول في حق غير نبي يعني من جاء بعد النبي ﷺ فغل فينطبق عليه: وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لأن ظاهره العموم، وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثم إن ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- في مثل هذا إنما هو لتعظيم هذا الجُرم وتفخيمه، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ فإذا كان المجني عليه أشرف كان الجُرم والجناية أكبر وأعظم، فتكون هذه الجناية في حق الجاني أفحش.
وكذلك أيضًا فإن قوله: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ يدل على شناعة الغلول، والغلول وإن كان يُطلق بمعنى الأخذ من الغنيمة قبل أن تُقسم إلا أن له معنى أشمل وأوسع، فالأخذ من المال العام يدخل في جملة الغلول، الأخذ من المال العام، المال العام: هو بيت مال المسلمين، فالأخذ منه سواء كان ذلك الأخذ قليلاً أو كان الأخذ كثيرًا فينطبق عليه: وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ولهذا النبي ﷺ حذر كما أشرت في الحديث السابق: لما بعث رجلاً يجبي ويأتي بالصدقات فرجع وهو يقول: هذا مالكم وهذا هدية أُهديت إليّ، فقال النبي ﷺ مخاطبًا للناس قام على المنبر وحذر من مثل هذا في الرجل يبعثه على عمل ثم يرجع ويقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا[4].
ويؤخذ من هذا المعنى: أن كل اكتساب عن طريق عمل قد وظف به على سبيل الإجارة فإنه لا يحق له أخذه، يعني: هذا أجير عند الدولة هذا يعمل في وظيفة في مهنة من المِهن في عمل من الأعمال قد يكون من الأعمال أو الوظائف الحيوية التي يحتاج إليها الناس؛ هذا إن أخذ شيئًا مُباشرًا أخذ مالاً أو نحو ذلك فهذه تدور بين الغلول والرشوة، يعني: إن سلمت من كونها رشوة فهي غلول، وخذ هذا على جميع ألوان الأعمال والمِهن والوظائف والمزاولات، على سبيل المثال السؤال الذي دائمًا يتكرر من قِبل المعلمين والمعلمات التلاميذ يعطونه فهذه قد تكون رشوة، قد يقول هؤلاء تخرجوا وأخذوا النتائج ولن أُدرسهم ذهبوا، نقول: إذن هي غلول؛ لأنك إنما توصلت إلى هذا من خلال هذه الوظيفة، نحن نسأل هؤلاء لو كنت في بيتك ولم تعمل هذا العمل أصلاً هل سيأتيك هؤلاء بهذه الهدية؟
الجواب: لا، الطبيب قد يُجري عملية وتكون هذه العملية ناجحة ثم يأتيه المريض أو ذووه فيعطونه هدية قليلة أو كبيرة فخمة أو نحو هذا من باب رد الجميل في نظرهم، نعم هو يُشكر ويُدعى له، ونحو ذلك لكن لا يحق له أن يأخذ؛ لأنه يقوم بهذا العمل ويتقاضى عليه أجرًا فلا يحق له أن يكون هذا العمل سببًا لمكاسب أخرى غير الأجرة التي يتقاضاها، قد يأخذ من شركات الأدوية أجهزة ثمينة، وقد يأخذ كميات من الأدوية يعطونه إياها يقولون: تبيع هذه الأدوية وتتصرف فيها بطريقتك أنت، لو كان في بيته هل سيعطونه هذا الجهاز، أو يدعونه إلى وليمة وحفل كبير في فندق على عشاء أو نحو هذا ثم يوزعون عليه هذه الهدايا حقائب مثلاً من الأجهزة المحمولة والحواسيب أو غير ذلك.
أجهزة طبية لربما تكون غالية الثمن فيعطونه على سبيل الإهداء، لو كان في بيته هل سيعطونه؟
الجواب: لا، وإنما أعطوه؛ لأنه في هذا الموقع فتأتيه الهدايا، وهكذا، فهذا كله إن لم يكن رشوة، هم لماذا يعطونه؟ يريدونه أن يسوق هذا المنتج فهذه رشوة يعطونه هذه الكمية من الأدوية هذا النوع من العقاقير الجديدة مثلاً يسوقون لها فيريدون منه أن يقوم بهذا الدور، يوجد في كل عمل وكل مهنة وكل وظيفة بعض من تضعف نفسه فلربما يكتب للمريض أنواعًا من الأدوية المُتشابهة ذات المفعول الواحد؛ لأن هؤلاء أعطوه، وهؤلاء أعطوه، وهذا لا يحل لا يجوز بحال من الأحوال، ولذلك أقول: كل ما يتقاضاه الإنسان يدور بين الرشوة أو ما يتقاضاه أصحاب الوظائف والأعمال الذين يتقاضون عليها أجرًا فيأخذون من الناس أشياء أخرى هذا لا يجوز، يُسد هذا الباب تمامًا ولا يقبل منهم هدية، الذي عنده شيء يذهب إلى الإدارة إدارة المدرسة، أو إلى إدارة الشركة، أو إلى إدارة المستشفى، أو غير ذلك ويعطيهم ذلك للموظفين أو للعاملين أو نحو ذلك فهذا شأنهم، أما أن يكون العلاقة مُباشرة مع هؤلاء فيكون ذلك فيه ما فيه من إفساد الذِمم، في النهاية الذي يُعطي هو الذي يجد الاهتمام والحظوة، والذي لا يعطي؛ تأتي الأسبوع القادم والأسبوع الذي بعده والأسبوع يليه، وهكذا، فيبقى في حال من التردد والتضييع.
