بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزّىَ إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِيَ إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً [سورة مريم: 24-26].
قرأ بعضهم: مَن تَحْتِهَا، بمعنى الذي تحتها، وقرأ الآخرون: مِن تَحْتِهَا على أنه حرف جر، واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو؟ فقال العوفي وغيره عن ابن عباس -ا- فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها، وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وعمرو بن ميمون والسدي وقتادة: إنه الملك جبرائيل -عليه الصلاة والسلام، أي ناداها من أسفل الوادي.
وقال مجاهد: فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا قال: عيسى بن مريم، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال الحسن: هو ابنها، وهو إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير أنه ابنها، قال: أو لم تسمع الله يقول: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ واختاره ابن زيد وابن جرير في تفسيره.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: فَنَادَاهَا مَن تَحْتِهَا هذه القراءة بالفتح قرأ بها بعض السبعة وهم ابن كثير وأبو عمر وابن عامر وشعبة عن عاصم فَنَادَاهَا مَن تَحْتِهَا و"من" على هذا القراءة اسم موصول نادها الذي تحتها، وعلى القراءة الثانية فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا يكون "من" حرف جر، وهذا المنادي من تحتها يعني الذي تحتها أو نادها من تحتها هو جبريل، والحافظ ابن كثير –رحمه الله- ذكر القولين ثم نقل من طريق العوفي عن ابن عباس قال: فنادها من تحتها يعني جبريل، وهذا الطريق لا يصح، وإن قال به طائفة من أهل العلم، واختاره القرطبي فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا، فَنَادَاهَا مَن تَحْتِهَا.
فبأي اعتبار يكون جبريل ﷺ حيث يوصف بأنه تحتها، والقائلون بهذا القول قالوا: بأن مريم -رحمها الله- كانت على ربوة -مكان مرتفع- كما قال الله تبارك وتعالى: وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [سورة المؤمنون:50] يعني مريم وعيسى -عليه الصلاة والسلام، والربوة المكان المرتفع، فجبريل -عليه الصلاة والسلام- كان أسفل الربوة حينما ناداها، وكانت مريم على مكان مرتفع.
وبعضهم يقول: بأنه كان يلي الولد حينما ولدته كما تفعل القابلة بالوليد حديث الولادة، هذا على قول من قال بأنه جبريل، والذي عليه عامة المفسرين أن الذي نادها هو عيسى ﷺ، حينما ولدته والدليل على ذلك قاعدة توحيد مصدر الضمائر، وأنه أولى من تفريقها، فإذا نظرت إلى الضمير هنا يقول الله -تبارك وتعالى- قبل ذلك: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا [سورة مريم:21]، فعيسى ﷺ آية ورحمة للناس، ثم قال الله تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا، ثم بعد ذلك قال: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ...، إلى أن قال: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ [سورة مريم:27] وهو عيسى ﷺ ثم قال: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [سورة مريم: 29، 30]، هذا في عيسى -عليه الصلاة والسلام- فتوحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها.
ومن الحجج على أن المراد به -عيسى - قول سعيد بن جبير قال: "أو لم تسمع الله يقول: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ" والضمير في "إليه" عائد إلى عيسى وهذا الذي اختاره كثير من المفسرين من السلف فمن بعدهم، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وأبو حيان صاحب البحر المحيط، والشنقيطي من المعاصرين -والله تعالى أعلم.
ومن الممكن بأن يُرجَّح هذا القول بقضية أخرى وهي أنها أشارت بكل ثقة إليه يوم نذرت ألا تكلم أحداً من الإنس، فلما جاءت به إلى قومها وهي تحمله وسألوها عن هذا لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، وقالوا لها ما قالوا، أشارت إليه، والعادة أن مثل هذا لا يتكلم؛ ولهذا قالوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [سورة مريم:29]، فإن إشارتها إليه بكل ثقة تدل -والله تعالى أعلم- على أنها قد علمت ذلك قبل، وحصلت لها الثقة بكلامه، وجوابه لسؤالهم ومقالهم، فتكلم وحصل لها من التطمين فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا ألا تخافي، لا تحزني، لا تقلقي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً، والحزن يقال للشيء الذي يتخوف منه، وغالباً ما يطلق الحزن على الشيء الذي يتخوف منه في أمر الاغتمام من أمر فائت، والخوف هو الاغتمام من أمر مستقبل، وقد يطلق الحزن على الاغتمام من أمر مستقبل بمعنى الخوف، ولهذا أهل الجنة يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [سورة فاطر:34]، وكانوا في الدنيا سموا حزنا وهو إشفاق من المستقبل من الآخرة -والله تعالى أعلم.
