الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[5] من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ} الآية 28 إلى قوله تعالى: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} الآية 50.
تاريخ النشر: ٠٥ / ذو القعدة / ١٤٢٨
التحميل: 2566
مرات الإستماع: 2390

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي خَالِقٌ بَشَراً مّن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ ۝ فَإِذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ۝ فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ ۝ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ أَن يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ ۝ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ۝ قَالَ لَمْ أَكُن لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ [سورة الحجر:28-33].

يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكته قبل خلقه له، وتشريفه إياه بأمر الملائكة بالسجود له، ويذكر تخلف إبليس عدوه عن السجود له من بين سائر الملائكة؛ حسداً وكفراً وعناداً واستكباراً وافتخاراً بالباطل؛ ولهذا قال: لَمْ أَكُن لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ، كقوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [سورة الأعراف:12]، وقوله: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [سورة الإسراء:62] الآية.

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنّكَ رَجِيمٌ ۝ وَإِنّ عَلَيْكَ اللّعْنَةَ إِلَىَ يَوْمِ الدّينِ ۝ قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِي إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۝ قَالَ فَإِنّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ۝ إِلَىَ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [سورة الحجر:34-38].

يذكر تعالى أنه أمر إِبليس أمراً كونياً لا يخالف ولا يمانع بالخروج من المنزلة التي كان فيها من الملأ الأعلى، وأنه رجيم: أي مرجوم، وأنه قد أتبعه لعنة لا تزال متصلة به لاحقة له متواترة عليه إلى يوم القيامة، وعن سعيد بن جبير أنه قال: لما لعن الله إِبليس، تغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورن رنة، فكل رنة في الدنيا إلى يوم القيامة منها، رواه ابن أبي حاتم[1].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي خَالِقٌ بَشَراً مّن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ ۝ فَإِذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ، فهذه الآية دلت على أن الله -تبارك وتعالى- أمرهم بالسجود لآدم قبل أن يخلقه، حينما أخبرهم بخلقه، وقال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا [سورة البقرة:30]، فأخبرهم عن خلقه، ثم بعد ذلك بعدما خلقه قال: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ [سورة البقرة:34]، هذا ظاهره أنه بعد خلقه؛ لأن الله قال: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ [سورة البقرة:31]، فبين لهم فضله ثم أمرهم بالسجود له، وفي هذه الآية فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ

ويمكن أن يكون -والله تعالى أعلم- أن الله أعلمهم بخلقه، وأمرهم بالسجود له إذا خلقه، ثم بعد أن خلقه وبيّن فضله عليهم، وعلمه أسماء الأشياء، أمرهم بالسجود له، ولا منافاة، ثم إن قوله -تبارك وتعالى: فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ ۝ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ أَن يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ فإذا قيل: إن إبليس من الملائكة فالاستثناء متصل، فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ ۝ إِلاّ إِبْلِيسَ أبى أن يسجد، ومعلوم أن الملائكة لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم:6]، فالذين قالوا: إنه من الملائكة، قالوا: إن الله -تبارك وتعالى- قد كتب عليه الشقاء؛ وذلك لحكمة عظيمة وهي تحقق الابتلاء في هذه الحياة الدنيا، والصراع بين الحق والباطل والخير والشر.

وقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف:50] تدل على أنه ليس من الملائكة، وقوله: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي: خرج عن أمر ربه، والذين يقولون: إنه من الملائكة مختلفون في توجيه قوله: كَانَ مِنَ الْجِنِّ فيقول بعضهم: يوجد صنف من الملائكة يقال لهم: الجن، وبعضهم يأخذ المعنى العام لكلمة الجن، من الاجتنان، فتقول: المِجَنّ؛ لأنه يستر المقاتل من ضرب السيوف ورمي النبال وما أشبه ذلك، والجنين لأنه مختفٍ، والجَنّة؛ لأنها تستر من دخلها، لكثرة أشجارها، ونحو ذلك، وهذا كله لا يخلو من تكلف.

