بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [سورة مريم:46-48].
يقول تعالى مخبراً عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه أنه قال: أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ يعني إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها، فانته عن سبها وشتمها وعيبها، فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصت منك وشتمتك وسببتك، وهو قوله: لأرْجُمَنّكَ قاله ابن عباس -ا- والسدي وابن جريج والضحاك وغيرهم.
وقوله: وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن إسحاق: يعني دهراً، وقال الحسن البصري: زماناً طويلاً، وقال السدي: وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قال: أبداً، وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس -ا: وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قال: سوياً سالماً قبل أن تصيبك مني عقوبة، وكذا قال الضحاك وقتادة وعطية الجدلي، ومالك وغيرهم، واختاره ابن جرير.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، أما بعد:
فقوله: لأرْجُمَنّكَ فسره هنا بالشتم والسب، والرجم يأتي بهذا المعنى، ومن ذلك قولنا: الشيطان الرجيم، أن الرجيم فعيلٌ يمكن أن يكون بمعنى فاعل، أي أنه راجم، يرجم الناس بالوساوس والأفكار والخواطر السيئة، ويمكن أن يكون بمعنى مرجوم، أي أنه يرجم بالسب، والشتم، والطرد، واللعن، وما أشبه ذلك.
والذي عليه عامة المفسرين بأن المعنى لأرْجُمَنّكَ أي بالقول بالسب، والشتم، وما إلى ذلك، يعني أنه يسمعه ما يكره، وتحتمل معنى آخر وهو أن يكون الرجم بالحجارة، وقد يكون هذا هو المتبادر الذي يسبق إلى الذهن؛ ولهذا فسره بعض أهل العلم كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، باعتبار أن معاني القرآن تحمل على الظاهر المتبادر الذي يسبق إلى الأذهان، وقال: وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قول من قال بأن المقصود به دهراً، وقول من قال: زمنا طويلا، هذا معنى واحد، فهما قولان.
وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً أي: اهجرني زمناً طويلاً، والمعنى الآخر وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً أي: ابتعد وأنت سالم حتى لا يصيبك مني مكروه.
فعندما قال إبراهيم لأبيه: سَلاَمٌ عَلَيْكَ، كما قال تعالى في صفة المؤمنين: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً، وقال تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ، ومعنى قول إبراهيم لأبيه سَلاَمٌ عَلَيْكَ يعني أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى؛ وذلك لحرمة الأبوة، سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ولكن سأسأل الله فيك أن يهديك ويغفر ذنبك، إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا، قال ابن عباس وغيره: لطيفاً، أي في أن هداني لعبادته والإخلاص له.
وقال السدي: الحفي الذي يهتم بأمره، وقد استغفر إبراهيم ، لأبيه مدة طويلة وبعد أن هاجر إلى الشام، وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق -عليهما السلام- في قوله: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [سورة إبراهيم:41]، وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام، وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ [سورة الممتحنة:4] الآية، يعني إلا في هذا القول، فلا تتأسوا به.
ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه، فقال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ -إلى قوله- وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [سورة التوبة:113، 114]، وقوله: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أي: أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، وَأَدْعُو رَبِّي أي: وأعبد ربي وحده لا شريك له، عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً وعسى هذه موجبة لا محالة، فإنه سيد الأنبياء بعد محمد ﷺ.
قوله: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي يقول الحافظ -رحمه الله: "يعني أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى"، يعني بمعنى سلام عليك، أي أمنة لك، فيكون المراد معنى السلام وليس التحية، فإنك حينما تقول لإنسان السلام عليكم، قيل: هذا إخبار أنك تؤمنه، وقيل: دعاء تدعو له بالسلامة.
والأقرب والله أعلم- أنه يجمع الأمرين هو من جهتك إخبار لك منه بالأمان، ومن جهة أخرى هو دعاء له بالسلامة، وهذا يقال في الكلام في اسم الله السلام، فإنه السالم من كل عيب ونقص، وبعضهم قيده بالمستقبل من أجل أن يكون القدوس، أو السالم من كل عيبٍ ونقصٍ في الماضي والحاضر، ومن معانيه أيضاً السلام الذي سلَّم خلقه، وسلموا من ظلمه إلى غير ذلك من المعاني.