فإذا كان الذي كلمها هو عيسى ﷺ فإنه يحصل من قرة العين بسبب ذلك؛ لأنها رأت آية فحصل لها الاطمئنان فلما كلموها أشارت إليه -والله تعالى أعلم.
قوله -تبارك وتعالى: قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً، السري في اللغة يطلق على الجدول أو النهر الصغير، كما أنه يطلق على السيد تقول فلان سري يعني سيد، وقال: قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً "قال سفيان وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: الجدول"، قول من قال الجدول أو النهر الصغير هذا بمعنى واحد فالجدول هو فرع من النهر أو مجرى من الماء صغير، وقول من قال بأنه هو النهر كأنه تجوز في العبارة، فهو نهر لكنه لم يذكر قيده، لم يقل نهر صغير، فهذا كله يرجع إلى شيء واحد، والقول الثاني: أنه النهر، هذا كله يرجع إلى شيء واحد.
فالسري على القول الأول هو نهر صغير جدول، وعلى القول الثاني هو السيد، وهذا القول بأنه هو السيد يعني المراد به عيسى ﷺ، سواء كان القائل جبريل -عليه الصلاة والسلام- أو كان القائل عيسى ﷺ يعني نفسه.
والذي عليه عامة المفسرين من السلف فمن بعدهم أن المراد به النهر الصغير الجدول، وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، والذي يدل على هذا قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً، إذا قلنا أنه الجدول أو مجرى الماء هنا قرينة تدل على هذا المعنى في الآية وهي أنه قال لها: فَكُلِي وَاشْرَبِي، فهناك ذكر أن المخاض جاءها إلى جذع النخلة، وقلنا معناها أنه ألجأها المخاض إلى جذع النخلة، وهنا قال لها: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا.
بعض أهل العلم ينقلون هذا من الإسرائيليات، يقولون: لم يكن هناك ممر ماء وإنما أجراه الله لها فكان ذلك كرامةً لها ولولدها، قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً، فذكر الأكل والشرب بعده قال: فَكُلِي وَاشْرَبِي لما أواها واضطرت إلى جذع النخلة لجأت إليه حينما أتاه المخاض صار عندها ما تأكله وما تشربه وهو هذا الماء، قال: فَكُلِي وَاشْرَبِي كلي من هذه النخلة واشربي من هذا الماء، فيكون هذه قرينة تدل على أن الأرجح من القولين هو أن المراد بالسري يعني الماء، جدول الماء، أو النهر الصغير، أو نحو ذلك، والعلم عند الله ، ولهذا قال الله تعالى: وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [سورة المؤمنون:50]، المعين هو الماء، وهذه الآية الثانية قد يفهم من ظاهرها أن الربوة التي جاءت إليها كان الماء موجوداً فيها؛ لأنه وصفها بـ "ذات قرار ومعين"، لا أنه نبع أو جرى بعد ما جاءت إليه والعلم عند الله ؛ لكن المقصود أن هذه الآية أيضاً مرجحة للقول بأن السري هو الماء -والله أعلم.
وكون هذا بالسريانية أو النبطية لا دليل عليه، والكلام في المعرب من أهل العلم من يقول ليست لغة العجم أولى من لغة العرب به كما يقول ابن جرير -رحمه الله، يقول: لماذا تقولون أنه أصله أعجمي لماذا لا نعكس القضية، والقرآن جاء بلسان عربي مبين، ويكون عربي والعجم هم الذين استعملوا هذه اللفظة، فكونه أعجمي هذه دعوى تحتاج إلى دليل، فيقول: لماذا لا نقول أصله عربي والأعاجم هم الذين أخذوه.