والذين قالوا: إنه من الملائكة ليس لهم مستند إلا مثل هذا الاستثناء، ويمكن أن يكون هذا الاستثناء من قبيل المنقطع، بمعنى ”لكن“، أي: سجد الملائكة لكن إبليس لم يسجد، ولم يكن منهم أصلاً، لكنه كان في الملأ الأعلى، وأما ما نقله عن سعيد بن جبير -رحمه الله- من أنه لما لعن تغيرت صورته عن الملائكة، فهذا باعتبار أنه من الملائكة، ثم إن مثل هذا يحتاج إلى دليل؛ لأن هذا إما أن يكون من قبيل المأخوذ عن بني إسرائيل، ولا عبرة به، وإما أن يكون مما تُلقي عن رسول الله ﷺ؛ لأنه لا يقال من جهة الرأي، ومثل هذا يكون من قبيل المرسل.

وقوله: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، رجيم على وزن فعيل، وفعيل يأتي بمعنى فاعل، ويأتي بمعنى مفعول، فرجيم يحتمل أن يكون بمعنى فاعل أي راجم؛ لأنه يرجم الناس بالوساوس والخواطر السيئة، والمعنى الثاني -وهو المشهور المتبادر وهو المناسب للسياق- أن فعيل بمعنى مفعول أي مرجوم، كما أنك إذا قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يعني المرجوم فهو يُرجم بالسب واللعن وما إلى ذلك.

وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، بعض أهل العلم يقول: إن عليه اللعنة إلى يوم القيامة، وما بعد يوم القيامة، أو إذا جاء يوم القيامة فإنه ينتظره العذاب الذي هو أعظم وأشد من اللعن، لكن إذا كان اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله  فإن هذا مستمر إلى يوم القيامة، فهو أبعد ما يكون عن رحمة الله، ولهذا فإن من معاني كلمة ”الشيطان“: المُبعَد، من شَطَنَ إذا بعُد، أي أنه بعيد عن رحمة ربه -تبارك وتعالى، وبعيد عن الخير، فهذه اللعنة إلى يوم القيامة، وفي الآخرة يكون ملعوناً، والعرب تعبر بمثل هذا يقال مثلاً: هذا إلى يوم القيامة، أو: إلى يوم البعث، أو نحو ذلك، ويقصد به التأبيد، أي: أن هذا لا يكون، أو أنه لا يفعل ذلك أبداً، فالعرب قد تجعل الغاية إلى محدد كهذا وهي تقصد التأبيد.

قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ۝ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيّ مُسْتَقِيمٌ ۝ إِنّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاّ مَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ۝ وَإِنّ جَهَنّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْءٌ مّقْسُومٌ [سورة الحجر:39-44].

يقول تعالى مخبراً عن إِبليس وتمرده وعتوه أنه قال للرب: بِمَآ أَغْوَيْتَنِي أي: بسبب ما أغويتني وأضللتني، لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ أي: لذرية آدم ، فِي الْأَرْضِ أي: أحبب إليهم المعاصي وأرغبهم فيها وأؤزهم إليها، وأزعجهم إليها إزعاجاً، وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أي: كما أغويتني وقدرت عليّ ذلك، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ كقوله: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً، قال الله تعالى له متهدداً ومتوعداً: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي: مرجعكم كلكم إليّ، فأجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

قوله: إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ بفتح اللام الْمُخْلَصِينَ يعني الذين خلصهم الله ، وكتب لهم الهداية، وهذه القراءة الْمُخْلَصِينَ هي قراءة أهل المدينة وأهل الكوفة، وقرأه الباقون بالكسر، بكسر اللام إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلِصِينَ، إذا كان لكل قراءة معنىً يخصها فهما بمنزلة الآيتين، فدلت القراءة الأولى على أنه لا يتخلص من كيد إبليس إلا من نجاه الله وخلصه واصطفاه للهدى والإيمان.

ودلت القراءة الثانية على أنه لا يتخلص من كيد إبليس إلا أهل الإخلاص، فقوله: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ أي: ولكن من اتبعه من الغاوين فإن سلطانه يكون عليهم، ولذلك يقال: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ، إذا قيل بأن المقصود في العباد الإضافة، يعني كل العباد إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ، فيكون الاستثناء متصلاً، استثنى من هؤلاء الخلق من اتبعه من الغواة، وإذا قيل بأن الإضافة إضافة تشريف وأن المقصود أهل الأيمان والتقوى والطاعة، إِنَّ عِبَادِي كما قال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [سورة الفرقان:63]، عبودية الاختيار، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ لكن مَنِ اتَّبَعَكَ، يكون الاستثناء منقطعاً، أي: فإن سلطانك يكون واقعاً عليهم، كما قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ [سورة النحل:100].