ويمكن أن يكون المراد به أي أمنة لك مني لا يصلك مني شيئاً تكرهه. أبوه توعده بالرجم، وطالبه بالهجر وهو يقول: سلام عليك، أي أمنة لك مني لا ينالك مني ولا يصلك مكروه. والمعنى الثاني وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين، سلام عليك: يعني التحية، أن المقصود به التحية تحية توديع ومتاركة، بمعنى أن الجاهل من الناس كما قال الله : وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [سورة الفرقان:63]، فهم لا يقفون معهم، ولا ينزلون إلى حدهم، ولا يبادلونهم الإساءة بالإساءة، وإنما يُعرضون ويترفعون، فيكون بمعنى تحية التوديع والمتاركة سلامٌ عليكم.
ويحتمل أن يقال فيه كما سبق بمعنى الأمنة، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "أما أنا فلا ينالك مني مكروه، ولا أذى"، وهذا الذي اختاره ابن كثير -رحمه الله، واختاره من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، ويقول: عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً، قيل: يعني لا يخيب دعائي، وبعضهم يقول: عاصيا، وهذا الدعاء قال بعضهم: أدعو ربي أن يهب لي الولد، يعني الذي يكون فيه العوض والسلوة عنكم بعد فراقكم، ولهذا وهبه الله إسماعيل وإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب -عليهم الصلاة والسلام، وبعضهم يقول: أدعو ربي، يعني لأبيه بالهداية.
والله أطلق ذلك، والدعاء تارة يراد به دعاء العبادة، وتارة يراد به دعاء المسألة، وبينهما ملازمة، فكل داعٍٍ دعاء عبادة بصلاته ونحو ذلك، فهو سائل وطالب يطلب الأجر، وكل من رفع يديه يدعو ربه ويسأل فهو في هذا عابد، فإن الدعاء عبادة من أجل العبادات.
فقوله: وَأَدْعُو رَبِّي يمكن أن يحمل على المعنيين، أدعو ربي أي أعبد ربي وأسأل ربي، ولم يحدد الله -تبارك وتعالى- شيء فهو يسأل ربه من خير الدنيا والآخرة، وعَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا بسؤاله أو بعبادته شقياً، وقول الحافظ بن كثير -رحمه الله: "وعسى هذه موجبة لا محالة، فإنه سيد الأنبياء بعد محمد ﷺ".
فـ"عسى" التي يذكرها العلماء كما جاء عن ابن عباس وغيره عسى من الله واجبة، يعني إذا كانت في وعد الله، وفي كلامه هو -تبارك وتعالى- ليست من كلام أحد من المخلوقين هذه التي يقولون عنها بأنها واجبة، يعني متحققة الوقوع، قالوا هذا جرياً على لغة العرب، فالعظيم إذا أراد أن يعد عِدة فإنه يخرج ذلك مخرج الترجي، فيقول: عسى أن يحقق لك ما أردت، وهو يقصد الوعد الجازم، وهذه عسى التي تكون من الله، فإذا صدرت من مخلوق مثل هنا عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا الأصل أنها ليست واجبة؛ لأن الذي بيده مقاليد الأمور ويملك السعادة، وخلاف السعادة هو الله -تبارك وتعالى، ولهذا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال بأن ذلك موجبُ لأنه سيد الأنبياء بعد محمد ﷺ، يقصد أن دعائه أو رجائه مستجاب، عسى ألا أكون، أرجو ألا أكون بدعاء ربي شقيا، فكذلك هو لن يشقى بدعاء ربه، باعتبار أن دعاء النبي مجاب، ولو قيل بأنه دعاء بالهداية فإن ذلك لم يتحقق، أو استغفر له، ولو قلنا بأن المقصود وأدعو ربي أي لك بالمغفرة، فالله -تبارك وتعالى- نهاه عن هذا، ولا يوجد دليل على أن الدعاء كان بالهداية والمغفرة.
فـ"عسى" من الله ليس المقصود إذا وردت في القرآن، وإنما إذا كانت صادرة من الله بوعده هو عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الممتحنة:7]، هنا القلوب بين أصعبين من أصابعه -تبارك وتعالى.
والأسلوب في كلام إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مع أبيه لأهل العلم كلام كثير عليه، وفيه الأدب في المخاطبة مع الكبير سواء كان والداً أو معلماً أو عالماً أو كان أميراً، رئيس قبيلة، أو نحو ذلك، فخطاب مثل هؤلاء ينبغي أن يكون بأدب ولطف، والله قال لموسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا [سورة طه:44]، وذلك هو الأدعى إلى القبول.