وبعض أهل العلم يقول: أصلاً مثل هذه الألفاظ هي مشتركة بين اللغات، فالعجم استعملوها والعرب استعملوها، وليس عندنا ما يدل على أن هؤلاء استعملوها أولاً، وأن العرب أخذوها أو العكس وإنما هي مشتركة بين اللغات، فلا يقال لها: أعجمية، هي من لغة العرب يتكلمون بها، ومن قال بأنها أعجمية يقول: بأن ذلك لا يؤثر، والمقصود المنكر، أما الأعلام فهي أعجمية لا إشكال فيها، كأسماء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- غير أربعة منهم، فلا إشكال في وقوع الاسم أعجمي؛ لأنه ينطق كما هو، لكن الكلام في التراكيب، فلا يوجد في القرآن تركيب واحد أعجمي إطلاقاً، وإنما الكلام في المنكر مثل سري، إستبرق، مشكاة ونحو هذا.
وكثير من هذه الألفاظ بعضهم يقول: سريانية، وبعضهم يقول: حبشية، وبعضهم يقول: هل في لغة حبشية فعلاً وسريانية بنفس الوقت وإذا كانت كذلك لماذا لا تكون عربية بعد؟
وسألت كثيراً الطلاب الأعاجم الجامعة الإسلامية عن هذه الأشياء حينما يقال: هذه حبشية، أسأل الأحباش هل تعرفون هذه اللغة؟ يقولون: لا نعرفها، وكذلك أسأل الذين يتكلمون بالفارسية هل عندكم هذه اللغة فيقولون: لا، ربما تكون باللغة القديمة التي ما عاد الناس يتكلمون بها، مثل العبرية، في عبرية قديمة وفي عبرية حديثه فتسأل الذي يعرف هذه اللغات فيقول لك: لا نعرف هذه -فالله تعالى أعلم.
ولا نطمئن كثيراً إلى ما يذكر من أن هذا سرياني أو نبطي -الله أعلم، لكن أصل المسألة هل إذا قيل يوجد ألفاظ أعجمية من هذا القبيل هل هذا يقدح في كون القرآن عربي؟ الجواب لا، فالعرب لما نزل القرآن بلغتهم تداولوا بعض الألفاظ واستعملوها كما يستعملون الألفاظ التي في لغتهم فصارت من لغتهم فنزل القرآن بلغة العرب بهذا الاعتبار، فهو بلسان عربي مبين، وجود بعض الألفاظ لا يؤثر في هذا الحكم، كما أن العرب تتصرف في الألفاظ التصرف اللائق بلغاتها، ولهذا لا ينطقون به كما ينطق الأعجمي فالعرب لا يلوون اللسان بالأعجمية، فينطقون بها محاكين للأعاجم تماماً، وإنما يتصرفون به، ولهذا يقولون عن هذه الألفاظ الأعجمية: أعجمي فلعب به، هذا لفظ أعجمي تصرف فيه بما يليق بلغة العرب.
فالشاهد أنه ليس عندنا دليل على هذه الألفاظ فعلاً أن هذه نبطية، وهذه سريانية أو هذه فارسية أو هذه كذا، فالله تعالى أعلم- لكن أصل المسألة هو هذا.
قوله: فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً، نكرة في سياق النفي، وهذا للعموم، فإذا كلمتهم وقالت: هذا جاء بمعجزة أو قالت لهم: كلموه، اسألوه فإنها تكون قد كلمت، لكن لقائل أن يقول: إنها نذرت ألا تلكم اليوم إنسيا، بمعنى الكلام الذي جرت به العادة، ولهذا الله -تبارك وتعالى- يقول في الآخرة عن الكفار أنه لا يكلمهم، ويقول لهم في النار: قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:108]، وقال لهم: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ [سورة المؤمنون:105]، فهذا تكليم، والجواب عن هذا معروف، ويمكن أن يقال: إنها نذرت أن لا تكلم الناس بالمعهود من الحوار والكلام والخطاب الذي كانت تكلمهم به قبل ذلك، وإنما اكتفت بقولها: كلموه، لكن هذا ضعيف، فأشارت إليه هذا صريح أنها لم تتكلم.