والمقصود بالسلطان: أنه ليس له حجة عليهم في الإغواء، كما مضى في قوله -تبارك وتعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [سورة إبراهيم:22]، فيقول: أنا لم يكن لي حجة في هذا الإضلال الذي أضللتكم وإنما دعوتكم فاستجبتم، واتبعتم النفوس الأمارة بالسوء والهوى، والسلطان يأتي بمعنى الغلبة والقهر والتسلط، وهذا كله داخل في قوله -تبارك وتعالى: وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [سورة الإسراء:33]، فمن فسره بالحجة فإن تفسيره لا يخالف التفسير الآخر الذي هو التسلط والقهر، فإن السبيل إلى تسلط وليّ الدم على القاتل إنما هو حجته، وهو أنه صاحب حق، وهو ولي الدم، وهذا قُتل مظلوماً، وهذا قاتل، فيمكن أن يكون هذا، ويمكن أن يكون هذا.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول على قوله تعالى: قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ: ”أي مرجعكم كلكم إليَّ، فأجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر“، مرجعكم جميعاً إليَّ، فيحتمل أن يكون هذا من قبيل التهديد والوعيد، كأنه يقول: أينما تذهب أنت ومن اتبعك فطريقكم عليّ، بمعنى أنك ستعاقبه وتحاسبه بما فعل وما صدر منه، وبعضهم يفسر هذا هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي: هذا حق عليّ مراعاته، وهو أن عبادي الذين أخلصتهم ليس لك عليهم سلطان.

كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [سورة الفجر:14]، كقوله: وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [سورة النحل:9].

قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ من قبيل التهديد، يعني أن طريقكم عليّ فأعاقبكم وأحاسبكم وآخذكم، فأين تذهبون؟ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ، وقوله: وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي: بيان السبيل القاصد، والسبيل: هي الطريق، تذكر وتؤنث، والقصد صفة لها، فهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وعلى الله بيانها وإيضاحها، أو المعنى الثاني: وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي: أنها توصل إليه.

وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في تفسير قول الله تعالى: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ: ”قال الحسن: معناه صراط إليّ مستقيم، وهذا يحتمل أمرين: أن يكون أراد به أنه من باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض.

فقامت أداة “على” مقام “إلى”، والثاني: أنه أراد التفسير على المعنى، وهو الأشبه بطريق السلف، أي صراط موصل إليّ، وقال مجاهد: الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا يعرج على شيء، وهذا مثل قول الحسن وأبين منه وهو من أصح ما قيل في الآية، وقيل: عَلَيَّ فيه: للوجوب أي: عليَّ بيانه وتعريفه والدلالة عليه، والقولان نظير القولين في آية النحل وهي: وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ والصحيح فيها كالصحيح في آية الحجر أن السبيل القاصد -وهو المستقيم المعتدل- يرجع إلى الله ويوصل إليه، قال طفيل الغنوي:

مضَوْا سلفاً قصد السبيل عليهمُ وصرفُ المنايا بالرجال تشقلب

أي: ممرنا عليهم وإليهم وصولنا، وقال الآخر:

فهنّ المنايا أي واد سلكته عليها طريقي أو عليّ طريقها

فإن قيل: لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة “إلى” التي هي للانتهاء لا أداة “على” التي هي للوجوب، ألا ترى أنه لما أراد الوصول قال: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ۝ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [سورة الغاشية:25، 26]، وقال: إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ [سورة لقمان:23]، وقال: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [سورة القيامة:17]، وقال: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [سورة هود: 6] ونظائر ذلك.

قيل: في أداة “على” سر لطيف وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط على هدى، وهو حق، كما قال في حق المؤمنين: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ [سورة البقرة:5] وقال لرسوله ﷺ: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [سورة النمل:79]، والله هو الحق، وصراطه حق، ودينه حق، فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى، فكان في أداة “على” على هذا المعنى ما ليس في أداة “إلى” فتأمله فإنه سر بديع“[2].