وللإمام ابن القيم الجوزية -رحمه الله- كلاما قيما في مخاطبة إبراهيم أباه حيث قال: "قول إبراهيم الخليل لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [سورة مريم:42] ابتدأ خطابه بذكر أبوته الدالة على توقيره ولم يسمه باسمه، ثم اخرج الكلام معه مخرج السؤال فقال: لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ولم يقل لا تعبد، ثم قال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [سورة مريم:43]، فلم يقل له إنك جاهل لا علم عندك بل عدل عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدل على هذا المعنى فقال: جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ، ثم قال: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً، وهذا مثل قول موسى لفرعون: وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ [سورة النازعات:19].
ثم قال: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً [سورة مريم:45]، فنسب الخوف إلى نفسه دون أبيه، كما يفعل الشفيق الخائف على من يشفق عليه، وقال: "يمسك" فذكر لفظ المس الذي هو ألطف من غيره، ثم نكر العذاب، ثم ذكر الرحمن ولم يقل الجبار، ولا القهار، فأي خطاب ألطف وألين من هذا، ونظير هذا خطاب صاحب يس لقومه حيث قال: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة يس:20-22]، ونظير ذلك قول نوح لقومه: يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى [سورة نوح:2-4].
وكذلك سائر خطاب الأنبياء لأمتهم في القرآن، إذا تأملته وجدته ألين خطاب وألطفه، بل خطاب الله لعباده ألطف خطاب، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:21]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ يدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [سورة الحج:73]، وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [سورة فاطر:5]، وتأمل ما في قوله تعالى ذكره: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [سورة الكهف:50] من اللطف الذي سلب العقول، وقوله: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [سورة الزخرف:5] على أحد التأويلين، أي نترككم فلا ننصحكم ولا ندعوكم ونعرض عنكم إذا أعرضتم أنتم وأسرفتم"[1].
ومثل هذا يحتاج إليه في التعليم، والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرد على المخالفين إذا كان المقصود بذلك هو دعوتهم واستمالت قلوبهم، وتقريبهم إلى الحق، وصرفهم عن الباطل، إذا كان هذا المقصود فلا بد أن يكون بطريقة تأخذ بمجامع القلوب، وتستميل النفوس، ولا يجدون فيها ما ينفرهم.
أما إذا كان المقصود كسرهم وبيان عوارهم وجهلهم للناس، وليس المقصود هو دعوتهم فمثل هذا يمكن يستعمل فيه أسلوب القسوة، ولهذا موسى -عليه الصلاة والسلام- لما خاطب فرعون بهذا الخطاب اللطيف ولم يُجدِ معه، قال له كلاماً قوياً إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا [سورة الإسراء:102]، فالخطاب يجب أن يكون يخدم الهدف الذي يهدف إليه المتكلم أو الكاتب، ولا ينقضه؛ لهذا قالوا عن ابن حزم -رحمه الله: بأنه يصك صك الجندل وينشق المخالفين الخردل، ويريدهم أن يقبلوا منه، لا يمكن هذا سيما إذا كان المخاطب له منزلة مثل الوالد أو نحوه.
فأحد طلاب الثانوية يقول لأبيه لما خاف عليه فمنعه من صلاة الفجر في المسجد خوفاً عليه، قرأ عليه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114]، وقال: أنت ممن يمنع مساجد الله، ومثل هذا الخطاب لا يليق، وهكذا الذي ينكر على والديه بمنكرات أو بأسلوب فظ غليظ، وبعض الناس يرى أن هذا من القوة في الحق، وأنه لا تأخذه في الله لومت لائم هكذا يظن، وهذا غير صحيح.
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [سورة مريم:49، 50]، يقول تعالى: فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله، أبدله الله من هو خير منهم، ووهب له إسحاق ويعقوب يعني ابنه وابن إسحاق، كما قال في الآية الأخرى: وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً [سورة الأنبياء:72]، وقال: وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [سورة هود:71].
ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب، وهو نص القرآن في سورة البقرة: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [سورة البقرة:133]، ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوب، أي جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء أقر الله بهم عينه في حياته، ولهذا قال: وَكُلاّ جَعَلْنَا نَبِيّاً، فلو لم يكن يعقوب قد نبىء في حياة إبراهيم لما اقتصر عليه ولذكر ولده يوسف، فإنه نبي أيضاً كما قال رسول الله ﷺ في الحديث المتفق على صحته حين سُئل عن خير الناس، فقال: يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله[2].
