بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
وَقِيلَ لِلّذِينَ اتّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الْدّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتّقِينَ جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتّقِينَ الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة النحل:30-32].
هذا خبر عن السعداء بخلاف ما أخبر به عن الأشقياء، فإن أولئك قيل لهم: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالوا معرضين عن الجواب: لم ينزل شيئاً إنما هذا أساطير الأولين، وهؤلاء قالوا: خيراً، أي أنزل خيراً، أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به، ثم أخبر عما وعد الله عباده فيما أنزله على رسله فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ الآية
كقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي: من أحسن عمله في الدنيا أحسن الله إليه عمله في الدنيا والآخرة، ثم أخبر بأن دار الآخرة خير أي: من الحياة الدنيا، والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا، كقوله: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ [سورة القصص:80] الآية.
وقال تعالى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ [سورة آل عمران:198]، وقال تعالى: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [سورة الأعلى:17]، وقال لرسوله ﷺ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى [سورة الضحى:4]، ثم وصف الدار الآخرة فقال: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَقِيلَ لِلّذِينَ اتّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الْدّنْيَا حَسَنَةٌ، قوله: لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الْدّنْيَا حَسَنَةٌ، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: ”ثم أخبر عما وعد الله عباده فيما أنزله على رسوله فقال: لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الْدّنْيَا حَسَنَةٌ“.
ومقتضى ذلك أن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يرى أن هذا الجزء من الآية من كلام الله ، وليس من كلام الذين اتقوا، وهذا كنظائره في القرآن، التي مر بعضها، كقول امرأة العزيز ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52] إلى غير هذا من الأمثلة، ويحتمل أن يكون من كلام الذين اتقوا قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ.
ويحتمل أن يكون من كلام الله -تبارك وتعالى، انتهى كلامهم عند قوله: خيرًا ثم حكم الله بين الفريقين فقال: لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الْدّنْيَا حَسَنَةٌ، وهي كقوله -تبارك وتعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [سورة النحل:97]، ولا يفهم من المقصود بالحسنة والحياة الطيبة أنه يعيش في ترف ورغد من العيش ينعم به بدنه، ولو كان هذا هو المقصود لكان أولى الناس به هو رسول الله ﷺ، ومعلوم أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ هذا هو الوصف، فِي هَذِهِ الْدّنْيَا حَسَنَةٌ هذا هو الحكم، حكم لهم بالحسنة، فعلى قدر إحسانهم على قدر ما يكون لهم من هذا الجزاء من هذه الحسنة التي ذكرها.
فلو كان هذا يقصد به نعيم الأبدان لكان أعظم الناس في هذا الباب هو رسول الله ﷺ، ومعلوم أنه كان ينام على الحصير -عليه الصلاة والسلام- حتى يؤثر في جنبه، وكان يمر الهلال والهلال والهلال وما يوقَد في بيته نار، وحياته ﷺ معروفة، وحياة أصحابه أيضًا كذلك، ما كانوا أهل ترف وتوسع في الملاذ، وهذه الحسنة التي وعد الله بها يدخل فيها النصر على الأعداء، وما حصل لهم من الفتوح، كما قال الله : لَنُبَوِّئَنَّهُمْ [سورة النحل:41] وعدهم بالمباءة الحسنة التي تكون بظهورهم على أعدائهم، وبتمكينهم في الأرض، ويحصل لهم من جراء ذلك من الولايات حتى صاروا أئمة يقتدى بهم، بعد أن كانوا لا يعبأ بهم، وليس لهم شأن، والعرب يقال لهم في الجاهلية: ذباب الصحراء، ثم بعد ذلك لما أحسنوا هذا الإحسان العظيم حصل لهم ما تعرفون.
أضف إلى ذلك -وهو أعظم- أن هذا الإحسان ليس على مستوى الأمة فحسب وإنما على مستوى الواحد المعيّن، فلا يكون تمكين للأمة إذا كان الصلاح صلاح أفراد، فتكون الحسنة بالنسبة لهؤلاء ما يحصل لهم من لذة الإيمان وانشراح الصدر والنعيم القلبي، إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، والله -تبارك وتعالى- أخبر عما يحصل للمؤمن من الانشراح، مما يقع في قلبه فيعيش في حياة كريمة، حياة طيبة، ويعيش غيره في أسر ذنوبه، فيقع في قلبه من الوحشة والظلمة وإن كان بدنه منعمًا.