بمعنى أن ”على“ تدل على الظهور والاستعلاء، فمن سلك الصراط المستقيم فهو مستعلٍ بسلوكه، ولهذا جاء التعبير بعلى في بعض المواضع في كتاب الله  فيما يتعلق بسلوك الصراط، فالآية تدور على هذين المعنيين، ويبقى التعليل إذا قيل بأن المقصود من قوله: قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي: ”إليّ“ لماذا عبر بـ”على“؟ فيكون هذا من النكات البلاغية فقط، وإلا فيكون أصل المعنى: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي: أنه بمعنى ”إليّ“، والمعنى الثاني: صراط عليّ بيانه وإيضاحه.

وقال -رحمه الله: ”فإن قلت: فما الفائدة في ذكر “على” في ذلك أيضاً، وكيف يكون مستعلياً على الحق وعلى الهدى؟

قلت: لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى مع ثباته عليه واستقامته إليه، فكان في الإتيان بأداة “على” ما يدل على علوه وثبوته واستقامته، وهذا بخلاف الضلال والريب فإنه يؤتى فيه بأداة “في” الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدسسه فيه كقوله تعالى: فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [سورة التوبة:45]، وقوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ [سورة الأنعام:39]، وقوله: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [سورة المؤمنون:54] وقوله: وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ [سورة هود:110].

وتأمل قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سورة سبأ:24]، فإن طريق الحق تأخذ علواً صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير، وطريق الضلال تأخذ سفلاً هاوية بسالكها في أسفل سافلين.

وفي قوله تعالى: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ قول ثالث وهو قول الكسائي: إنه على التهديد والوعيد نظير قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ كما يقال: طريقك عليّ وممرك عليّ، لمن تريد إعلامه بأنه غير فائت لك ولا معجز، والسياق يأبى هذا ولا يناسبه لمن تأمله، فإنه قاله مجيباً لإبليس الذي قال: لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فإنه لا سبيل لي إلى إغوائهم ولا طريق لي عليهم، فقرر الله  ذلك أتم التقرير وأخبر أن الإخلاص صراط عليه مستقيم، فلا سلطان لك على عبادي الذين هم على هذا الصراط؛ لأنه صراط عليّ، ولا سبيل لإبليس إلى هذا الصراط ولا الحَوْم حول ساحته، فإنه محروس محفوظ بالله فلا يصل عدو الله إلى أهله.

فليتأمل العارف هذا الموضع حق التأمل ولينظر إلى هذا المعنى ويوازن بينه وبين القولين الآخرين أيهما أليق بالآيتين وأقرب إلى مقصود القرآن وأقوال السلف.

وأما تشبيه الكسائي له بقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ فلا يخفى الفرق بينهما سياقاً ودلالةً فتأمله، ولا يقال في التهديد: هذا طريق مستقيم عليّ لمن لا يسلكه، وليست سبيل المهدد مستقيمة، فهو غير مهدد بصراط الله المستقيم، وسبيله التي هو عليها ليست مستقيمة على الله، فلا يستقيم هذا القول ألبته“[3].

فقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ من قبيل الوعيد، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ بالرصد، والرصد إنما يكون في الأصل على الطريق، فهو يقول: طريقكم عليّ، فأين تذهبون؟ وأين تفرون؟ هذا مرادهم بهذا القول، وإلا فهم لا شك أنهم غير سالكين للصراط، وللتعبير في مثل هذا الموضع بقوله: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ نظائره في القرآن، وإذا ذكر الصراط في القرآن، الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]، فهو الطريق الذي يسلكه أولياؤه، وهو الطريق الذي رسمه الله لعباده؛ ولهذا أضافه إلى نفسه فقال: صِرَاطِ اللَّهِ [سورة الشورى:53] يعني: هو الذي رسمها وشرَّعها وأمر بسلوكها، وأضافها إلى أهل الإيمان قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ [سورة الفاتحة:7]، باعتبار أنهم هم السالكون، الشيء يضاف تارة إلى سالكه، وتارة إلى من يملك ذلك، كما قال الله : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [سورة الأحزاب:33]، مع أن البيوت للنبي ﷺ، وقال: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ [سورة الطلاق:1]، أضاف البيوت إليهن مع أنها للزوج، باعتبار أن الزوجة هي المنتفعة بها، هي الساكنة لها فأضافها إليها.

وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله: ”وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية يقول: وهما نظير قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ۝ وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى [سورة الليل:12، 13]، قال: فهذه مواضع في القرآن في هذا المعنى.