وفي اللفظ الآخر: إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم[3].
قوله -تبارك وتعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله أبدله الله منه خير منهم"، إلى آخره، وذلك أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
قوله: وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رّحْمَتِنَا بعضهم يقول: الرحمة المقصود بها هنا النبوة، لكن هذا قد يكون تكرار مع ما قبله بأن الله قال: وَكُلاّ جَعَلْنَا نَبِيّاً، ثم يقول: ووهبنا لهم من رحمتنا أي النبوة، فيكون تكراراً، وإلا لا شك أن النبوة رحمة من الله -تبارك وتعالى- لعبده الذي نبأه وهي رحمة أيضاً للخلق أجمعين.
وبعضهم يقول: الرحمة هنا المال، وبعضهم يقول: الولد، فهذه الرحمة تشتمل ألطافه -تبارك وتعالى- بهم وما أعطاهم، وحباهم وسيره لهم من ألوان المحاب والرفعة، إضافة إلى ما ذكره بعده من قوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً، لسان صدق من باب إضافة الموصوف إلى صفته، وقال: يعني الثناء الحسن، "وقال علياً لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم"، فقوله: لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً يعني أنه لسان يعلو، بمعنى أن هذا يلهج به الخلائق، وهو شيء ظاهر فمن الناس من قد يكون له لسان صدق، لكن في بيئة محصورة عند قومٍ معينين، وحينما يكون اللسان صدق علياً معنى ذلك أنه أمر ذائع شائع ظاهر لا خفى فيه.
ولسان الصدق لسان يعبر به عن المقال، ومعنى ذلك أن لسان الصدق يعني ما يقال عنهم من الثناء الجميل، والأوصاف الحميدة الكاملة، ولهج الناس بذكر محاسنهم وفضائلهم، فالله -تبارك وتعالى- ينشر فضائلهم بذلك ويُعلي ذكرهم بلهج الألسن بهذه المحاسن والكمالات، وجعلنا لهم لسان صدق، وأضافه إلى الصدق ليبين أن هذا الثناء ليس بالمدح الزائف، وذكر الأوصاف التي لا حقيقة لها، وإنما هو ذكر بأوصاف حقيقية وكمالات واقعية وليس ذلك مجرد قول يقوله الناس بألسنتهم لا حقيقة له، كما يتمادح كثير من الناس فيما بينهم، ويجامل بعضهم بعضاً، فإذا ذهب ذلك بماله أو بجاهه أو نحو ذلك بطلت تلك الأوصاف والأقوال وتلاشت واضمحلت، لكن إذا كانت هذه الأوصاف حقيقة فإنها تبقى وتدوم وتستمر كما هو الشأن بالنسبة للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأتباع الأنبياء كأصحاب النبي ﷺ فلا زال الناس يذكرون محاسنهم ومناقبهم وأرضاهم.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [سورة مريم:51-53] لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه، عطف بذكر الكليم، فقال: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىَ إِنّهُ كَانَ مُخْلِصاً، قال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع.
عن أبي لبابة قال: قال الحواريون: يا روح الله أخبرنا عن المخلص لله؟ قال: الذي يعمل لله لا يحب أن يحمده الناس، وقرأ الآخرون بفتحها بمعنى أنه كان مصطفى، كما قال تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [سورة الأعراف:144].
الآن قراءة الكوفيين وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي مخلَصا بالفتح، أي مصطفى إن الله استخلص موسى -عليه الصلاة والسلام- واصطفاه من بين أهل زمانه، وأخبر أنه اصطفاه على الناس برسالته وبكلامه له جميعاً، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [سورة القصص:68]، اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [سورة الحج:75]، يعني يختار، فهذا معنى هذه القراءة، بفتح مخلَصا، والقراءة الثانية أيضاً قراءة بقية السبعة مخلِصا يعني متجرداً لله -تبارك وتعالى، يريد وجهه لا يريد شيئاً ولا يلتفت إلى شيء سواه، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي [سورة الزمر:14]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [سورة البينة:5]، فهذا هو الذي أمر به الرسل -عليهم الصلاة والسلام، وأمروا به أتباعهم.
فموسى -عليه الصلاة والسلام- كان مخلِصا وكان مخلَصا، ومن قواعد التفسير أن القراءتين إذا كان لكل قراءة معنى وتعودان على ذات واحدة فإن ذلك يكون من تعدد الأوصاف لتلك الذات، فموسى -عليه الصلاة والسلام- كل ذلك يرجع إليه، فتكون القراءة الأولى تصفه بالإخلاص، والقراءة الثانية تصفه بأنه مخلص أي مصطفى، اصطفاه الله على الناس.