ويقول الله -تبارك وتعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فجذع النخلة جذع غليظ جاف خشن، ولهذا فرعون اختاره من بين سائر الجذوع فقال للسحرة: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه:71]، عبر بفي التي تدل على الظرفية كأنه لقوة ربطه يدخل الواحد منهم في وسط جذع، فإذا صلب الإنسان إلى جذع مثل هذا بما فيه من الكرب والخشونة فإن الإيلام سيكون شديدا عليه، فما قال: إنه يصلبهم على جذوع مثلاً الأشجار الفلانية أو نحو ذلك بل على جذوع النخل وهذا زيادة في النكاية.
فالشاهد أن هزي إليك ماذا عسى أن تفعل يد المرأة أو ساعد المرأة الضعيف -وهي في حال الولادة غاية ما تكون من الوهن - بجذع نخلة غليظ، ليست شجرة عادية لا تتحرك، فأقوى الرجال لو هز جذع نخل هل يتساقط عليه الربط؟ ما يتساقط فهذه آية أخرى، وتدل أيضاً على تعاطي الأسباب فإن الله -تبارك وتعالى- لو شاء لنزل عليها الرطب إذا أرادت من غير هز، ولو شاء الله -تبارك وتعالى- لأغناها عن الأكل والشرب، بحيث لا تحتاج لا إلى نخلة ولا إلى ماء، ولكن الله أجرى الأمور على أسباب في هذه الدنيا فكما قال بعضهم:
ألم ترى أن الله قال لمريم | وهزي إليك الجذع يساقط الرطب |
لو شاء أن تجنيه من غير هزه | جنته ولكن كل شيء له سبب |
هذه حركة بسيطة يحصل منها الرطب الجني، بعضهم يقول: هو حديث الاجتنى حديث الأخذ، فلان يجني الرطب، كأن يقال: طازج، والمعنى الثاني: جني يعني الصالح للقطف للأخذ للأكل، قد تهيأ ونضج، وبين المعنيين مقاربة، فإذا قيل الجني حديث الاجتنى طري، يعني فإن الذي يجتنى هو ما كان صالحاً للأكل، فحينما يجتنى فهو باقٍ على حاله وهيئته إذا كان حديث الاجتنى مهيأ وصالحاً للأكل -والله تعالى أعلم.
وقوله: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، قري عينا القُر هو البرد، ويقال: قرة عينه يعني بردت، فدموع الحزن ساخنة، ويقولون دموع الفرح باردة، فقرة العين بمعنى الرضا والفرح والسرور والبهجة، بخلاف ما إذا قلت: دعوت عليه بأن الله يُسخن عينه، أو تكون عينه ساخنة، فمعناه أنه يحزن، ولذلك يقال: أثلج صدره بكذا، يعني حينما يمتلأ القلب بالحبور والفرح والسرور ونحو ذلك يجد برده، أما المصيبة فيجد حرها.
وفي قوله: قال عمر بن ميمون: ما من شيء خير للنفساء من التمر الرطب ثم تلا هذه الآية، يعني استنباط لطيف مع أنها كانت في بلاد الشام، وابن القيم -رحمه الله- لما ذكر الرطب وفوائد الرطب أجرى مقارنة بين التمر وبين التين والزيتون، أيهما أنفع؟ ولماذا أقسم الله بالتين والزيتون؟ هل التين والزيتون أفضل؟ العلماء لهم كلام في هذا ومقارنات وأقوال، بعضهم يفضل هذا وبعضهم يفضل هذا، والقسم لا يكون إلا بمعظم، فابن القيم توسط بين القولين، فقال: إن الرطب والتمر أفضل في البلاد الحارة، وأما البلاد الباردة فلأنفع هو التين والزيتون هكذا ذكر، لكن على هذا الاستنباط فإن هذا يدل على أن الرطب أفضل إلا إذا قال ابن القيم -رحمه الله- هذا في قضية خاصة، وهي للنفساء فقط، وليس على سبيل الإطلاق فهذا مثل الدواء، نعم فيكون للنفساء في أي مكان والعلم عند الله .
قوله: إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمَنِ صَوْماً} المقصود بالصوم هنا الصوم عن الكلام، وأن هذا كان جائز في شريعتهم، وأما في هذا الشريعة فلا يشرع ذلك ولا يتعبد لله به وتعرفون الخبر الثابت عن النبي ﷺ، الرجل الذي يقال له: أبو إسرائيل لما رآه النبي ﷺ وهو يخطب وقفاً في الشمس فسأل عنه، فقالوا: "إنه نذر أن يصوم ويقف ولا يجلس ولا يستظل، فأمره أن يجلس وأن يستظل، ..."[1].