قلت: وأكثر المفسرين لم يذكر في سورة وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [سورة الليل:1] إلا معنى الوجوب، أي علينا بيان الهدى من الضلال، ومنهم من لم يذكر في سورة النحل إلا هذا المعنى كالبغوي، وذكر في “الحجر” الأقوال الثلاثة، وذكر الواحدي في بسيطه المعنيين في سورة النحل، واختار شيخنا قول مجاهد والحسن في السور الثلاث“[4]أ.هـ.

كما قال الله : إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [سورة الإنسان:3]، أي: سبيل الحق والهدى والرشاد والصراط المستقيم، إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا.

وقوله: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [سورة الحجر:42] أي: الذين قدرتُ لهم الهداية فلا سبيل لك عليهم ولا وصول لك إليهم، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ استثناء منقطع، وقد أورد ابن جرير ههنا عن يزيد بن قسيط قال: كانت الأنبياء يكون لهم مساجد خارجةً من قراهم، فإذا أراد النبي أن يستنبىء ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله له، ثم سأله ما بدا له، فبينا نبي في مسجده إِذ جاء عدو الله ـ يعني إِبليس ـ حتى جلس بينه وبين القبلة، فقال النبي:”أعوذ بالله من الشيطان الرجيم“ فقال عدو الله: أرأيت الذي تَعَوّذ منه؟ فهو هو، فقال النبي: ”أعوذ بالله من الشيطان الرجيم“، قال: فردد ذلك ثلاث مرات، فقال عدو الله: أخبرني بأي شيء تنجو مني؟

قوله: ”أرأيت هذا الذي تتعوذ منه؟ فهو هو“، عبر بضمير الغائب تأدباً؛ حتى لا يضيف القارئ هذا إلى نفسه، أو الناقل أو الراوي، تأدباً قال: ”فهو هو“، كما في قصة أبي طالب لما دعاه النبي ﷺ إلى الإيمان، قال: «هو على ملة عبد المطلب»[5]، والأصل أنه قاله بضمير المتكلم، لكن لا يحسن بالإنسان أن ينسب إلى نفسه شيئاً قبيحاً مثل هذا، فكانوا يتنزهون ويتأدبون في العبارة، يقول له: إن الذي تستعيذ منه حاضر عندك، قد حضر، يعني الشيطان، ولكن مثل هذه الرواية في الغالب مأخوذة عن بني إسرائيل.

فقال عدو الله: أخبرني بأي شيء تنجو مني؟ فقال النبي: بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم؟ مرتين، فأخذ كل واحد منهما على صاحبه، فقال النبي: إن الله تعالى يقول: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ، قال عدو الله: قد سمعت هذا قبل أن تولد. قال النبي: ويقول الله: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة الأعراف:200]، وإني والله ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله منك. قال عدو الله: صدقت، بهذا تنجو مني، فقال النبي: أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم؟ قال آخذه عند الغضب والهوى.

يعني الإنسان يقع في المعصية ثم يدرك أن ذلك من الشيطان، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ۝ وَإِخْوَانُهُمْ [سورة الأعراف:201، 202] يعني إخوان الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ، يَمُدُّونَهُمْ أي: أن الشياطين تمدهم في الغي فيزدادون غياً وضلالاً وإعراضاً عن الله ، والمؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين، ومع ذلك إبليس يوقعه مرة بعد مرة بعد مرة في معصية الله -تبارك وتعالى، ويقولون: إن إبليس جاء إلى آدم -عليه الصلاة والسلام- حينما حملت حواء، وقبل ذلك جاءه وأخرجه من الجنة، وحينما حملت حواء جاءه كما في قوله: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة الأعراف:190]، ذهب كثير من السلف من الصحابة فمن بعدهم في تفسير الآية إلى أن ذلك في تسمية الولد، ولد آدم، قال: سمياه عبد الحارث، ولكن مثل هذا لا يثبت، ولا يعول عليه ولا يظن هذا بأهل الإيمان فضلاً عن نبي كريم وهو آدم ﷺ، فمثل هذا هو من قبيل الإسرائيليات، لو قيل: إن ذلك يمكن أن يكون قد أخذ عن رسول الله ﷺ، فيكون من قبيل المرسل وهو من أنواع الضعيف.