قوله: وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً في موسى -عليه الصلاة والسلام، ولما ذكر الله -تبارك وتعالى- إسحاق ويعقوب قال: وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا، ولما ذكر إسماعيل قال: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا، ولما ذكر بعد ذلك إدريس -عليه الصلاة والسلام- قال: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا [سورة مريم:56] ولم يذكر الرسالة فيفهم من هذا أن هؤلاء الذين لم تذكر رسالتهم لا في هذه الآية ولا في موضع، أن من لم تذكر رسالتهم لا في هذه السورة ولا في موضع أخر أنه يكون نبياً وليس برسول، وهذا يبين أن قول من قال بأن كل الذين ذكروا في القرآن رسل فيه نظر.
ويبين غلط من قال: بأن النبي هو الرسول وأن التفريق بين النبي والرسول إنما هو من قول بعض المتأخرين وهذا الكلام غير صحيح إطلاقاً، هذه الآيات تدل على هذا، والله يقول: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [سورة الحج:52]، من رسول ولا نبي، ففرق بين هذا وهذا، وفي حديث أبي ذر ذكر عدد الأنبياء[4]، وعدد المرسلين، وكل هذا يدل على التفريق.
وفي كتب التفسير يذكر المفسرون أقوالاً يفرقون فيها بين الرسول والنبي، مثل تفسير ابن جرير، والدر المنثور، وكذلك أيضاً يوجد في بعض كتُب من كتَب في الفروق مثل أبي هلال العسكري أوائل القرن الرابع الهجري، وغيره، وليس أول من جاء به شيخ الإسلام أو أنه ما عرف إلا في القرن السابع الهجري، أو الثامن الهجري ليس بصحيح، وإن اختلفوا في الفرق بين النبي وبين الرسول فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يرى أن النبي أرسل أو نبأه الله فهو يدعو إلى شريعة من قبله في قومه.
وأما الرسول فيكون أرسل إلى قوم من الكافرين يدعوهم إلى الإسلام، فيوسف -عليه الصلاة والسلام- كان رسولاً؛ لأنه كما أنه نبي لبني إسرائيل فقد أرسل أيضاً للفراعنة؛ لأن مؤمن آل فرعون قال: وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا [سورة غافر:34]، وإسماعيل -عليه الصلاة والسلام- ذكر الله له الوصفين هنا أنه رسول وأنه نبي، فيكون أرسل إلى جرهم الذين نزلوا مكة وهكذا، هذا على قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله.
وأما المشهور الذي تتداوله الألسن يقولن النبي هو الذي أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، فهذا باطل تماماً، هذا مثل القول المشهور بأن آخر آية نزلت: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[سورة المائدة:3]، وهذا من أبطل الأقوال، أو قول من يقول بأن المعجزة هو أمر خارق للعادة يقصد به التحدي، على سبيل التحدي، هذا على اشتهار هذا القول؛ لأنه قول المتكلمين من الاشاعرة ونحوهم.
فهذا التفريق غير صحيح، وبعضهم يقول الرسول هو الذي أنزل إليه كتاب، والنبي لم ينزل إليه كتاب، وبمعنى أنه جاء بشريعة جديدة، والنبي لم يأت بشرع جديد -والله أعلم.
قوله: وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، الأيمن يعني على يمين موسى وليس على يمين الجبل، هذا الذي ذكره المفسرون، لا أعلم أحداً قال بخلاف هذا، بل صرحوا به كابن جرير -رحمه الله- بأن الجبل لا يقال له يمين ويسار فلا يمين ولا شمال، وإنما على يمين موسى ﷺ، الجانب الأيمن جانب الطور الأيمن يعني الذي على يمين موسى ﷺ.
حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة فرآها تلوح، فقصدها فوجدها في جانب الطور الأيمن منه غربيه عند شاطئ الوادي، فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه.
وقوله: وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً [سورة مريم:53] أي: وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه، فجعلناه نبياً، كما قال في الآية الأخرى: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [سورة القصص:34]، وقال: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [سورة طه:36]، وقال: فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [سورة الشعراء:13، 14] ولهذا قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبياً، قال الله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً.