فلا يشرع الصمت قصداً على سبيل القربة والتعبد، لهذا الحديث، لأن الله لا يتعبد له بذلك، ومما يفسر ذلك أن المقصود به الصوم هنا الصوم عن الكلام ما جاء في رواية أبي وهي ليست متواترة، إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، صوما صمتا، صوما صمتا تفسير، وجاءت هذه القراءة عن أنس، وجاء عن أنس: صوماً وصمتا، فالقراءة الثانية محتملة أن تكون الواو عاطفة عطف تفسير، ويحتمل أن تكون عطف مغايرة، بحيث أن تصوم عن الطعام والشراب وأيضاً عن الكلام، إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، ومما يدل على أنها قصدت الكلام أنها أشارت إليه فلم تتكلم، والله أعلم.
وقوله: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا، مفهوم المخالفة أنها تكلم غير الإنسي، فتكلم مثلاً الملك.
لو نذر أحد ألا يتكلم لا يفي بنذره، سواء قلنا بأن النذر كما يقوله كثير من أهل العلم إنما يكون في أمر على سبيل القربة، ولا يكون في مباح فضلاً عن المكروه أو الحرام، فمن نذر في غير قربة فليس بشيء، ومن يقول إن الشيء المباح يدخل في النذر كأن يقول الإنسان: أنا عليّ نذر إذا نجحت أن أعمل حفلة في المدرسة مثلاً، حفلة لأصدقائي ما يقصد التقرب، فبعض أهل العلم يقول: يلزمه هذا، لكن الكلام في النذر يعتبر فيه بدعة ومخالفة، أمر غير مشروع فهذا لا يفي به، لكن الخلاف بين أهل العلم هل يجب عليه الكفارة أو لا يجب؟
فمن أهل العلم كالإمام مالك وطائفة من يقول: أنه لا يجب عليه؛ لأن النبي ﷺ لم يذكر الكفارة، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه؛ لأنه لم يقل: وليكفر عن يمينه، وبعضهم يقول: حال هذا حال سائر النذر، بأن فيه كفارة يمين أخذاً من إطلاق ذلك في الأحاديث الواردة عن النبي ﷺ.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [سورة مريم:27-33].
يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك وأن لا تكلم أحداً من البشر، فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها، فسلمت لأمر الله واستسلمت لقضائه، فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله، فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جداً، وقالوا: يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً، أي أمراً عظيماً، قاله مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد.
وروى ابن أبي حاتم عن نوف البكالي قال: وخرج قومها في طلبها، قال: وكانت من أهل بيت نبوة وشرف فلم يحسوا منها شيئاً، فلقوا راعي بقر فقالوا: رأيت فتاة كذا وكذا نعتها؟ قال: لا ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره منها قط، قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيتها الليلة تسجد نحو هذا الوادي.
قال عبد الله بن زياد: وأحفظ عن سيّار أنه قال: رأيت نوراً ساطعاً فتوجهوا حيث قال لهم، فاستقبلتهم مريم، فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها، فجاؤوا حتى قاموا عليها قالوا: يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً أمراً عظيماً.
قوله:وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يفترينه بين أيديهن وأرجلهن [سورة الممتحنة:12]، المقصود أنها لا تقارف فاحشة فيحصل لها الحمل فتنسب ذلك إلى غير من حملت منه، تنسبه إلى زوجها مثلاً، ويدخل فيه معانٍ أخر قد يشملها ظاهر الآية، مثل التي تتفق مع القابلة الممرضة أنه إذا صار المولود بنت فزوجها يريد أن يطلقها إذا أنجبت بنتاً، فتطلب منها أن تبدلها ولداً، ففي المستشفيات تلد النساء فيه عدد كثير في اليوم الواحد، فما على القابلة إلا أن تضع هذا السوار بيد هذا بدلاً من هذه وتكتب عليه، ومن يسألها بعد ذلك فتبدل لها ذكراً ببنتها، وهذا داخل في قوله: وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ.
والفري هو الشيء المختلق المفتعل، الأمر الشنيع غير معهود من أهل الصلاح والتقوى، ولهذا قالوا لها: يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء.