وكذلك أيضًا: وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قد تكون هذه بطُرق أخرى، قد تكون منافع مصالح قد يعمل هذا في وظيفة حيوية ثم بعد ذلك تأتيه مصالح البطاقات، كل واحد يعطيه هذا الكرت ويقول له: أي حاجة؟ أي خدمة؟! أنا أعمل بالمكان الفلاني، وهذا يقول: أنا أعمل بالمكان الفلاني، وهذا يقول: ماذا تريد من الحجوزات بالطيران أو نحو ذلك، أنا أوفر لك ما تريد، وهذا يقول: ماذا تريد في الجهة الفلانية أنا أُحقق لك ما تريد، ويكون هذه المصالح والعلاقات ويُخدم فهذه الخدمات وإن لم تكن أموالاً يتقاضاها فهي داخلة في هذا، هو يعمل يؤدي واجبه فلماذا يتقاضى على ذلك على غير أجره، أجرته يتقاضى من الناس، ويتخذ هذه الوظيفة سبيلاً إلى أخذ ما بأيدي الناس وتحقيق مصالح ذاتيه شخصية لا يمكن أن تتحقق له إذا كان في بيته، يعني: هو في هذا الموقع الناس يأتون إليه هذا يُقدمه، وهذا يُكرمه، وهذا يدعوه، وهذا يهنئه، وإذا تقاعد لربما لا يجد من يقول له في النهاية: كل عام وأنت بخير إذا جاء العيد؛ لأن هذا الإنسان ما عاد يُمثل طمعًا في نظر هؤلاء الماديين الذين إنما يتحركون بمصالحهم، أما أهل الخير والصلاح والإيمان من كانت أمورهم لله فهم لا يفترق عندهم الأمر كون هذا الإنسان في هذا العمل أو ذاك أو كان فقيرًا مدفوعًا بالأبواب، فهنا حقوق أهل الإيمان، وما أشبه ذلك.
وقل مثل هذا أيضًا في لربما مزاولات أخرى بعض الناس قد يأتي بمفتاح سيارة ويقول: هذه ليست لك، يعطيها هذا المسؤول سيارة فخمة، أحيانًا من أحسن السيارات أو أقل السيارات، ويقول: هذه ليست لك، شوف النزاهة الآن هذه لابنك؛ لأنه تخرج من الثالث متوسط، -ما شاء الله تبارك الله- سيارة مرسيديس أحدث الأنواع ويعطيه المفاتيح ويقول: هذه هدية لابنك فقط؛ لأنه قد تخرج من الثالثة متوسطة، هي ليست لك حتى لا يكون في هذا حرج، ولو كان جالسًا في بيته هل سيُعطي ابنه لُعبة وليست سيارة حقيقية لُعبة بخمسين ريال، هو لن يُعطيه، لكن يُعطيه سيارة بثلاثمائة وخمسين ألف من أجل أن هناك مصالح في الطريق ستعبر عن طريق هذا الإنسان الذي قد أُلجم بهذه الهدية، وإن شئت أن تقول: الرشوة، وإن شئت أن تقول: الغلول.
إذًا الغلول لا يختص ولا يقتصر على ذلك المال الذي يؤخذ من الغنيمة قبل أن تُقسم فحسب، وإنما قد يكون أرضًا من الأملاك العامة، وقد يكون زرعًا وقد يكون نقودًا، وقد يكون مصالح ومنافع، وقد يكون آلات وأجهزة، وقد يكون من قبيل الأثاث، وقد يكون من المراكب سيارة، وقد يكون من قبيل الزينة واللباس ساعة ثمينة أو خاتمًا أو نحو ذلك، كل هذا من الغلول ولا يلتبس عليكم أمر الرشوة بالغلول؛ لأن الكثيرين يسألون عن هذا يقول هذا الطالب تخرج لم يعد هناك، نقول: نعم تخرج لكن أنت لا يحق لك أن تكتسب هذه لأنك موظف تتقاضى على هذا أجرًا، فبأي حق تأخذها، وإذا أخذت من قبل فأعدها للطالب، لا أعرفه ذهب، أعطها إدارة المدرسة تقول لهم: هذه لا تحل لي يتصرفون فيها يعلقونها في جدار المدرسة، يضعونها في غرفة المعلمين في غرفة الإدارة يضعونها حيث شاءوا المهم أن تتخلص منها، فلا يبقى في حوزتك شيء من هذا؛ لأن من يغلل يأتي بما غل يوم القيامة وسيأتي بها قلت أو كثُرت، فهي قطعة من النار.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياك هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب هدايا العمال، برقم (7174)، وبرقم (7197)، كتاب الأحكام، باب محاسبة الإمام عماله، ومسلم، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، برقم (1832).
- أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب إثم من ظلم شيئا من الأرض، برقم (2453)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، برقم (1612).
- بدائع الفوائد (1/100).
- أخرجه البخاري، كتاب الحيل، باب احتيال العامل ليهدى له، برقم (6979)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، برقم (1832).