قوله: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ أي: جهنم موعد جميع من اتبع إِبليس، كما قال عن القرآن: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ أي: قد كُتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه -أجارنا الله منها- وكل يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بقدر عمله، ومنازلهم بأعمالهم، فذلك قوله: لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ.

بعض أهل العلم يفسر ذلك باعتبار الطبقات، أن كل طبقة لطائفة، أعلى طبقة من النار هي للعصاة من المؤمنين، من الموحدين، وهذه هي التي قالوا بأنهم يخرجون منها، وهي تفنى عند بعض من فسر بعض النصوص الواردة في هذا المعنى، قالوا: طبقة أهل الإيمان، وهناك طبقات أخرى، طبقة لليهود، وطبقة للنصارى، وطبقة للمجوس، وطبقة للمشركين، وآخر طبقة للمنافقين، ولها سبعة أبواب، كل باب لطبقة من هذه الطبقات، هذا قاله طوائف من السلف فمن بعدهم، ومثل هذا لا يجزم به؛ لأن المقصود قد يكون غير ذلك، والعلم عند الله .

إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ ۝ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَىَ سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ ۝ لاَ يَمَسّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ۝ نَبّئْ عِبَادِي أَنّي أَنَا الْغَفُورُ الرّحِيمُ ۝ وَأَنّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ [سورة الحجر:45-50].

لما ذكر تعالى حال أهل النار عطف على ذكر أهل الجنة وأنهم في جنات وعيون. وقوله: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ أي: سالمين من الآفات، مسَّلم عليكم.

الحافظ -رحمه الله- عادته الجمع بين المعاني التي قالها السلف، فالسلف فسروا قوله: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ: بعضهم قال: ادخلوها حال كونكم مسلَّماً عليكم، الذي يسلم عليهم الله تبارك وتعالى لقوله: سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ [سورة يــس:58]، وتسلم عليهم أيضاً الملائكة، لقوله تعالى: وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ۝ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [سورة الرعد:23-24]، وكذلك يحيي بعضهم بعضاً بالسلام.

والمعنى الثاني: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ قال: أي سالمين من الآفات، وهذا معنى من معاني السلام، السلامة من الآفات، والعيوب، والنقائص، ولهذا من أسماء الله السلام، الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ [سورة الحشر:23] أي: السالم من كل عيب وآفة ونقص، فإذا ألقيت على أحد السلام قلت: السلام عليك، فهذا السلام اسم من أسماء الله ، وفيه تأمين لهذا المسلَّم عليه، فهو بمعنى الأمن، أنه لا يصل إليه مكروه من قبلك، وفيه أيضاً دعاء له بالسلامة، كل هذه المعاني داخلة في قولك: السلام عليكم، فقوله: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ أي: سالمين من الآفات مسلَّم عليكم، جمع فيها بين القولين، وهذه مزية لمثل هذا الكتاب، وللكتب التي تحرر فيها العبارة ويجمع فيها بين أقوال السلف .

آمِنِينَ أي: من كل خوف وفزع، ولا تخشوا من إخراج ولا انقطاع ولا فناء.

قوله: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ، الأمن يكون بمعنى أنه لا تنتابهم فيها المخاوف، ولا يحصل لهم فزع كما يفزع غيرهم، فأهل النار يعيشون في فزع دائم وخوف لا ينقطع، وفي أهوال وأوجال لا طاقة لهم بها، ومن المعاني الداخلة في قوله: آمِنِينَ معني أنهم يأمنون فيها من الموت، ومن الإخراج، والإنسان إذا كان في مكان يتنعم ويلتذ فيه، فإنه يتنغص إذا علم أنه سيفارقه، وينتقل عنه، أو أن الموت سيهجم عليه، أو إذا كانت تنتابه المخاوف فتتعطل لذاته، وتتلاشى وتنقشع.