يَأُخْتَ هَارُونَ، أي يا شبيهة هارون في العبادة، مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمّكِ بَغِيّاً أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟
قال علي بن أبي طلحة والسدي: قيل لها: يَأُخْتَ هَارُونَ أي أخي موسى، وكانت من نسله كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللمضري يا أخا مضر، وقيل: نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون، فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة.
المعاني التي ذكرها الحافظ ابن كثير رحمه الله في قوله: يَأُخْتَ هَارُونَ، بأنها كانت من نسله فنسبت إليه كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، هذا من ناحية اللفظ محتمل، ولكن الحديث دل على أن المراد غير هذا فالمغيرة ابن شعبة لما ذهب إلى نجران وسألوه عن هذه الآية، والنصارى قالوا: يا أخت هارون وبينها وبين هارون مدة طويلة، بعضهم يقدر المدة بنحو ستمائة سنة، فيكف قال: يا أخت هارون فلم يجبهم فلما رجع إلى النبي ﷺ وسأله، أخبره النبي ﷺ أنهم يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم، إذاً هارون ليس المراد به هارون النبي -عليه الصلاة والسلام، وإنما رجل صالح في ذلك الوقت يقال له: هارون، عرف بالصلاح والزهد.
فقوله: يَأُخْتَ هَارُونَ، أي: يا شبيهة هارون في الزهد والعبادة والتقى والصلاح، وبعضهم يقول: بأنه أخ لها لأبيها، وهذا يحتمل لكن ليس عندنا دليل يثبت هذا، والحديث دل على أنه معاصر لها، وليس المقصود به النبي -عليه الصلاة والسلام، وبعض أهل العلم من يقول: إنهم كانوا يقولون لمن كان من أهل الصلاح: هارون، كما يقول ابن جرير -رحمه الله.
وقوله: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً أي: إنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها، وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية، وقد كانت يومها ذلك صائمة صامتة، فأحالت الكلام عليه، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه، فقالوا متهكمين بها ضانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً، قال ميمون بن مهران: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قالت كلموه، فقالوا: على ما جاءت به من الداهية تأمرنا أن نكلم من كان في المهد صبياً.
وقال السدي: لما أشارت إليه غضبوا وقالوا: لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها، قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً أي: من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره، كيف يتكلم؟ قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لربه.
وقوله: آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة.
عبر بالفعل الماضي في قوله: آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً فبعض العلماء يقول: ليس كذلك عبر بالفعل الماضي عن المستقبل لتحقق الوقوع، وإنما آتاه الله النبوة والكتاب بعد ذلك، كما قال الله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [سورة النحل:1]، مثل وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ [سورة النمل:87] فهذا عن أمر مستقبل عبر به بالماضي وهذا كثيرة في القرآن.
آتاني الكتاب يعني حكم لي بذلك بإيتاء الكتاب والنبوة.
قال نوف البكالي: لما قالوا لأمه ما قالوا، كان يرتضع ثديه، فنزع الثدي من فمه واتكأ على جنبه الأيسر وقال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [سورة مريم:30] إلى قوله: مَا دُمْتُ حَيًّا [سورة مريم:31]، وقوله: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ قال مجاهد وعمرو بن قيس والثوري: وجعلني معلماً للخير، وفي رواية عن مجاهد: نفاعاً.
وروى ابن جرير عن وهيب بن الورد مولى بني مخزوم قال: لقي عالم عالماً، هو فوقه في العلم، فقال له: يرحمك الله ما الذي أُعلن من عملي؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده، وقد أجمع الفقهاء على قول الله: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وقيل: ما بركته؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان.
قوله: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ "قال عن مجاهد وعمرو بن قيس والثوري جعلني معلماً للخير"، وهذا اختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- بأن تعليم الخير هو البركة، وأن الله هكذا أيضاً وصف كتابه بأنه مبارك وهو الذي يستقى منه العلم والهدى وما إلى ذلك.