ما وهبه الله من الرحمة مبين بنبوة هارون -عليه الصلاة والسلام، ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيًّا، وهناك ووهبنا له من رحمتنا وأطلق، فالله أعطاهم النبوة وذكرها قبل ذلك قال: وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا، وقال: وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رّحْمَتِنَا، فيشمل ألوان المواهب الربانية التي أعطاهم الله إياها وهنا قيده بالنبوة فلا تفسر تلك الآية التي أطلق الله فيها بهذه الآية المقيدة هنا، فأطلقه هناك، وقيده وبينه هنا.
وقوله: وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً، فهذا لا شك أنه من رحمة الله ؛ ومعروف أن كلام أهل السنة والجماعة أن النبوة موهبة من الله لا يحصلها العبد بكسبه، فالله يختار في أكمال الناس كما قال النبي ﷺ في حديث واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم[5]، فالنبي ﷺ هو خلاصة الناس، وموسى -عليه الصلاة والسلام- اصطفاه الله.
فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كما في حديث أبي سفيان مع هرقل إنما يكون اختيارهم من أوسط قومهم، وأكملهم، ولهذا العلماء يذكرون أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لا يوجد فيهم عاهات، وإعاقات تجعل الناس ينفرون منهم وينقبضون من رؤيتهم ونحو ذلك، ولهذا في مسألة مجي الولد العلماء يقولون أن عدم مجيء الولد للإنسان ليس نقصاً يعاب فيه، وقالوا: هذا لا يرد به النكاح، فلو تزوج رجل امرأة ثم تبين له أنه عقيم، لا يجب عليه أن يخبرها بهذا ولا أن يخيرها، إن شئت بقيت ولا يكون ظالماً لها، فعصمتها بيده، وهو زوجها، وليس ذلك من العيوب التي يرد بها النكاح، فإن أراد أن يتفضل هو عليها ويقول لها: لا تبقي معي إن كنت لا ترغبين فيَّ، فالأطباء يقولون: بأنه لا يولد لمثلي ونحو هذا، فهذا تفضل منه، لكن لا يجب، وليس بنقصٍ ولا بعيبٍ يعاب فيه، ولهذا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مثل زكريا رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا [سورة الأنبياء:89]، ما كان يولد له، وما ولد له إلا بعد ما بلغ من الكبر عتياً، وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ولد له إسماعيل بعد ما جاوز، حتى إن امرأته قالت لما بشرت بإسحاق: أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ[سورة هود:72]، فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ليس فيهم مثل هذه العيوب التي تكون قادحاً، ومنفرة وإنما هم أكمل الناس -عليهم الصلاة والسلام.
- بدائع الفوائد، للإمام ابن القيم الجوزية (4/207-209).
- رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ - إلى قوله - وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:133]، برقم (3194)، من حديث أبي هريرة .
- رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [سورة البقرة:133]، برقم (3202)، من حديث عمر بن الخطاب .
- عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله ﷺ وهو في المسجد فجلست، فقال: يا أبا ذر، هل صليت؟، قلت: لا، قال: قم فصل، قال: فقمت فصليت ثم جلست، فقال: يا أبا ذر، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن، قال: قلت: يا رسول الله، وللإنس شياطين؟ قال: نعم، قلت: يا رسول الله، الصلاة؟ قال: خير موضوع، من شاء أقل، ومن شاء أكثر، قال: قلت: يا رسول الله، فالصوم؟ قال: قرض مجزئ، وعند الله مزيد، قلت: يا رسول الله، فالصدقة؟ قال: أضعاف مضاعفة، قلت: يا رسول الله، فأيها أفضل؟ قال: جهد من مقل، أو سر إلى فقير، قلت: يا رسول الله، أي الأنبياء كان أول؟ قال: آدم، قلت: يا رسول الله، ونبي كان؟ قال: نعم نبي مكلم، قال: قلت: يا رسول الله، كم المرسلون؟ قال: ثلاث مائة وبضعة عشر، جما غفيرا، وقال مرة: خمسة عشر، قال: قلت: يا رسول الله، آدم أنبي كان؟ قال: نعم، نبي مكلم، قال: قلت: يا رسول الله، أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي: اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة البقرة:255] رواه أحمد في المسند برقم (21546)، وقال محققوه: إسناده ضعيف جداً؛ لجهالة عبيد بن الخشخاش، ولضعف أبي عمر الدمشقي، والحاكم في المستدرك برقم (3039)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وصححه الألباني مختصراً في تحقيقه مشكاة المصابيح برقم (5737).
- رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2276).