ولذلك الإنسان إذا كان في خوف شديد، أو في غم وهم، أو حزن شديد فإنه لا يجد لذة للطعام الذي يأكله، ولا يستطيع مضغه، وهكذا جميع اللذات، والدراسات التي تُنشر تَذكر في حال الناس الذين عندهم اكتئاب أن ذلك يكون سبباً لتعطل جوانب عندهم فيما يتعلق بحقوق الزوجات من المعاشرة مثلاً؛ لأنه لا يجد إقبالاً إطلاقاً على هذا، وهذا مشاهد من هؤلاء الذين يعانون من هذه المشكلات، أو يشعر بخوف، فالخائف لا يجد نفسه تقبل على شيء من لذاته، وإنما همه أن يؤمن نفسه، ثم بعد ذلك يتفرغ لما تطلبه هذه النفس من المطالب الأخرى، فذكر الأمن؛ لأن الإنسان إذا شعر أو تذكر بأنه سيفارق الحياة، أو كان خائفاً فإنه لا يتنعم.

هو الموت ليس كالموت شيء نغّص الموتُ ذا الغنى والفقير

فمهما كان الإنسان في لذة وحبور إذا تذكر أنه سيموت ويفارق كل ما يملك فإنه تتنغص عليه لذته ويتكدر عليه عيشه؛ ولهذا ذكر الله الأمن في نعيم الجنة، وذكر الخلود فيها، وذكر في بعض المواضع الإذن، فالشيء المأذون فيه غير الذي يأخذه الإنسان مسارقة، أو بغير رضا صاحبه؛ ولهذا ذكر الله الرضا في مواضع أخرى رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [سورة المائدة:119]، وهذا لا شك أنه كمال النعيم.

وقوله: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ، روى القاسم عن أبي أمامة قال: يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن، حتى إِذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل، ثم قرأ: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ، هكذا في هذه الرواية، والقاسم بن عبد الرحمن في روايته عن أبي أمامة ضعيف، ولكن هذا موافق لما في الصحيح من رواية قتادة: حدثنا أبو المتوكل الناجي أن أبا سعيد الخدري حدثهم أن رسول الله ﷺ قال: يَخْلصُ المؤمنون من النار، فيُحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إِذا هُذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة[6].

هذا هو المعتمد، وليس ذلك بموافق لما قبله من الأثر عن أبي أمامة -، على ضعف هذا الأثر، فذاك الأثر يقول: إنهم يحصل لهم التنقية بعد دخول الجنة، ولكن هذا الحديث الصحيح يدل على أنهم ينقون قبل دخولها، فالجنة لا يدخلها إلا طيب، هي دار طيبة لا يدخلها إلا الطيب من الناس، ولذلك فإن الله يمحص أهل الإيمان، والنبي ﷺ يقول: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر[7]، وليس معنى ذلك أنه يخلد في النار، وإنما المقصود أنه ينقى بالعذاب ويطهر حتى يذهب ذلك منه، فيدخل الجنة وهو سالم من هذه الآفات، فمن لم ينقّ بالإيمان والتزكية في الدنيا فإنه ينقى بكير النار يوم القيامة، إلا من لطف الله به ورحمه.

هذا الأمر الذي ذكره الله وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ هو مكمل للنعيم السابق، يكون لهم الأمن ويدخلونها بسلام، ولهم الخلود، والله يكتب عليهم رضوانه، مع ذهاب الغل؛ لأن وجود الغل منغص للنعيم، تجد الرجل في غاية المُتع، وفي محل البهجة، ويعيش في أفضل الأماكن، ولكن إذا كان قلبه يحمل الغل فإنه يعذب بهذا الغل، يتنغص عليه عيشه، وتتكدر عليه حياته ولذاته، فإذا تذكر من يحمل عليه الضغينة، فإن قلبه ينعصر، ويفارقه النوم، ويشعر بالأسى، فمن كمال النعيم أن لا يوجد في قلب الإنسان غل، فأهل الجنة ينقيهم الله من ذلك، فلا يكون فيها غل ولا حسد ولا شحناء.

ويؤخذ من هذا أن صاحب الغل يعذب به يوم القيامة، نسأل الله العافية، وهو عذاب في الدنيا قبل الآخرة، مع أن الذي يَحمل عليه هذا الغلَّ ربما يكون ساهياً لاهياً لا يضره هذا الغل شيئاً، بل قد لا يشعر به أصلاً، وإنما الذي يتعذب بالغل ويجد ألمه وحسراته هو صاحب الغل الذي يحمله في قلبه، فهو يتنقل معه حيث ذهب، ويكدر عليه عيشه، ويشوش عليه فكره، ولا يجد لذة للعبادة، نسأل الله العافية، والموفَّق من وفقه الله .