فالذي يعلم الناس الخير هو ينشر الهدى ويحصل به النفع للناس في العاجل والآجل، وجعلني مباركاً هنا يقول: عن مجاهد: "نفاعاً" يعني ينفع حيث وجد، وبعضهم قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن هذا من قبيل اختلاف التنوع، من قبيل التفسير بالمثال، فالمبارك من أهل العلم من يقول: إن أصله من بروك البعير، فهو يدل على الثبات والاستقرار، وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أي ثابتاً على دين الله لا أتلون ولا أتقلب، كل مرة بجلد جديد، ووجه جديد، ورأي جديد، ومذهب جديد، هكذا قال بعضهم.
وبعضهم يقول وهم الأكثر: بأن البركة بمعنى النماء، والزيادة فبعضهم يقول: معناه جعلني عالياً في ازدياد أينما كنت، فحيث ما حل فهو في زيادة، وابن القيم رحمه يقول: من استوي يوماه فهو مغبون، ومن لم يكن إلى زيادة فهو حتماً إلى نقصان، فيزداد في كل يوم جديداً من العمل الصالح والعلم النافع، والعطاء والخير فهذا المبارك، يعني كثير البركة، فنفعه عام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعليم وما يبذله وما يقدمه للناس فيحصل لهم ألوان المنافع، كل هذا داخل فيه.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله: في قوله تعالى: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ: "قال سفيان ابن عيينة جعلني مباركاً أينما كنت قال: معلماً للخير، وهذا يدل على أن تعليم الرجل الخير هو البركة التي جعلها الله فيه، فإن البركة حصول الخير ونماؤه ودوامه وهذا في الحقيقة ليس إلا في العلم الموروث عن الأنبياء، وتعليمه؛ ولهذا سمى سبحانه كتابه مباركاً كما قال تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ [سورة الأنبياء:50]، وقال: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ [سورة ص:29]، ووصف رسوله بأنه مبارك كما في قول المسيح: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ فبركة كتابه ورسوله هي سبب ما يحصل بهما من العلم والهدى، والدعوة إلى الله"[2].
والمعنى -والله أعلم- أوسع من هذا، حتى بركة القرآن أوسع من هذا، بركة القرآن ليس فقط في العلم، وإنما حتى في طب الأبدان وما يحصل من البركة للمشتغلين أيضاً به، ولهذا قال بعض أهل العلم: اشتغلنا بالقرآن فغمرتنا البركات، وهذا شيء مشاهد، وإذا أردت أن تعرف أثر القرآن وبركة القرآن انظر إلى مناشط النساء في التحافيظ وما فيها من البركة، الأعمال التي لا تستطيع أن تفسرها إلا ببركة القرآن، وانظر إلى عمل غيرهم، فهذا كتاب مبارك من اشتغل به ودعاء إليه وتعلمه غمرته البركات.
هذه حجة على أهل القدر، الذين يقولون الإنسان يخلق فعله، فعيسى ﷺ يخبر عن حاله وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ، وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً، والزكاة بعضهم يقول: هي زكاة المال، باعتبار أن هذا هو الظاهر المتبادل لاسيما إذا قرنت مع الصلاة فإنها تأتي بمعنى زكاة المال، وبعضهم يقول: هي زكاة النفس؛ لأن عيسى ﷺ لم يكن يدخر شيئاً، فيكف يزكي، إلا إذا قصد بذلك الصدقة -فالله تعالى أعلم، أوصاه الله بالصلاة والزكاة إذا كان عنده ما يزكي به، وكون عيسى ﷺ ما كان يدخر شيء هذا من المنقول عن بني إسرائيل -فالله أعلم.
وقوله: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي [سورة مريم:32] أي وأمرني ببر والدتي، ذكره بعد طاعة الله ربه؛ لأن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين، كما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [سورة الإسراء:23]، وقال: أَنِ اشْكُرْ لِي [سورة لقمان:14]، وقوله: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً أي ولم يجعلني جباراً مستكبراً عن عبادته وطاعته وبر والدتي، فأشقى بذلك.
وقوله: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً إثبات منه لعبوديته لله ، وأنه مخلوق من خلق الله، يحيى ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد، صلوات الله وسلامه عليه.
قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً، المقصود به الأمن والدعاء بالسلامة، وأن هذه المواطن الثلاثة أحوج ما يكون الإنسان فيها إلى الأمن، وبعضهم قال المراد به التحية، والله تعالى أعلم.
- رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، برقم (6326).
- مفتاح دار السعادة، للإمام ابن القيم الجوزية (1/174).