فالنعيم هو نعيم القلب، والسرور والراحة واللذة هي لذة القلب، ولو أتيت بمن أسر قلبه وأظلم ووضعته في أعظم الملاذ في الدنيا فإن كآبته لا تزول إلا إن كانت كآبته بسبب عارض من ضيق عيش أو نحو ذلك، وإلا فظلمة القلب ووحشته لا تزول، لا بالاجتماع بالناس ولا بتنعيم البدن، فوحشتهم وآلامهم وهمومهم والظلمة التي في قلوبهم تتنقل معهم، وتحل حيث حلوا، فيفهم هذا على هذا المعنى، ولا يقال: من الناس من يكون تقيًا محسنًا ومع ذلك يكون فقيرًا، ليس هذا هو المراد بالحسنة، أضف إلى ذلك ما يكون لهم من الذكر الجميل، والله إذا أحب عبدًا، كما في الحديث: نادى جبريل إني إحب فلانًا[1] إلى آخره، فيوضع له القبول في الأرض، وبقي الذكر الجميل لأصحاب النبي ﷺ إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إذا ذكروا ترضى الناس عنهم، وبقيت محبة الأمة لهم، وهكذا لمن جاء بعدهم إلى يوم القيامة، كل من كان متصفًا بالإحسان على قدر إحسانه.
العدن هو الإقامة، عَدَنَ بالمكان أي أقام به، جنات إقامة.
وقوله -تبارك وتعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ، ويقول النبي ﷺ كما في حديث أنس : إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى عليها في الآخرة، وأما الكافر فطُعم بحسناته حتى إذا وافى يوم القيامة لم يكن له عند الله حسنة[3]، ومثل هذا الحديث يفسر المراد، والله يعطي المؤمن في الدنيا ويعطيه في الآخرة.
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ [سورة النحل:32] إنما يحصل هذا الاتصاف إذا كان الإنسان متحققًا بالإيمان والاستقامة على طاعة الله -تبارك وتعالى، ولهذا قال الله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وتبشرهم بالجنة.
وما قاله السلف في قوله: تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ قالوا: أي طاهرين من الشرك، وبعضهم قال: من الذنوب والمعاصي، وقيل بأن نفوسهم طيبة واثقة بوعد الله لهم، يعني لأهل الإيمان، وما إلى ذلك من الأقوال، والشرك نجاسة مغلظة لا تطهرها مياه البحار، وهؤلاء أهل الإيمان تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ أي: زاكية أفعالهم وأقوالهم، وذلك بالإيمان وخلوصهم من الشرك.
وقد قدمنا الأحاديث الواردة في قبض روح المؤمن وروح الكافر عند قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [سورة إبراهيم:27].
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [سورة النحل:33، 34].
يقول تعالى مهددًا للمشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا: هل ينتظر هؤلاء إلا الملائكة أن تأتيهم لقبض أرواحهم؟، قاله قتادة. أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ أي: يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال.
هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله: أن الملائكة تأتي لقبض الأرواح، أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ يعني يوم القيامة، ومن السلف من يقول: المقصود به العذاب المستأصل الذي يحصل لهم في الدنيا، والقول الأول الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- لعله هو الأقرب، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله.
فائدة:
معنى كون الله -تبارك وتعالى- يجزي عباده بأحسن ما كانوا يعملون:
من أهل العلم من قال: إن أحسن بمعنى حسن، وإن أفعل التفضيل المقصود به مطلق الاتصاف، وإنه قد يأتي مرادًا به مطلق الاتصاف، هذا معروف في كلام العرب، ومنه قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [سورة الليل:17] يعني: التقي، ومنه قول الشاعر:
تمنى رجالٌ أن أموت وإنْ أمت | فتلك سبيلٌ لستُ فيها بأوحد |
يعني بواحدِ، فيكون بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة النحل:96] يعني: بالأعمال الحسنة، والمعنى الثاني: أن الله يتفضل عليهم فيعاملهم في العطاء والجزاء والثواب بمعيار الأحسن، يعني هم قدموا أعمالًا متفاوتة، منها ما كان في غاية الإحسان، وهي أعمال عظيمة بحسب متعلقها مما قام بقلوبهم من الإخبات عند العمل بها مع المتابعة مع عظيم الإخلاص، يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [سورة المؤمنون:60]، وما إلى ذلك، فهذا في الدرجة العليا في الإحسان، وهناك أعمال دون ذلك، فتكون المعاملة لهم بالأحسن والأفضل والأكمل، فيَرفع لهم النقص ويَجبره، وهذا من معاني اسمه الجبّار، والله أعلم.
- رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده، برقم (2637)، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، قال: فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض.
- رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (21/642)، من طريق الحسن بن عرفة، قال: حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار، عن محمد بن سعد الأنصاري، عن أبي ظبية السلفي.
- رواه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا، برقم (2808).