وحذف رواية سُنيد بهذا الاعتبار يكون خللاً في الاختصار، ورواية سُنيد عن أبي أمامة قال: ”لا يدخل مؤمن الجنة حتى ينزع الله ما في صدره من غل، حتى ينزع منه مثل السبع الضاري“، ولابد من الإشارة إلى الذي يوافق ما في الصحيح، وهي رواية سُنيد بن داود المصيصي، وليست رواية القاسم التي ذكرها ابن عبد الرحمن في روايته عن أبي أمامة.

وقوله: لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ يعني: المشقة والأذى، كما جاء في الصحيحين: أن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب[8]. وقوله: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ كما جاء في الحديث: يقال يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبداً، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبداً[9]. وقال الله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [سورة الكهف:108].

وقوله: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ أي: أخبر يا محمد عبادي أني ذو رحمة وذو عذاب أليم، وقد تقدم ذكر نظير هذه الآية الكريمة وهي دالة على مقامَي الرجاء والخوف.

هذه المواضع المذكورة في قوله: لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ، وفي الحديث إذا جُمعت فإنه يحصل منها كمال النعيم، بخلاف هذه الدنيا، ففيها المخاوف، وفيها النصب والتعب، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [سورة البلد:4]، يدخل إليها باكياً ويخرج منها مبكياً عليه، وفيها ألوان الشقاء والعناء، وما يقع في قلب الإنسان من الغل وأمور كثيرة تنغص عليه لذته وسروره، ثم بعد ذلك الموت يأتي ويأخذه، والله المستعان.

مسألة:

هل المقصود من قوله تعالى: وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [سورة إبراهيم:34]: كل ما يدعو به الإنسان يستجاب له؟

بعض أهل العلم فسر ”مِن“ هذه أنها تبعيضية، أي وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ شيئاً، وهذه الآية لا تدل على أن الإنسان يُعطى كل ما سأل، أو كل ما طلب، أو كل ما أراد، وإنما وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ الله يمتن على عباده فأعطاهم الله ما يحتاجون إليه لإقامة معايشهم وبقائهم في هذه الحياة، وامتن عليهم بأنواع النعم من المآكل والمشارب واللباس والأثاث والرياش، ونحو ذلك من ألوان النعم.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ [سورة هود:15] وقوله -تبارك وتعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ [سورة الإسراء:18]، والمراد به: يُفهم على ضوء الآيات الأخرى عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ فقيدها بقيدين، مع أنه أطلقها في آية هود، عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ فمن أراد الله إعطاءه أعطاه ما شاء من العطاء، وليس كل طالب لها يُعطى مطلوبه.

وقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [سورة الصافات:147] بعضهم يقول: إن ”أو“ بمعنى الواو أي ويزيدون، فهي حرف تأتي بمعنى العطف، ويمكن أن تأتي بمعنى الواو، وبعضهم يفسر ذلك بالإضراب، وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أي بل يزيدون، وهذا لا إشكال فيه، لكن إذا قيل: إن ”أو“ بمعنى الشك أَوْ يَزِيدُونَ فهذا يفسر بأن ذلك خرج بحسب نظر المخاطبين أَوْ يَزِيدُونَ بحيث إن الناظر إليهم يقول: إن هؤلاء مائة ألف أو أكثر، لكن الله لا يخفى عليه شيء، ولكن يأتي الخطاب مُراعىً فيه حال السامع، وكما ذكرنا في نظائره كقوله تعالى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طـه:44] مع أن الله يعلم أنه لن يتذكر ولن يخشى، إذا فسرت ”لعل“ بالترجي، فالله لا يترجى.

  1. انظر: تفسير ابن أبي حاتم (9/61).
  2. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/15-16).
  3. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/16-17).
  4. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/17-18).
  5. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله، برقم (1294)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أول الإيمان قول لا إله إلا الله، برقم (141).
  6. رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب القصاص يوم القيامة، برقم (6170).
  7. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، برقم (91).
  8. رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب تزويج النبي ﷺ خديجة وفضلها -ا، برقم (3609)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -، باب فضائل خديجة أم المؤمنين -ا، برقم (2432).
  9. رواه مسلم، بلفظ: ينادي منادٍ إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، فذلك قوله : وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:43]، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في دوام نعيم أهل الجنة، برقم (2837)، من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -ا.

مواد ذات صلة